نحن-البشر- حيوانات إجتماعية. فعلى مدار آلاف السنين من التطور، وجدنا في تلاحمنا معًا والتصاق بعضنا ببعض زيادةً في فرص بقائنا؛ إذ يسهل علينا العثور على الموارد الحيوية كالغذاء والمأوى، والحقيقة أننا لا يراودنا شعور جيد حيال افتقاد الرفقة لفترات طويلة؛ ربما لأنه أمر أكثر خطورة أن يبقى الفرد منّا وحيدًا. الآن ولأول مرة استطاع علماء في الولايات المتحدة أن يتعرفوا على المنطقة الدماغية التي تقدم مشاعر الوحدة هذه.
ففي دراسة على الفئران، استطاع العلماء تحديد مجموعة من الخلايا قرب الجزء الخلفي من الدماغ، في منطقة تسمى (النواة الظهرية الرِّفاء- (the dorsal raphe nucleus(DRN. ووفقًا للباحثين، فإن هذه الدائرة العصبية-Neural circuit هي ما يحفز لحيوانات الاجتماعية للبحث عن شراكة الآخرين بعد فترات من العزلة.
يقول عالم الأعصاب (كاي تاي- Kay Tye) من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT): «على حد علمنا، تعد هذه هي المرة الأولى التي نربط فيها الحالة التي يبدو عليها الشعور بالوحدة بالركيزة أو (المادة الخلوية-cellular substrate )، والآن لدينا نقطة يمكننا منها البدء في دراسة هذا».
ما يجعل من هذه النتائج مهمة هو أنه في حين أولت كثير من الدراسات اهتمامها إلى الكيفية التي يسعى بها الدماغ إلى التفاعل الإجتماعي، ويستجيب بها لهذا التفاعل، إلا أننا نعرف القليل نسبيًا بشأن الكيفية التي تحفز بها العزلة والشعور بالوحدة السلوك الاجتماعي لدينا.
وقال أحد الباحثين جيليان ماثيوز-Gillian Matthews: «هناك العديد من الدراسات من علم النفس البشري التي تصف كيف لدينا هذه الحاجة للتواصل الإجتماعي، هذه الحاجة التي تزداد لدى الأشخاص الذين يشعرون بالوحدة، ولكن فهمنا للآليات العصبية الكامنة وراء هذه الحالة لا يزال ضئيلًا».
في البداية لاحظ الباحثون تغيرات في النواة الظهرية (DRN) في أدمغة الفئران في عدة تجارب منفصلة تتضمن (اختبار العقاقير-drug testing)، والتي تتطلب أن يكون الحيوان معزولًا. ووجدوا أنه بعد فترة من العزلة حدثت تقوية للوصلات في هذه المنطقة، وأظهرت الاختبارات اللاحقة أن الخلايا العصبية في هذه المنطقة لم تكن نشطة للغاية عندما كانت الحيوانات تعيش معًا، ولكن نشاطها العصبي زاد بعدما تم فصلهم لفترة ثم أُعيد لم شملهم مرة أخرى.
وعندما قام الفريق بإيقاف الخلايا العصبية للنواة الظهرية باستخدام الضوء لهذه الحيوانات المعزولة، وأعادوا بعدها لم شمل هؤلاء الحيوانات مع رفاقهم، وجدوا أنهم لم يظهروا نفس المستوى السابق من استعادة الاختلاط الاجتماعي عندما كانت خلايا هذه المنطقة لازالت تعمل.
يقول تاي: «يشير هذا إلى أهمية هذه الخلايا العصبية في انتعاش التواصل الاجتماعي الذي يتبع العزلة» ويضيف، «عندما يتم عزل الناس لفترة طويلة ثم يُعاد لم شملهم مع الآخرين، فإنهم يصبحون متحمسين جدًا وراغبين في التفاعل الاجتماعي، ونحن نعتقد أن هذا التكيف وهذه السمة المحفوظة تطوريًا هو ما نقوم بنمذجته- أي وضع نموذج للكيفية التي يتم بها الأمر- في الفئران، وهذه الخلايا العصبية يمكن أن تلعب دورًا في زيادة الحافز للاختلاط».
ومن المثير للاهتمام، أنه كلما كان الحيوان مهيمنًا- بالمصطلح المعروف في التسلسل الهرمي الاجتماعي لمجموعة ما- (Social hierarchy)، زادت استجابتها للتغيرات الحادثة في نشاط النواة الظهرية (DRN). ويمكن القول بطريقة أخرى أن الفئران المهيمنة اجتماعيًا تكون أكثر عرضةً للشعور بالوحدة الناتج عن العزلة.
إن التجربة أو الخبرة الاجتماعية لمجموعة ما من الحيوانات ليست متماثلة في كل حيوان ينتمي إلى هذه المجموعة؛ إن كنت فأرًا مسيطرًا، فإنك تُكِنّ الكثير من الحب لبيئتك الاجتماعية، أما إن كنت فأرًا مستضعفًا ويتم إشباعك ضربًا كل يوم، فإن الأمر لا يبدو بهذه اللطافة، هذا إن لم تكن بالفعل قد شعرت بالإقصاء الاجتماعي.
ووفقًا (لألسينو سيلفا- Alcino Silva) – اختصاصي البيولوجيا العصبية وطبيب الأمراض العقلية في جامعة كاليفورنيا – والذي لم يشارك في هذا البحث، فإن نتائج هذا البحث بمثابة حجر أساس جديد للدراسات المستقبلية للشعور بالوحدة، ويمكنها أن تساعدنا في فهم مجموعة من الإعاقات الاجتماعية – بما في ذلك القلق الاجتماعي واضطرابات طيف التوحد -.
وبطبيعة الحال، فنحن لن نعرف بشكل مؤكد إن كان يمكن تعميم هذه النتائج على غير الفئران حتى يقوم العلماء بتعيين تأثيرات مشابهة في خلايا النواة الظهرية الرِّفاء(DRN) في دماغ الإنسان، ولكنها تبدو منطقة واعدة للأبحاث مستقبَلًا.
إنه لأمر شاعري كيف أن أدوات علم الأعصاب الحديثة استطاعت التوغل في أعماق النفس البشرية، وكيف اقتادنا البحث إلى أن حتى أكثر المشاعر إنسانية، الشعور بالوحدة، يتشاركها معنا – وبشكل ملحوظ – حتى أقاربنا البعيدة من الثدييات، الفئران.
ترجمة: Hanan Gamal
مراجعة: Sherif M.Qamar
تصميم: Ahmed Mohamed
المصدر: http://sc.egyres.com/L6oRg
# الباحثون المصريون