هل شاهدت من قبل فيلم (Stonehearst Asylum)، حيث تدور أحداثُه خلال عام 1899م، عندما يشغل بطل القصَّة منصب طبيبٍ نفسي في مصحة عقلية تدعى ستونهيرست، من أجل بدء مسيرته العملية في ممارسة الطب. ومع استمراره في العمل تتكشَّف له الكثير من الجَوانب المُظلمة التي لم تكن واضحَة من قبل. يناقشُ هذا الفيلم حالة كذبٍ مرضيٍّ (بالإنجليزيَّة: Pathological lying)، أو ما يعرف بـميثومانيا (بالإنجليزيَّة: Mythomania).
«لست منزعجًا لأنك كذبت عليّ، أنا منزعج لأنني ومن الآن فصاعدًا لن أستطيع تصديقك مرة أخرى»
فريدريك نيتشه
الكذب المرضيّ
الكذب المرَضِيّ (بالإنجليزية: Pathological lying)، والذي يطلق عليه أيضًا ميثومانيا (بالإنجليزيَّة: Mythomania)، أو (Pseudologia fantastica)، هو سُلوك متكَرر وقهرِيّ يدفعُ صاحبهُ للكذِب باستمرار دون سببٍ يُذكر، حتى عند إجباره على قول الحقيقة يشعُر بعدم ارتياح، وقد يتصرف بعدوانيّة. [1،2]
على الرغم من اكتشَاف الكذِب المرضي منذ قَرن من الزمَان إلا أنه لا يُوجد –حتى الآن- تعريفٌ وافٍ وكافٍ لهذه الحالة.[3]
وصف الطبيب الألماني د.ديلبروك أول حالة كذِب مرضي عام 1891، حيث وجد خَمسة من مرضَاه اعتادوا على قول أكاذيب كبيرة بصفة متكررة بشكل مفرط، وقد أطلق على هذه الحالة مُسمى (Pseudologia fantastica).
بما أن الثّقة عُنصر أساسي في العَلاقات، فإن الانتهاكات المتكررة لها تشير إلى مشاكل خطيرة. هناك العديد من الأشخاص الغير صادقين أحيانًا، لكن الأشخاص الذين يعَانون من الكذب المرضي يكذبون في جَميع الأحوال مهما اختلَفت الظُروف.
على عكس الإدلاء بكذبة بيضَاء لتجنب إيذاء مشَاعر شخصٍ ما أو تجنُّب الوقوع في المشَاكل، فإن الشَّخص الذي يُعاني من الكذِب المرضي يكذب دون أي سبب يذكر.
يمكنك أن تُخبر صديقَك على سبيل المِثال أن قصّة شعره الجديدة تبدو رائعَة، مع أنها تجعَله يبدو أكبر بعشْر سَنوات، لكنك لا تُريد أن تؤذي مشاعره. [2،4]
الكَذب المرضيّ والكذبة البيضَاء
في بحث سابق ذُكر أن الشخص يكذِب بمعَدَّل 1.65 كذبة كل يوم (بما يعادل كذبتين يوميا تقريبًا). مُعظم هذه الأكاذيب تدحل في نطَاق الكذبة بيضاء. [3]
الكذبة البيضاء
من حين لأخر، وتكون صغيرة، غير ضارة، بدون نية إيذاء، لعدم جرح مشاعر الآخرين أو تجنب الوقوع في المشاكل. على سبيل المثال:
- أن تقول أنك تعاني من صداع كي لا تحضر الاجتماع.
- تقول أنك دفعت فاتورة الهاتف في حين أنك قد نسيت.
- لا تذكر السبب الحقيقي الذي أخرك عن الحضور إلى العمل. [3]
الكذب المرضيّ
يُسرد بصفة متكررة، بدون سبب واضح، يظهر فيه الراوي بطلًا خارقًا أو ضحية، لا يحس بالذنب لكذبه. على سبيل المثال:
- يخلق تاريخ من العدم، كادعاء أنه حقق شيئًا ما وهو في الواقع لم يفعل.
- ادعاء أنه يعاني من مرض خطير يهدد حياته ولكنه في الواقع لا يعاني منه.
