القدس ما بين اليهودية والمسيحية والإسلام «نظرة أكاديمية»

K9T1b

||||||||||||

في قلبِ الأرض، توطَّنت في رضا وسكون رغم السقم القابع في جنباتها، تتهادى سيرتها في نفوسِ قاطنيها دون أن تلطخها نواياهم، تضرَّعت إليها قلوبٌ عابدة تُناجي باسمها المُقدَّس، البقعة النابضة بالمحبة والعطاء. هي القدس، مدينة الله، مهد الأديان، والغصة الكامنة في روح كلٍّ منا. إن المدينة العربية والكنعانية واليبوسية واليهودية ليست إلا المدينة نفسها، القدس.

نشأة مدينة القدس

مع انتهاء العصر الجليدي الأخير، أصبحت أرض الجزيرة العربية غير صالحةٍ للعيش، فبدأ النزح السامي على شكلِ عوائلَ صغيرة محدودة العدد نحو أطــراف الـصـحـراء الأكـثـر خصوبة. ومن بين هذه القوافل العديدة، استقرت مجموعةٌ منهم في الأرض المنخفضة على ساحل البحر المتوسط وأطلقت عليها اسم أرض «كنعان»، أي فلسطين.

للعرب الكنعانيين بطونٌ مختلفةٌ وتفرعاتٌ عديدة، وكلٌّ منهم سكن بقعةً خاصةً به من بلاد كنعان، وكان كل ما ورد من المصادر يميل إلى أن اليبوسيين هم أول شعب يطأ أرض القدس حوالي 2600 ق.م، وعلى ذلك كان اسمها الأول؛ يبوس.1

أسماء المدينة

يبوس، هو من المادة الكنعانية (ب و س) والتي تعني الخشونة، ويبدو أن هذا الاسم قد عُرِفَ به هؤلاء الناس لقسوتهم وشدة بأسهم. كما إنه وُرِد في عبرية العهد القديم بمعنى الوطء بالأقدام.

شاليم، أتى ذكر المدينة بهذا الاسم لأول مرة في العهد القديم، حين جاء إليها النبي إبراهيم حوالي 1900 ق.م. ويعني هذا الاسم في مختلف اللغات السامية القديمة أمورًا عديدة يجوز اختصارها في معنى «السلام». وقد أُطلِق ذلك الاسم عليها تيمنًا بـ«شالم» إله السلام والأمن عند الكنعانيين.

أورشليم، هذا الاسم الذي تم إضافة مقطع (أور) له عوضًا عن (شاليم)، الاسم السابق للمدينة، فيبدو أنه أُقحِمَ على اسم المدينة في وقتٍ متأخر. ولعل كلمة (أور) لها دلالات عديدة في اللغات السامية تتشابه جميعها في مقصدها وهو النور والضياء وبهذا الشكل يكون اسم أورشليم معناه نور السلام.

إيليا كابيتولينا، وهي التسمية التي أطلقها الرومان على المدينة بعد تدميرها (135-132ق.م) وإعادة بنائها من جديد. ثم اُختِصَر الاسم إلى (إيلياء) أو (إيليا) عندما فتحها المسلمون.2

القدس، ويبدو أن هذا الاسم قد عُرِفَت به المدينة في فترة متقدمة من تاريخها ونرى أن أصله ودلالته الحسية هي التنزيه والتطهير حيث كانت القدس بمثابة مكان للتطهر من الذنوب وعبادة الآلهة، فاكتنف ذكرها بتاريخٍ طويلٍ من الإيمان القدسي وبأسماءٍ روحانية عديدة مثل بيت المقدس، مدينة داوود، مدينة الله.. إلخ.

صهيون، ورد هذا الاسم في العهد القديم وأطلقه الكنعانيون على قلعتهم الحصينة الواقعة على الرابية الجنوبية الشرقية من مدينتهم أورشليم، فقد سُمِّيَت هذه الرابية حصن صهيون بواسطة الكنعانيين.

