الاقتصاد الروسي وكيف تصنع روسيا أموالها؟
تبلُغ مساحة روسيا أكثر من ضعف حجم الولايات المتحدة الأمريكية المتجاورة البالغ عددها 48 ولاية، مع تعداد سكاني متعلم، وثروة طبيعية أكثر بكثير مما تتوقع أن تجده في منطقة شاسعة تصل إلى 6.6 مليون ميل مربع؛ ألا ينبغي أن تكون هذه الأمة موضع حسد العالم وقوته العظمى بلا منازع؟!
ومع ذلك، يأتي الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في المرتبة 11 على مستوى العالم، وفقًا لأرقام صندوق النقد الدولي. كيف إذن تجني روسيا أموالها، ولماذا لا تحقق المزيد؟
إن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا يصل إلى 1.64 تريليون دولار، ويعتمد الاقتصاد الروسي على تصدير النفط والغاز الطبيعي، وكلاهما يخضع لسيطرة الحكومة الروسية، يضع هذا النقص في التنويع الاقتصادي روسيا في وضع غير مطمْئِن عندما ينخفض الطلب على منتجات الطاقة، مما يؤدي بعد ذلك إلى انكماش الاقتصاد الروسي.
فلم يُترجم الاقتصاد الروسي الذي يعتمد بشكل أساسي على استخراج الموارد من الأرض إلى ثروة عامة كبيرة لمواطنيها البالغ عددهم 144 مليون نسمة.
تتمتع روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي ظاهريًا باقتصاد السوق الحر، ولكن يعتبر قادتها أن قطاع الطاقة المهيمن فيها بالغ الأهمية بحيث لا يمكن تركه لنزوات المشترين والبائعين المستقلين، لهذا فإن النفط، والغاز الطبيعي، والكهرباء وغيرها تخضع لسيطرة الحكومة الفيدرالية بحكم الأمر الواقع، فمثلًا: تمتلك الحكومة الروسية أكثر من نصف شركة غازبروم، وهي أكبر شركة لاستخراج الغاز الطبيعي في العالم، وتعد البلاد ثالث أكبر مُنتِج للنفط في العالم، بعد الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.
أقسمت الطبقة السياسية الروسية على استعادة مكانة الأمة السابقة (ناهيك عن أراضيها السابقة)، حيث سعت الحكومة الروسية للاستفادة من الفرص لغزو أو السيطرة على أراضي جيرانها الأضعف، الذين كانوا في يوم من الأيام جزءًا من الاتحاد السوفيتي؛ فكانت جورجيا في عام 2008، ثم كانت الجائزة الأكبر: أوكرانيا في عام 2014.
جاءت هذه المحاولات بثمن اقتصادي باهظ لروسيا، فلقد فرضت الولايات المتحدة ودول أخرى عقوبات اقتصادية على روسيا بعد غزو أوكرانيا في عام 2014، وتسببت التوترات الجيوسياسية المتصاعدة إلى إضعاف طلب المستثمرين على الاستثمارات الروسية، وأدت هذه العوامل، إلى جانب التضخم المرتفع، والانخفاض الحاد في أسعار النفط في أواخر عام 2014، إلى انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 3.7٪ بنهاية عام 2015.
لا يكون اقتصاد دولة كبيرة متحملًا للصدمات الاقتصادية خاصة إذا ما كان اقتصاد ريعي لدرجة أن ثلثي صادراتها إما نفط أو نواتج التقطير. وقد أصبح هذا أكثر وضوحًا بالنسبة لروسيا في أوائل عام 2020 أثناء جائحة كورونا، حيث شهدت البلاد انخفاضًا آخر في الطلب على صادراتها من النفط والغاز نتيجة الحجر الصحي، وحرب أسعار النفط السعودية الروسية، لذا فإن أنشطة التصدير ذات القيمة الوحيدة تعمل تحت رحمة تحركات الأسعار العالمية.(1)
العقوبات الاقتصادية على روسيا
تعريف العقوبات الاقتصادية
تَحِد العقوبات من مجموعة من الفرص الاقتصادية والتجارية، غالبًا ما تشمل تأشيرات السفر المجمدة، والحسابات المصرفية، ويمكن إصدارها ضد الأفراد، والبنوك، والمؤسسات، والحكومات، والكيانات الأخرى، وتستخدم كأداة ضغط في السياسة الخارجية.
يمكن أن تكون العقوبات واسعة النطاق؛ مثل الحظر المفروض على كوبا، أو محددة الهدف على الجهات الفعالة؛ وهو نهج مفضل على نطاق واسع في العقود الأخيرة، فعندما تُصدر الولايات المتحدة عقوبات ضد شخص أو كيان؛ يُمنع الأمريكيون والشركات الأمريكية من التعامل معها، وقد تذهب العقوبات إلى أبعد من ذلك؛ حيث تمنع الأمريكيين من التعامل مع أطراف ثالثة في أعمال تجارية مع الهدف.
يتمتع كل من رئيس الولايات المتحدة والكونغرس بسلطة إصدار عقوبات، ويسمح قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية لعام 1977 للرئيس بالقيام بذلك بسهولة نسبية.(2)
العقوبات الأمريكية على روسيا
مرت روسيا بالعديد من العقوبات الاقتصادية منذ 2014، التي بدأت في التشديد في ظل إدارة أوباما، ردًا على الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم التي كانت جزءًا من الأراضي الأوكرانية، وفرض الرئيس دونالد ترامب أكثر من 40 جولة من العقوبات على روسيا وفقًا لمركز كارنيجي في موسكو.(2)
العقوبات الأوروبية على روسيا
فرض الاتحاد الأوروبي بشكل تدريجي إجراءات تقييدية ضد روسيا منذ مارس 2014، واتُخذت هذه التدابير ردًا على الضم غير القانوني لشبه جزيرة القرم وزعزعة الاستقرار المتعمد لأوكرانيا، حيث تعتبر أوكرانيا شريكًا مهمًا بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
يفرض الاتحاد الأوروبي أنواعًا مختلفة من الإجراءات التقييدية مثل: الإجراءات الدبلوماسية، والتدابير التقييدية الفردية (تجميد الأصول وقيود السفر)، وقيود على العلاقات الاقتصادية مع شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول، والعقوبات الاقتصادية، وقيود على التعاون الاقتصادي.(3)
العقوبات الاقتصادية الجديدة 2021
فرضت إدارة بايدن يوم الخميس 15 أبريل 2021، أول عقوبات كبيرة لها، تستهدف الاقتصاد الروسي منذ عدة سنوات لمعاقبة الكرملين على حملة تجسس إلكتروني ضد الولايات المتحدة، وعلى جهودها للتأثير على الانتخابات الرئاسية.
تمثلت في عقوبات على ست شركات روسية تدعم عمليات القرصنة الإلكترونية لخدمات التجسس الروسية، وطرد 10 مسؤولين في السفارة الروسية في واشنطن، تم تحديد معظمهم على أنهم ضباط استخبارات يعملون تحت غطاء دبلوماسي، واعتبرت الإدارة رسميًا جهاز المخابرات الروسي مسؤولًا عن عملية القرصنة المعروفة باسم SolarWinds.
تأتي العقوبات والطرد بعد أربعة أشهر من الكشف عن أن التجسس الإلكتروني الروسي قد أضر بتسع وكالات فيدرالية كبرى ونحو 100 شركة خاصة، بما في ذلك وزارة الخزانة ووزارة الخارجية.
حيث تم تمكين الاختراقات من خلال تحديثات البرامج التالفة من شركة SolarWinds -هي شركة أمريكية تقوم بتطوير برامج للشركات للمساعدة في إدارة شبكاتها وأنظمتها وبنيتها التحتية لتكنولوجيا المعلومات- ومقرها تكساس، ذكرت صحيفة واشنطن بوست لأول مرة أنه يعتقد أن جهاز المخابرات الخارجية الروسي وراء عمليات الاقتحام، حيث تم الكشف عن رابط SolarWinds لأول مرة من قبل شركة الإنترنت الخاصة FireEye.
كما أصدر مجتمع المخابرات الأمريكية شهر مارس الماضي تقريرًا، خلص إلى سعى بوتين للتأثير في انتخابات 2020 لصالح الرئيس دونالد ترامب من خلال نشر معلومات مضللة عن بايدن.
وتتضمن الحزمة عقوبات على جميع إصدارات الديون الروسية بعد 14 يونيو، ومنع المؤسسات المالية الأمريكية من شراء سندات حكومية مباشرة من البنك المركزي الروسي، وصندوق الثروة الوطني الروسي، ووزارة المالية في البلاد، وقال الخبراء إن هذا الإجراء سيعقد قدرة موسكو على جمع الأموال في أسواق رأس المال الدولية، واستبعد بعض المسؤولين الروس هذه الفكرة، قائلين إنه من السهل على المستثمرين الالتفاف حول هذه القيود من خلال الاستثمار في السندات في السوق الثانوية من خلال وسيط (لأن القيود على التعامل في السوق الأولي فقط).
لكن بموجب الأمر الجديد الذي وقعه بايدن، تحتفظ الإدارة بالحق في توسيع نطاق عقوبات الديون السيادية لتشمل الأسواق الثانوية إذا استمرت الأنشطة الخبيثة لموسكو.
كما فرضت وزارة الخزانة عقوبات على ما مجموعه 32 كيانًا وأفرادًا متورطين في حملة التأثير بالإضافة إلى أعمال التضليل الأخرى؛ ومن بينهم كونستانتين كيليمنيك، وهو روسي أوكراني عمل في أوكرانيا مع رئيس حملة ترامب الرئاسية لعام 2016، وفرضت عقوبات على مواقع التضليل الروسية، مثل: وكالة الأنباء InfoRos، ومؤسسة الثقافة الاستراتيجية.(4)
كما فرضت كلٌّ من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عقوبات على المسؤولين عن تسميم المعارض أليكسي نافالي واحتجازه التعسفي، ولفشل روسيا في الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالأسلحة الكيماوية وحقوق الإنسان.(5)
مقتطفات سريعة حول أسباب العقوبات
- ضم شبه جزيرة القرم لروسيا في مارس عام 2014 بعاصمتها سيمفروبول، التي يعتبرها الغرب جزءًا من الأراضي الأوكرانية، وأن ضمها لروسيا غير قانوني وغير معترف به دوليًا.
- أليكسي نافالني؛ يعد من أبرز منتقدي ومعارضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأكثر من عشر سنوات، ولديه ملايين من المتابعين الروس على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو من أبرز الأسباب التي أدت لفرض عقوبات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لاتهامهم روسيا بالاعتقال التعسفي والمحاكمة والحكم على أليكسي نافالني، فضلاً عن قمع الاحتجاجات السلمية فيما يتعلق بمعاملته غير القانونية.(5)
- الهاكر السيبراني؛ تعرضت شركة SolarWinds وهي شركة أمريكية كبرى لتكنولوجيا المعلومات، لهجوم إلكتروني امتد إلى عملائها ولم يُكتشف لعدة أشهر، حيث تمكن المتسللون الأجانب، الذين تم اتهام روسيا بانتمائهم إليها، من استخدام الاختراق للتجسس على الشركات الخاصة مثل: شركة الأمن السيبراني FireEye والمستويات العليا في الحكومة الأمريكية بما في ذلك وزارة الأمن الداخلي ووزارة الخزانة.(6)
- التدخلات الروسية في الانتخابات الأمريكية؛ أصدرت الاستخبارات الأمريكية تقريرًا قالت فيه «إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أجاز عمليات التأثير التي تهدف إلى تشويه سمعة ترشيح الرئيس بايدن والحزب الديمقراطي، ودعم الرئيس السابق ترامب، وتقويض ثقة الجمهور في العملية الانتخابية، وتفاقم الانقسامات الاجتماعية والسياسية في الولايات المتحدة»، وعليه كان الرئيس بايدن واضحًا أن الولايات المتحدة سترد على الإجراءات الروسية المزعزعة للاستقرار.(7)
تأثير العقوبات الجديدة على الاقتصاد الروسي
تضمنت عقوبات شهر أبريل حظرًا على شراء السندات في السوق الأولية، وبالتالي فإن الأهداف الكبيرة التالية قد تكون ديون السوق الثانوية ووصول البنوك الروسية إلى نظام الرسائل المالية المستخدم في معظم التحويلات المالية الدولية.
إن أحد أسباب عدم قلق وزارة المالية بشأن الإجراء الأخير للعقوبات على الديون الحكومية، هو أن روسيا كانت تبيع في الغالب للبنوك المحلية في مزاداتها الأسبوعية على أي حال، وتم تكثيف الاقتراض خلال الوباء على الرغم من ضعف الطلب الأجنبي، مما أدى إلى زيادة الحجم الكلي للسوق وخفض حصة الأجانب.
ما يزال بإمكان البنوك الأمريكية شراء ديون جديدة في السوق الثانوية بعد دخول العقوبات حيز التنفيذ في منتصف يونيو، وقالت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في مذكرة بحثية لها: «إن روسيا في وضع جيد، لاضطراب السوق على المدى القريب لأن لديها احتياطي نقدي مرتفع والطلب من البنوك المحلية قوي».(8)
الرد الروسي على العقوبات
رد الكرملين الروسي في يوم الجمعة التالي للعقوبات الموقعة عليها، بإنه سيطرد عشرة دبلوماسيين أمريكيين، وسيطرد ثمانية مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين من القائمة السوداء بينهم مدير مكتب التحقيقات الفدرالي كريستوفر أ. وراي، وسوزان رايس، وجون بولتون، وتؤدي الإجراءات المتبادلة المتوقعة من قبل روسيا إلى تعميق التوترات بين البلدين، لكن موسكو أبقت ردها متناسبًا نسبيًا، كما أشارت إلى استعدادها للنظر في عقد قمة بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس بايدن حتى مع تصاعد التوترات.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إن موسكو ستوقف أيضًا أنشطة المنظمات والأموال الأمريكية التي ترى أنها تتدخل في شؤونها، كما قال إن روسيا ستمتنع عن فرض إجراءات شديدة ضد الشركات الأمريكية، مع الاحتفاظ بهذا الخيار في الاحتياط.
فكانت الصيغة العامة لبيان وزارة الخارجية الروسية عقب فرض العقوبات، أنها تود تجنب المزيد من تصعيد التوترات مع الولايات المتحدة وتسعى إلى حوار هادئ ومهني، لكن موجة العقوبات لا يمكن أن تمر دون عقاب.(9)
القمة المرتقبة بين بايدن وبوتين
قال مستشار الكرملين يوري أوشاكوف في مقابلة على قناة روسيا 1 التلفزيونية الرسمية «إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن قد يجتمعان في يونيو، دون إعطاء مواعيد محددة».
وكان جو بايدن قد اقترح في منتصف أبريل، خلال مقابلة هاتفية مع فلاديمير بوتين، أن يجتمعا هذا الصيف في دولة ثالثة لعقد قمة تهدف إلى استقرار العلاقات بين القوتين المتنافستين، والتي هي في أدنى مستوياتها.
وقد أعربت فنلندا والنمسا بشكل خاص عن استعدادهما للترحيب به.(10)
التوترات في العلاقات الأمريكية والروسية في ذروتها كالعادة، وما بين عقوبات واقتراحات التهدئة، يترقب العالم كيف سيكون المستقبل الأمريكي الروسي.
ناقشنا معًا في هذا المقال تعريفًا مبسطًا بالاقتصاد الروسي، والعقوبات الاقتصادية وتفصيلها، وتأثيرها على روسيا، والرد الروسي عليها، وننتظر سويًا القمة المرتقبة بين أقطاب العالم.