- سرد أكاذيب لإبهار الآخرين مثل ادعاء معرفتهم لشخص مشهور. [3]
ما هي أسباب الكَذب المرضيّ؟
هُناك عدد قليلٌ من الأبحاث في هذا المَجال، فسببُ الكذِب المرضي غيرُ معروف، ولكنه عَرَضٌ لعدة اضطرابات أخرى، فهو علامة على وجود العديد من الاضطرابات السُلوكية والنفسيَّة، حيث يُصنف الأطباء اليوم الكذب المرضيّ على أنه أحد أعراض اضطرابات الصِّحة العقلية المُختلفة، وقد وجَد الباحثون ارتباطًا وثيقًا بين الكذب المرضي واضطرابات الشخصية ومنها: [5،4،2]
1) اضطراب المرض المفتعل (بالإنجليزيَّة: Factitious disorder)
والذي يطلق عليه أحيانًا متلازمة مونشهاوزن (بالإنجليزيَّة: Munchausen’s syndrome)،هو حالة يتصرَّف فيها الشخص كما لو كان مريضًا جسديًا أو عقليًا عندما لا يكون كذلك.
تحدث متلازمة مونشهاوزن بالوكالة (بالإنجليزيَّة: Munchausen’s syndrome by proxy) عندما يكذب شخصٌ ما حول شخصٍ آخر يعاني من مرض. هذه الحالة أكثر شيوعًا بين الأمهات اللواتي يتظاهرن بمرض أطفالهن ويكذبون على الطبيب بشأنه. [5]
أسباب اضطراب المرض المفتعل غير معروفة، ولكن هناك بعض النظريات لتفسرها:
- أسباب بيولوجية أو وراثية.
- الإساءة أو الإهمال في مرحلة الطفولة.
- التقليل من احترام الذات.
- وجود اضطراب في الشخصية.
- تعاطي المخدرات.
- الاكتئاب.
2) اضطرابات الشخصيّة
يعد الكذب المرضي أحد الأعراض التي تدل على اضطرابات شخصية معينة، بما يشمل:
اضطراب الشخصيّة النرجسيّة (بالإنجليزيَّة: Narcissistic Personality Disorder):
إحساس مُبالغ عن أهمية النفس هو السمة المميزة للشخصيّة النرجسيّة، وقد يتمثل في أكاذيب عن إنجازات أو علاقات، والحاجة إلى إثارة الإعجاب والمعاملة الخاصة. [4,5]
اضطراب الشخصية الحديّة (بالإنجليزيَّة: Borderline personality disorder):
هي حالة تجعل من الصعب على الشخص تنظيم عواطفه. قد يعاني الأشخاص المُصابون باضطراب الشخصية الحديّة من تقلبات مزاجيّة حادّة، ويشعرون بقدر أكبر من عدم الاستقرار وانعدام الأمن، وليس لديهم شعور مستقر بالذات. [4]
قد يكذب الشخص المُصاب باضطراب الشخصيّة الحديّة أو النرجسيّة لتجميل الواقع وتحويله إلى شيء يتناسَب مع المشَاعر التي يُحسُّ بها بدلاً من كونها حقائق. [5].
اضطراب الوسواس القهري (بالإنجليزيَّة: Obsessive Compulsive Disorder):
تم ملاحظة الكذب المرضي لدى بعضهم كمحاولة لتغطية أعراض الوسواس القهري لديهم. [4]
اضطراب القلق (بالإنجليزيَّة: Anxiety Disorders):
قد يلجأ الأشخاص الذين يعانون من القلق والخوف من الرفض بشكل مرضي للكذب كوسيلة لمُحاولة حماية نفسهم الحساسة. [4]
اضطراب الشخصيّة المُعادية للمجتمع (بالإنجليزيَّة: Antisocial Personality Disorder):
غالبًا ما يُظهِر الأشخاص المُصابون بهذا الاضطراب الكذِب المرضيّ كعَرَضٍ رئيسي، وقد يستخدمون الأكاذيب ليتلاعبوا بالآخرين من أجل تحقيق مكاسب شخصيّة أو الحصول على المتعة. [3،5]
من النادر أن يشير الكذب المرضي إلى الذهان (بالإنجليزيَّة: Psychosis)، فهم غير منفصلين عن الواقع، كما يمكن أن تؤدي اضطرابات الشخصيّة هذه إلى تحديات كبيرة في العلاقات الشخصيّة. [2]
3) الخرف الجبهي الصدغي (بالإنجليزيَّة: Frontotemporal dementia)
وجدت دراسة سابقة لشخص تظهر عليه علامات الكذب المرضيّ أن أنماط سُلوكه كانت مشابهة لتلك التي تحدث مع مريض الخَرف الجبهي الصدغي. إن الخرف الجبهي الصدغي هو شَكل من أشكال الخَرف الذي يؤثر على مناطق الدماغ الأماميّة والصدغيّة ويسبب تغيرات في السلوك واللغة. [5]
4) عوامل أخرى
قد تؤثر عوامل أخرى أيضًا على تطور الكذب المرضي. على سبيل المثال يمكن أن تؤدي صدمة أثناء الطفولة إلى اعتماد المُصاب على الأكاذيب ليُنشئ شخصية يمكنها تحمُّل البيئة السلبية التي يعيش داخلها، وهي عادة يمكن أن تستمر معه حتى مرحلة البلوغ. [4,2]
يعتقد بعض العلماء أيضًا أن مستويات الهرمونات المختلفة وخاصة مستويات هرمون التستوستيرون العالية (بالإنجليزيَّة: Testosterone)، ومستويات الكورتيزول المنخفضة (بالإنجليزيَّة: Cortisol)، تلعب دورًا في ما إذا كان هذا الشخص سيصبح كاذبًا بشكل مرضي أم لا. [4]
أعراض الكذب المرضيّ
- يتحدث المريض عن تجارب وإنجازات حيث يظهر فيها مظهر البَطل، وهو أحيانًا الضحيَّة في بعض القِصص ويبحث عن التعَاطُف، دائما ما يتحدثون عن صحتهم وثرائهم ووظيفتهم.
- يسردون القصص بوضوح شديد وتفاصيل مبهرة، أكاذيبهم المختلقة معقدة ودرامية ومفصَّلة ومقنعة وقابلة للتصديق.
- يسردون الأكاذيب بدون أي سبب أو منفعة، يكذبون لأجل الكذب فقد أصبح عادة متأصِّلة لديهم.
- يصدقون أكاذيبهم، يقول الخبراء أنهم ما عادوا يميزون الكذب فهو عادة ملازمة لهم.
- يردون على الأسئلة بسرعة ولكن تكون إجاباتهم غامضة ولا تفي السؤال.
- قد يكون لديهم رواية مختلفة لنفس القصة والتي تنتج عن نسيانهم لبعض التفاصيل الصغيرة لدى سابقتها. [4،3]
لماذا يثير هؤلاء إعجاب الآخرين؟
يُعتبر الذين يعانون من الكذب المرضي رُواة قِصصٍ وممثلين بارعين، إنهم يعرفون كيف يأسِرون جُمهورهم من خلال رواية قصص مُفصَّلة ورائعة مُفعمة بالحيويّة.
إضافة إلى ذلك يُفتن الناس أيضًا بدوافع هذا الشخص إلى الكذب، من الطبيعي أن ترغب في معرفة سبب كذبهم، خاصةً عندما لا يبدو أن هناك سببًا واضحًا له. [3]
تشخيصُ الكذب المرضيّ
يستخدم بعض المُتخصِّصين جهاز (Polygraph) المعروف بـ «اختبار كشف الكذب»، والذي يقيس علامات المريض الحيوية أثناء طرح العديد من الأسئلة عليه. ليس الغرض منه الإمساك بهم وهم يلقون إحدى أكاذيبهم، وإنما مَعرفة المدى الذي يستطيعون فيه التغلُّب على الجهاز، وهذا يوضِّح أنهم يصدِّقون أكاذيبهم أو أنهم أصبحوا جيِّدين في استخدام تدابيرَ أُخرى لإقناع الآخرين بها. كما يقوم المختصَُون أيضًا باستجواب أفراد العائلة والأصدقاء عند تشخيص الكذب المرضيّ. [3]
ما هو العلاج؟ وكيف يمكنك تقديم المساعدة لشخص يعاني من الكذب المرضيّ؟
بالنسبة للبالغين قد يكون الكذب المرضيّ حالة مُستعصية في العلاج، حيث أصبح الكذب لديهم عادة تلقائيّة. قول الأكاذيب قد يحفِّز مركز المكافأة في الدماغ (بالإنجليزيَّة: Risk and reward center)، مما يعني أن نشوة الكذب والإحساس بإنجاز أنهم قد أفلتوا بفعلتهم يُصبح إدمانًا على المدى الطويل. هذا الإدمان إلى جانب وجود اضطرابات نفسيّة وعقليّة أخرى قد يحولان بين المريض وطلب العلاج.
ولذلك فإن العائلة والأصدقاء يُعدَّان المصدر الأساسي للدعم والتشجيع لهؤلاء الأشخاص الذين يعانون من الكذب المرضي من أجل طلب المساعدة والتوجه للطبيب المختص. [2،4]