مدينة داود، في عصر داود عليه السلام سُمِّيَت أورساليم أو يبوس باسم مدينة داود كما ورد في الإصحاح الخامس من سِفْر صموئيل الثاني «وأخذ داود حصن صهيون. هي مدينة داود». و«وأقام داود في الحصن وسماه مدينة داود» (3)(4)

 

القدس ما بين اليهودية والمسيحية والإسلام

 

القدس في الإسلام

لعلَّ القدس، وما حولها من أرض فلسطين والشام، أكثر الأماكن ذكرًا في القرآن الكريم والأحاديث النبوية تلميحًا أو تصريحًا بشكلٍ مُباشر وغير مباشر، تارةً باسم الأرض المقدسة، وتارةً باسم الأرض المُباركة.(5) لذلك يُعتبر الإسلام الوارث لتراث اليهودية والمسيحية وربطت بينه وبين القدس أواصرَ قوية لم تنقطع لأكثر من أربعة عشر قرنًا.

كانت القدس بمثابة القِبلة الأولى للمسلمين وقتما كان النبي محمد مُلاحَقًا من قِبل مجتمعه المكّيّ، وحين كانت الصلوات تتم بالخفاء، فعن البراء بن عازب قال: «صلينا مع النبي نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، ثم صُرِفوا نحو القبلة». إلى القدس، فحسب الدين الإسلامي، أُسرِيَ بالنبي مُحمد من مكة في معجزةٍ ربانية، وعلى صخرة القدس عرج إلى السماء العُلَى في رحلة روحانية ربطت مدينة القدس بمكة، وسويًّا بالسماء. فيها فرض الله الصلوات الخمس على المسلمين وأمَّ رسوله جميع الأنبياء في محلّتهم ودارهم لمَّا حانت الصلاة.

فُتِحَت القدس على يد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، الذي حظي بمكانةٍ فريدة في الشريعة والدين الإسلامي، كما إنه قدم وثيقة العُهدة العمرية التي نظمت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين آنذاك. هذا كله يجعل من القدس قرة عين المسلمين في العالم وأقدس مقدسات مسلمي فلسطين.(6)

القدس في المسيحية

إن القدس هي موطن الفداء والخلاص، ومنها انطلقت تعاليم المسيحية وشعائرها إلى العالم أجمع.

فقال السيد المسيح : «ستكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي جميع اليهودية والسامرة وإلى أقاصي الأرض».  (أعمال الرسل 1:8 ) ، وأيضًا «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (متى 20-38:19).

وتستمد القدس أهميتها من السيد المسيح نفسه، فإليها رنى بناظريه، بالإضافة إلى أن حياته في الأرض لم تكن سوى مسيرة نحو القدس، فكانت نهاية دربه، ومكان صعوده. (لوقا 13:33)

في المعتقد المسيحي، يرى المسيحيون أن القدس هي أرض الخلاص الذي تنبأ به الأنبياء، والذي تحقق في جسد يسوع المسيح وبواسطته. أما في الأناجيل المقدسة، فيبكي رسول السلام على القدس لرفضها إياه فتصبح القدس، مدينة الأنبياء والخلاص، ضريرة عن رؤية نور السلام (لوقا 19:42). وفي أعمال الرسل، فإن القدس هي المكان الذي حلَّت فيها الروح القُدُس، ومكان ميلاد الكنيسة وجماعة تلاميذ يسوع، وفي القدس أيضًا جسدت الجماعة المسيحية الأولى المثال الكَنَسي الذي ظل مرجعًا دائمًا على مر العصور.(7) كما إن القدس تضم عددًا من أهم كنائس العالم بالنسبة للعقيدة المسيحية وعلى رأسهم دون شك كنيسة القيامة، كنيسة مريم المجْدَليَّة، كنيسة كل الأمم، كنيسة عِليَة العِشاء الأخير، وكنيسة أوجاع العذراء.(8)(9)

القدس عند اليهود

وأخيرًا، نالت «أورشليم» في العقيدة اليهودية اهتمامًا واسعًا وفريدًا لم يحظَ به أي مكانٍ آخر في العالم، فبالرغم من إقامة الغالبية العظمى من الشعب اليهودي خارج حدود أرض فلسطين، إلا إن لديهم دائمًا إحساس بالاغتراب، وأنهم منفيون من الأرض التي وعدهم الرب، كما وُرِد في العهد القديم بأنه «سيعطي هذه الأرض لإبراهيم ولنسله من بعده»، ومن ذلك قوله: «وأعطي لك، ولنسلك من بعدك، أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكًا أبديًا» (سِفْر التكوين: الإصحاح : 17 : 8).

ولكن بالرغم من ذلك، سيظل هيكل سليمان -في الرؤية اليهودية- ركيزة الوضع العقائدي للقدس في ديانتهم، يقصده الحجيج والمصلون من اليهود من شتى بقاع الأرض طامعين في أداء طقوسهم هناك، آملين أن يتجلى لهم الرب (يهوه) في هذا المكان المقدس الذي يربط الأرض بالسماء.

لكن عقب الشتات البابلي وتدمير الهيكل عام 586 ق. م، تم تغريب اليهود قسريًا فارتبطت فكرة العودة اليهودية إلى الأرض المقدسة، بفكرة عودة (يهوه) نفسه إلى معبده وهيكله، وعند جدار المناحة أو حائط (المبكى) والذي هو في الحقيقة حائط (البراق)، ظل اليهود يبكون حتى اليوم على الهيكل الذي هُدِم.

بالإضافة إلى الإشارات الصريحة والضمنية للقدس في الأدبيات الحاخامية، كالتلمود المدراش، قد تناول الكتاب المقدس العبري (التوراة) نفسه ذكر القدس باسمها صراحةً، وأحيانًا باسم صهيون، حوالي سبعمائة مرة.(10)

في النهاية، يظل محتمًا أن نقول أن القدس ليست فقط أرضًا طاهرةً لم ينسها الدهر يومًا، وهي عزيزة تأبى أن تكون في القلب غصةً ولا في العقل منالًا فقط. القدس أناسٌ وعوائل، ودروبٌ وأطفال، لا يجب أن يكترثوا لمؤامرات وحدود البلدان، لكن الشباب شابوا بالفقدان والثورة الملتهبة في عروقهم، ومات الشياب بالحسرة والآمال الذابلة.

 

إعداد: زهرة المنصوري

م.علمية: عمر بكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

  1. pdf [Internet]. [cited 2017 Aug 6]. Available from: http://www.qou.edu/arabic/researchProgram/newlyReleased_pdf/smBook/jerusalemResearch.pdf
  2. اللجنة الملكية لشؤون القدس .:.اسماء القدس [Internet]. [cited 2017 Aug 10]. Available from: http://www.rcja.org.jo/page/%D8%A7%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1+%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3/86/
  3. مدينة داود | St-Takla.org [Internet]. [cited 2017 Dec 8]. Available from: https://st-takla.org/Full-Free-Coptic-Books/FreeCopticBooks-002-Holy-Arabic-Bible-Dictionary/24_M/M_092.html
  4. Holy Bible ( Arabic) – Old and New Testament [Internet]. [cited 2017 Dec 8]. Available from: https://books.google.com/books/about/Holy_Bible_Arabic_Old_and_New_Testament.html?id=1Bm6BAAAQBAJ
  5. mkn-lqds-ldyny.pdf [Internet]. [cited 2017 Aug 6]. Available from: https://repository.najah.edu/bitstream/handle/20.500.11888/9700/mkn-lqds-ldyny.pdf?sequence=1
  6. نظمي ا. القدس العربية أربعون سنة من الإحتلال الإسرائيلي : دراسة [Internet]. 2008. Available from: https://fada.birzeit.edu/jspui/handle/20.500.11889/4815
  7. lrth-lrby-lmsyhy-fy-lqds_0.pdf [Internet]. [cited 2017 Aug 6]. Available from: https://repository.najah.edu/bitstream/handle/20.500.11888/9698/lrth-lrby-lmsyhy-fy-lqds_0.pdf?sequence=1
  8. كنائس القدس [Internet]. Linga. [cited 2017 Dec 9]. Available from: https://www.linga.org/varities-articles/MzIyMQ==
  9. مركز المعلومات الوطني الفلسطيني [Internet]. [cited 2017 Dec 9]. Available from: http://info.wafa.ps/atemplate.aspx?id=4240
  10. الجانب العقائدي في نظرة اليهود إلى مدينة بيت المقدس – ديوان العرب [Internet]. [cited 2017 Dec 24]. Available from: http://www.diwanalarab.com/spip.php?article9932

#الباحثون_المصريون

 

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي