الفن الشعبي بعيون عاشق المدَّاحين.. زكريا الحجاوي

زكريا-الحجاوي-الفن-الشعبي

زكريا الحجاوي - الفن الشعبي

الفن الشعبي
الاسم زكريا الحجاوي، الصفة سمكة من أسماك بحيرة المنزلة التي عشقت بيئتها وأخذت على نفسها العهد بأن تلتقط أنفاسها في هواء هذه البيئة دون غيرها وإلا اختنقت وماتت، وهو ما أثبتته الأيام.
المصدر: elcinema.com

جلست في يومٍ ما كعادتي المحببة أشاهد التلفاز -الذي أعتبره أعظم اختراعات الإنسان القريبة إلى قلبي رغم ما نعايشه من تطور- وتكرر بداخلي الانبهار الذي يتجدد كلما شاهدت فيلم «الزوجة الثانية»، وتعقُد حبكته الدرامية حيث لا طاقة ولا قدرة لبطل وبطلة الرواية على مقاومة ظلم العمدة وطغيانه، ليظهر فجأة «الأراجوز ومحبوبته بشكليوز» بحلِّ شيفرة الظالم والقضاء عليه.

السؤال الذي يتبادر إلى الذهن سريعًا: هل ينتهي الأمر بهذه البساطة؟! والإجابة تعلن عن نفسها بشكلٍ أسرع: نعم، فما دامت الأرض قد أعطت الحل فليس لنا إلا الطاعة، فصوتها نهرٌ يتدفق في شريان الحياة لا يستطيع أحدٌ إيقافه إلا غافل أو محدود فكر.

هذا المشهد الذي صنعه مُخرج الواقعية «صلاح أبوسيف» أثبت عظمة الإنسان في خلقِ فنٍّ شعبيٍّ تمتد جذوره في الأرض الصلبة، وأثره في وجدان الشعوب، وحبر قلمه في كتب التاريخ، هذا الفن الذي لن نستطيع أن نهضمه إلا من خلال أفعال وكلمات من آمن به حقًّا، وضحَّى بأيامه المعدودة من أجل أن يبقي عقودًا مديدة.. إنه فارس الفن الشعبي زكريا الحِجَّاوي.

بطاقة هوية

الاسم: زكريا الحِجَّاوي. الصفة: سمكة من أسماك بحيرة المَنزَلَة التي عشقت بيئتها وأخذت على نفسها العهد بأن تلتقط أنفاسها في هواء هذه البيئة دون غيرها وإلا اختنقت وماتت، وهو ما أثبتته الأيام.

نشأ الحجاوي في أجواءٍ فنيَّةٍ بامتياز، فالمساحات الخضراء تُمتِّع ناظريه، وبحيرة المنزلة تحيط بالمطرية مسقط رأسه من ثلاث جهات، وغناء الصيادين لا ينقطع عن أذنيه وهم يستخدمون النغم والإيقاع المُخصص لكل نوع من الأسماك ويجعله ينجذب إلى شباك الصيد، إلى جانب اختراع «الجرامافون» الذي لا ينقطع عنه صوت سيد درويش داخل منزله. كل ذلك خلق بداخله جمالًا أصله الفن ومصدره الشعب سعى إلى اكتشافه أينما وُجد.

هام الحجاوي في بلد المحروسة طولًا وعرضًا، شرقًا وغربًا، يتنقل بين ربوعها وكفورها مستكشفًا فنها، وباحثًا عن صوتها، ليترك لنا نبعًا لا ينضب من الأغاني والمواويل والبكائيات وغيرها من اكتشافاته، إلى جانب أعماله الذاتية الثي حفلت بها مكتبات الإذاعة والتليفزيون.

والحقيقة أن الجهود الثقافية المضنية التي بذلها زكريا الحجاوي في حياته رغم معدومية الإمكانيات وافتقاره للتمويل المطلوب، إلا إنه تمكن بأعجوبة من جمع وغربلة وإعادة تقديم الفنون الشعبية للجماهير، إذ كانت من حيث الكم والكيف والآليات والأساليب جديرةً بأن تنهض بها مؤسسة ثقافية وميزانية ضخمة. (1)

يا ليل يا عين…

في إحدى الأيام، قرر زكريا الحجاوي كعادته أن يطوف أرجاء المعمورة، خاصَّةً منطقة القناة ودمياط وشمال الدلتا، مصطحبًا معه الموسيقار «عبد الحليم نويرة»، وذلك للتعرف إلى موسيقى هذه المناطق وطرق رقصهم والتنقيب عن فنانيها. وبعد قرابة الشهر ونصف من هذه الرحلة، يؤلف الحجاوي مجموعة متنوعة من الأغاني المستوحاة من التراث الشعبي ويعكف على تلحينها نويرة، ويزينها برقصات شعبية من بيئة هؤلاء الفنانين، ليخرج إلى النور أوبريت «يا ليل يا عين».

هذا الأوبريت لم يكن حدثًا عاديًّا، بل كان ظاهرةً أثبتت براعة الحجاوي في تحطيم الفكر التقليدي من أجل تحقيق هدفٍ واحد، ألا وهو الإبداع، فالأوبرا، ذلك المسرح المهيب، المحتضن لكل عروض الأوبرا العالمية والموسيقى الكلاسيكية، أراد الحجاوي أن يكون لبسطاء هذا الشعب نصيب منه، فأدخل إليه الفنانين الشعبيين بملابسهم وآلاتهم الموسيقية البسيطة ورقصاتهم التي تنطق بلهجة كل شبر من أشبار المحروسة، ليسجل هذا الأوبريت نجاحًا مدويًا على كافة الأصعدة من حيث الأداء والغناء والرقصات، إلى جانب براعة الحجاوي في تحرير الأوبرا بمدٍّ ثوريٍّ من الفن الشعبي.

حكاية أغاني وسرادق الحسين

الفن الشعبي
ابتكر الحجاوي فكرة سرادق الحُسين الرمضاني الذي تنوع ضيوفه بين مختلف طبقات الشعب إلى جانب الفنانين والسياسيين من أمثال السيدة «جيهان السادات» و«أندريه رايدر»، ومن خلال هذا السرادق، استطاع الحجاوي أن يقدم فقرات متنوعة من الغناء الشعبي والعزف على الآلات الموسيقية الشعبية.
المصدر: www.arabmelody.net

كان زكريا الحجاوي صاحبَ أفكارٍ كثيرة، فهو صاحب فكرة إنشاء أول مركز للفنون الشعبية ومسرح السامر، ومنشئ أول فرقة للفنون الشعبية قبل الفرق القومية التي نشأت بعد ذلك. وتماشيًا مع تلك الأفكار، ابتكر الحجاوي فكرة سرادق الحُسين الرمضاني الذي تنوَّع ضيوفه بين مختلف طبقات الشعب إلى جانب الفنانين والسياسيين من أمثال السيدة «جيهان السادات» و«أندريه رايدر»، ومن خلال هذا السرادق، استطاع الحجاوي أن يقدم فقراتٍ متنوعة من الغناء الشعبي والعزف على الآلات الموسيقية الشعبية.

كان نهر إبداع الحجاوي لا يتوقف، فقد استطاع تأليف أغاني لاقت صدًى كبيرًا لدى الجماهير، حيث يجلس في آخر السرادق ويقوم بتأليف الكلمات وتحفيظها لفرقته في نفس اللحظة، وكان هذا ما حدث في إحدى حفلاته في مدينة أرمنت الصعيدية، لتردد الفنانة «خضرة محمد خضر»، إحدى أشهر مغنيي فرقته الشعبية وزوجته خلال فترة من الزمن، قائلةً:

متى أشوفك وأنا قلبي مبسوط  .. ده حبيبي في جرجا وأنا بلدي أسيوط

قالوا ود مين أنا قلت حتسأل ليه  .. ده أنا ابن أصل وأصلي ما يعلاش عليه

ده أنا حلو في عينه وأنا لابس زعبوط…

كما كانت لثورة اليمن نصيبًا من لآلئ فن الحجاوي، فقد قدم مثل غيره من الفنانين الأغاني التي تمجد هذه الثورة، فنسمع خضرة وهي تغني من كلماته وألحانه:

أدفع روحي ثمنًا لأبطال اليمن .. ياللي رفعتوا شرفنا العالي على صاري الزمن

زي ما سيدنا سليمان حكم الجو زمان .. بلقيس جات له في الآذان شايلنها له الجان

شهدوا الناس للمصريين جيش طاير من غير جناحين .. عدى البحر في غمضة عين

وحصر العار ما بين جبلين…

الموَّال الأحمر والموَّال الأبيض

يُعدُّ الموال من أقدم الفنون الشعبية التي عرفها المصريون، وكان بالنسبة لهم فن وحياة، حيث يمزجون مواقفهم الحياتية وما يمرون به من أحداث درامية بكلمات هذا الفن الشعبي، ليخرج في النهاية منتجًا شعبيًّا أصيلًا، كلماته عبرة ومعانيه موعظة، ويُشترط في تركيبة الموال أن تكون اللفظة المنتهية في نهاية إحدي أبياته مشابهةً للفظة الموجودة في البيت التالي.

كان الفنان زكريا الحجاوي بطبيعة روحه الفنية الشعبية، مولعًا بهذا النوع من الفن، وكتب كثير الكلمات في عديد المقالات عن الموال ليعرف الجمهور أكثر وأكثر دواخلَه وأسراره؛ فقد شرح في إحدى مقالاته أن هناك نوعين لهذا الفن، صاغهما فلاحو مصر، أحدهما الموال الأحمر أو ما أعتاد الفلاحون على تسميته بالموال المُزهر، حيث ينتهي كل بيت من أبيات الموال بنفس الكلمة، لكنها تحمل معنًى مختلفًا في كل مرة، ويقف المستمع حينها لمحاولة أن يتعرف إلى المعنى أو يزهره مثل الزهرة التي يزداد عبقها وجمالها عند إنباتها.

أما الموال الأبيض، فهو غير المزهر حيث تنتهي أبياته بنفس الكلمة، ولكنها تحمل في كل مرة ذات المعنى، وبالتالي لا تثير فكرًا داخل العقل، أو سحرًا داخل النفس، لذلك يطلق عليه «الأبيض» لكونه عاديًّا وفارغًا من أي فن.
وقد انتشر فن الموال في مناطق الوجه البحري من البلاد حيث توافقت روحه مع سكانها.

فن المربع

وعلى الجهة الأخرى من البلاد، في الصعيد، كان هناك قالبٌ فنيٌّ آخر، ألا وهو فن المربع، هذا الفن القديم قِدَم الأرض استطاع أن يثبت ذكاء وسرعة بديهة الفلاح المصري وخفة ظله، حيث كانت الأسس الفنية لهذا القالب، ويحكي لنا أبونا الحجاوي عن هذا الفن مسترسلًا في كلامه:

فن المربع، هو الذي يطلق عليه بعض الفلاحين «الواو» وينعتون شاعره المحترف «المواوي»، وكان من عادة هؤلاء المحترفين الهجرة، وكان يركب المواوي حصانه، ويدخل القرى أيام الحصاد، ويحتفل به الفلاحون احتفالًا كريمًا، يعطيه اللحظة الفنية المنعشة -الفن- ويعطونه المؤونة، يعيش بها طول العام، فهم يعرفون أنه لا صناعة له إلا هذه الوظيفة الاجتماعية السامية.. فنانٌ شعبي. (2)

وينشد المواوي، ويرد عليه الفلاحون بارتجالٍ فنيٍّ لا مثيل له في تناغمٍ يصل بك إلى عنان السماء من فرط الإحساس بنشوة الفن، حيث يقول المواوي:

امدح نبي زين .. محمد على الخلايق يشاشي

اعطيني بطيخة ولا اتنين .. عدن حرشها ما رماشي

فرد عليه الفلاح:

أنا راخر بامدح نبي زين .. محمد على الخلايق يشاشي

البطيخة تجيب قرش ولا اتنين .. واللي زيك ما يخدهاشي

وضحك المواوي وقال:

امدح نبي زين .. محمد على الخلايق يشاشي

ربنا يرزقك بفأر ولا اتنين .. ما يخليش حرش على الأرض ماشي

ولم يسكت الفلاح:

أنا راخر بامدح نبي زين .. محمد على الخلايق يشاشي

احنا عندنا بدال القط اتنين .. ما يخليش فار على الأرض ماشي (3)

لم ينتهي سحر فن المربع عند هذا الحد، فقد أنشأ بها الفنانون الشعبيون هذا الجمال المُسمَّى: السيرة الهلالية، وأضافوا إليها الحبكات الدرامية والدفوف لتحدث أعظم الأثر في النفوس على مدار الأعوام مؤكدة عظمة من قام بغزلها.

عرًاب الليلة الكبيرة

الفن الشعبي
لتحمل هذه الرحلة بين طياتها مفاجأة تزخر بها مكتبة فننا الشعبي حتى الآن وهي أوبريت «الليلة الكبيرة»، حيث عرض فيه صلاح جاهين العديد من صنوف الطبقة الشعبية المصرية في أبهى صورها.
المصدر: arz.wikipedia.org

في إحدى المرات، عرض الفنان «صلاح جاهين» على زكريا الحجاوي السفر معه في رحلاته الاستكشافية إلى قرى ونجوع مصر، فعبَّر له الحجاوي عن صعوبة أسفاره وعدم قدرته على تحمل تنقله بين الموالد، لكن إصرار جاهين جعل الحجاوي يذعن لأمره، لتحمل هذه الرحلة بين طياتها مفاجأةً تزخر بها مكتبة فننا الشعبي حتى الآن، وهي أوبريت «الليلة الكبيرة»، حيث عرض فيه صلاح جاهين العديد من صنوف الطبقة الشعبية المصرية في أبهى صورها، لكن علينا أن ندرك أنه لولا هذه الرحلة، ولولا استنشاق جاهين لنفس العبق الفني الذي أمده به الحجاوي في رحلته، لما خرجت هذه التحفة الفنية.

الفن الشعبي
عرض الفنان «صلاح جاهين» على زكريا الحجاوي السفر معه في رحلاته الاستكشافية إلى قرى ونجوع مصر.
المصدر:
www.e3lam.org

لم يتوقف عبير الحجاوي هنا فحسب، حيث ابتكر فكرة المقدمة والنهاية الغنائية للمسلسلات الإذاعية، بالإضافة إلى ابتكاره لشخصية الراوي في مسلسل «وراء الأسوار» مستوحيًا الفكرة من صندوق الدنيا، حيث قام أداء دور الراوي الفنان «محمود شكوكو».

إلى جانب ذلك، قدم الحجاوي الكثير والكثير من الأعمال الفنية، حيث حفلت الإذاعة المصرية باثنين وسبعين ملحمة، ومئة وعشرين مسلسلًا، من بينها أيوب المصري، وسعد اليتيم، وأنس الوجود، وليالي الرشيد، وعزيزة الفرشوطية، وشوق، والأرملة العذراء. كما قدَّم لإذاعة الكويت مسلسلاتٍ منها بلقيش أنشودة الفؤاد، وأسد بن الفرات، وعزيزة ويونس، بالإضافة إلى عددٍ من الأعمال التي تم إعادة عرضها وتقديمها تليفزيونيًا. كل تلك الأعمال عند سماعها ومشاهدتها لا تملك إلا أن تقول إنها من نَبْتِ الأرض وجذورها.

ثورةٌ على خشبة المسرح والورق

لم يكن أبو الفنون ببعيدٍ عن إبداعات زكريا الحجاوي، حيث قدَّم مسرحية «بيجماليون»، وهي تلك التي سبق بها بيجماليون توفيق الحكيم، ولا شك أن اندلاع ثورة 23 يوليو 1952 كانت حلم زكريا الأثير الذي تحقق في حياته، فكانت الفرصة متاحة والظروف مواتية لمواكبتها ثقافيًّا، سواء عبر بعث الروح في الفنون الشعبية، أو في إبداع الأدب الثوري. وفي كتابته المسرحية «ملك ضد الشعب»، كشف الحجاوي النقاب عن ثورات الشعب المصري المجهولة في بطون الريف ضد الإقطاع والملكية والاستعمار. (4)

كما كانت له مجموعةٌ كبيرة من أعماله القصصية التي لم تُجمع، ولم يعرف الجمهور عن كتابات الحجاوي القصصية سوى المجموعية القصصية الأولى التي صدرت عن مؤسسة «روز اليوسف» وحملت عنوان إحدى قصصها «نهر البنفسج»، ليعلن بعدها أديب القصة القصيرة «يوسف إدريس» أن الحجاوي جديرٌ بأن يكون أستاذًا في أدب القصة القصيرة.

«حكاية اليهود»، كتابٌ موسوعي تناول من خلاله الحجاوي الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن كالعادة من وجهة نظر فريدة لعقلية مؤمنة ببراعة الثقافة الشعبية على التحليل والتفسير، فمن خلاله حلَّل الحجاوي الشخصية اليهودية بما تحتويه من أفكار وقناعات وسلوكيات واهتمامات، مُفتِّتًا للأسطورة اليهودية التي تكشف عن حقائق هذه الشخصية أمام العقلية العربية دونما تزييف أو مواربة.

الفن الشعبي ليس «زمَّارة»

الفن الشعبي
فاشتهر منهم العديد وأصبحوا علامات في تاريخ فننا الشعبي مثل محمد طه، وخضرة محمد خضر، وجمالات شيحة، ومحمد أبو دراع، وفاطمة سرحان وغيرهم الكثير ممن وصل صوتهم وفنهم إلى جميع أرجاء المعمورة، وغيرهم ممن وصوا إلى العالمية مثل الريَّس متقال.
المصدر:
www.elcinema.com

أسماءٌ كثيرة هي من قام زكريا الحجاوي باكتشافهم وإقناعهم بالقدوم إلى القاهرة، كما هم، بزيهم وآلاتهم البسيطة وكلماتهم العفوية التي تخترق القلوب، فاشتهر منهم العديد وأصبحوا علاماتٍ في تاريخ فننا الشعبي، مثل: محمد طه، وخضرة محمد خضر، وجمالات شيحة، ومحمد أبو دراع، وفاطمة سرحان وغيرهم الكثير ممن وصل صوتهم وفنهم إلى جميع أرجاء المعمورة، وغيرهم ممن وصوا إلى العالمية مثل الريَّس متقال. (5)

في سؤاله خلال حديثٍ صحفيٍّ لمجلة «آخر ساعة» عن ماهية الفن الشعبي عند الحجاوي قال:

الفن الشعبي مادته الإنسان، وهو المدخل الطبيعي إلى «الأنثربولوجي» لأن العادات والتقاليد مكونة من مزيج اجتماعي يصبه المجتمع في الإنسان، فنحن نغني من وجهة نظر الإنسان، فيخرج فنًا مُعبِّرًا عن العادات والتقاليد وما يدور في أعماق الإنسان سواء على شكل أغنية أو بالحركة والرقصة، وبلورة أشواق الإنسان وهمومه من خلال هذا الفن أو ذاك. (6)

حياة طائر جريح

كثيرةٌ هي محطات هذا المبدع، فكلها شغف وعشق للفن الشعبي حتى النفس الأخير، منذ عمله في مجلس مدينة الجيزة ونقله إلى  إحدى المستشفيات الصغيرة في أقصى القرى، مرورًا بمنصب المسؤول عن الفنون الشعبية بوزارة الثقافة وسكرتير التحرير بجريدة الجمهورية التي فُصل منها قبل افتتاحها بأسبوع، وصولًا إلى العمل في دولة قطر جامعًا وناهمًا في تراث فنها الشعبي الخليجي.

وخلال هذه المحطات، مَرَّ بالكثير من نكران الجميل من أصدقاء وفنانين كان له الفضل عليهم، دون أي لحظة ندم منه حتى موته على ما فعله معهم.

المحزن أن هذا الرجل الذي عشق تراب هذا الوطن وبذل كل ما يملك ليكتشف جماله الحقيقي، مات بعيدًا عنه ولم يسعه القدر ويمهله دقائق إضافية كان عازمًا فيها على العودة إلى أرضه مهزومًا من شدة الوجد وفرط الشوق، أبى هذا القدر إلا أن يعود به إلى بلاده محمولًا، وهو الذي كان دائمًا حاملًا لفن بلاده وناشرًا إياه ما استطاع ملْ السماء والأرض.

بعد رحيله عام 1975م، كرمته الدولة المصرية ومنحت اسمه شهادة تقدير من أكاديمية الفنون، كما منحته وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وتم تغيير اسم مسرح السامر الذي كان له الفضل في وجوده إلى مسرح زكريا الحجاوي، وإن كان قد عاد إلى اسمه القديم مرة أخرى بعد ذلك.

ورحل فارسٌ آخر…

من خلال ما نعايشه في أيامنا هذه من ظهور ألوانٍ مختلفة من الغناء والرقصات، وجدت نفسي أعود إلى الوراء قليلًا باحثةً عن ما يسمى بالفنون الشعبية لاستكشف إذا ما كان ما يقال عن تلك الألوان الغنائية المختلفة والرقصات التي نشاهدها «فن شعبي» صحيحًا أم لا، وكانت الإجابة الوثيقة حيث لا ريب ولا شك فيها عند واحد فقط، هو عاشق المدَّاحين وأبو الفن الشعبي ورائده وباعثه، أو كما وصفه تلميذه «نجيب سرور» بأنه الشاعر، والزجَّال، والمخرج، والممثل، والناقد، والذوَّاقة، والجامع للتراث الشعبي، والمحقق والدارس لهذا التراث.

متعدد الصفات والمواهب، لكن المؤكد أن الفن الشعبي لا يُذكر إلا وذُكِرَ هو معه، ووجَدْتُ نفسي حبًا لهذا الرجل وإيمانًا بموهبته وتقديرًا لجميله أكتب تلك الكلمات المًتواضعة التي لا تروي الظمآن، معلنة عن انتهاء زمن الفرسان النبلاء الذي كان هو واحدًا منهم إنه: زكريا الحجاوي، وكما قال محمد طه في موال رثائه له:

مصر الجميلة عَلَم أنوارها بعلم الفن

ليك عِزوة في الفن عالية والكرم لمات

يا ما جِبت أدوار وألفت أماني الحب الكل لمات

من صغر سني بأنظم فنون للفن

من مات وخلّد الفن على الدنيا كأنه ما مات…

 

كتابة وإعداد: هدير جابر

تدقيق: Mohamed Sayed Elgohary


المصادر:

1- الشريف، يوسف. (2006). زكريا الحجاوي.. موال الشجن في عشق الوطن. ط1. القاهرة: دار الشروق.

2- نفس المرجع السابق، ص 116.

3- نفس المرجع السابق، ص ص 116-117.

4- نفس المرجع السابق، ص 75.

5- نفس المرجع السابق، ص82.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي