شهدت اللغة المصريّة على مرِ العصور مراحلَ مختلفًة من التطور اللغويّ، بدايًة من الهيروغليفية مرورًا بالهيراطيقيّة والديموطيقيّة وانتهاءً بالقبطيّة التي تعد إحدى أقدم لغات العالم قاطبةً وجزءً لا يتجزأ من تاريخ الحضارة والثقافة المصرية.
أصل اللغة القبطية
يرى بعض العلماء أن اللغة القبطية تنحدر من اللغة المصرية المتأخرة التي شاع استخدامها في القرن السادس عشر قبل الميلاد. على حين يرى آخرون احتمالية كون القبطية اللغة الأصل التي استخدمها قدماء المصريين من العامة في الوقت الذي كانت فيه الهيروغليفيّة خاصًة بالكهنةٍ والكتبة، مستدلين على ذلك بعدم وجود أي وثائق تاريخية شعبية مدونةً بالهيروغليفية.(5) على أن أغلب المؤرخين يرون أن كِلتا اللغتين تعاصرتا معًا منذ القدم، فظهور اللغة القبطية كلغةٍ كاملةٍ كانت عمليةً تدريجيةً على فتراتٍ طويلةٍ تواجدت فيها لغتين وثلاثة معًا. ويرجحون تبعية القبطية للديموطيقيّة نظرًا لأن البرديات القبطية المكتشفة حتى الآن تعود إلى أوآخر القرن الثالث قبل الميلاد وأوائل القرن الرابع، وبالعلم أن اللغة المصرية امتدت من القرن السابع إلى القرن الخامس قبل الميلاد، فلا نخطئ القول إذا افترضنا نشأة اللغة القبطية في القرن الثاني قبل الميلاد.(2)
تكوين اللغة القبطية
ورغم انحدار القبطية عن الديموطيقيّة في الأصل، إلا أنها تأثرت باليونانية بشكلٍ كبير، فالديموطيقية لغةٌ شديدة الصعوبة فيما يخص العلامات الصوتيّة وعلامات الحركة والكتابة، فكان المصريون يميلون لاستخدام الحروف اليونانية في الكتابة ليُسرها بما لا يقاس. ويظهر هذا التأثر في كثيرٍ من المفردات اليونانية نجدها مقتبسة في القبطية، وطريقة الكتابة من اليسار إلى اليمين التي يعود أصلها إلى اليونانية، إلى جانب سبعة حروفٍ أساسية تم تحويرها من الديموطيقية لتتوافق وشكل الحروف اليونانية(5)(7).
المراحل التاريخية للغة القبطية
تعد اللغة القبطية رمزًا لصمود الهوية المصريّة، ليس فقط لأنها كانت اللغة الأكثر استخدامًا من الشعب المصري لما يربو على اثني عشر قرنًا، بل لأنها قاومت محاولاتٍ مختلفًة للتغيير والطمس.
ففي الفترة من العام 323 ق.م وحتى 30 ق.م، عانى القطر المصري من احتلال البطالمة له والذين فرضوا اليونانية كلغةٍ رسميةٍ للبلاد وحاولوا تعميمها بجعلها لغة التراجم لاسيما ترجمة التوراة التي تعرف بالترجمة السبعينية. وتبعهم الرومان في ذلك المنهاج لكن ظلت القبطية لغة الشعب(7) لتمر القبطية بعدها بمرحلة قوةٍ، أو بالأحرى مرحلة ذروتها وقوتها في أوآخر العصر البيزنطيّ وأوائل العصر العربيّ عندما دخلت المسيحية مصر على يد «مارمرقس الرسول»، فأصبحت اليونانية مقتصرةً على يونان مصر ومتعلميها، ومستخدمةً في بعض الأمور الإدارية والتاريخية فقط، وأيضًا في بعض أسْفار العهد الجديد من الكتاب المقدس وكتابات آباء الكنائس الأولين في قرون المسيحية الأولى. وكلما انتشرت المسيحية بين عامة الشعب انحسرت اليونانية وانتقل دورها الثقافي إلى الأديرة المسيحية(7).
وساهم في ذلك المؤسس الحقيقيّ للكنيسة القوميّة المصريّة أو من يعرف باسم رئيس المتوحدين الأنبا «شنودة» (346-465م)، حيث قام بمجهوداتٍ عظيمة للنهوض بالتراث القبطي وإحلاله محل اليونانيّ. كما ساهم في ذلك أيضًا تحريم الإمبراطور «ثيودوس» للديانات الوثنية في عام (389م) ما جعل المسيحيّة هي الديانة الرسميّة للحكومة مُبطلًا بذلك الهيروغليفيّة والديموطيقيّة بشكلٍ نهائي. فكانت القبطية هي لغة البِشارة المسيحية ولغة الشعب والدولة والكنيسة معًا(1).
بعد الفتح الإسلاميّ لمصر؛ استمرت القبطية على الحال ذاته، فكان الحكام يستخدمون المترجمين للتفاهم مع المصريين حتى العام 706م، الذي صدر فيه مرسوم من والي مصر آنذاك «عبد الله بن عبد الملك» (670-750م) بتعريب الدواوين المصرية(4).
بعد ذلك بحوالي قرن ونصف، أصدر الخليفة «المتوكل» (847-861م) أمرًا بتعليم اللغة العربية ليهود الشعب المصري ومسيحييه، الأمر الذي لم يثنِ الشعب المصري عن استخدامه للغة القبطية. حتى صدر حُكم الخليفة «الحاكم بأمر الله» (996-1020م) بمنع استخدام القبطية في الطرق والمنازل(4).
كان لذلك كبير الأثر في تراجع اللغة القبطية لصالح العربية حتى أمر البطريرك السبعين للكنيسة المصرية البابا «غبريال بن تريك» بقراءة الأناجيل والعِظَات الكنسيّة بكلتا اللغتين تيسيرًا على المتلقين من متتبعيّ العبادة ممن يجيدون واحدةً دون الأخرى. وساعد ذلك في الحفاظ على اللغة والثقافة القبطية داخل الكنيسة التي عممت استخدام القبطية داخل أروقتها حتى لم يصبح للعربية دور فيها سوى ترجمة فصول القراءات الكنسية من رسائل ومواعظ(4) وكان ذلك في العام الثاني عشر الميلادي، إذ بدأ انحسار القبطية يشتد في القرنين التاليين خاصةً في الوجه البحريّ، أما الوجه القبليّ فقد استمر فيه تمكن اللغة القبطية حتى القرن الخامس عشر من الميلاد خاصةً في الأوساط المسيحية التي تكاد لا تتكلم إلا القبطية مع معرفٍة تامٍة بالرومية(4).
دور الكنيسة في الحفاظ على اللغة
استمر هذا الضعف حتى عهد البطريرك العاشر بعد المائة «البابا كيرلس الرابع» (1854-1861) الملقب بـ«أبو الإصلاح» نظرًا لما أظهره من اهتمام بالغ باللغة القبطية حتى قبل توليه الكرسي المرقسيّ. فأمر بتدريس اللغة في المدارس القبطيّة التي أنشأها، وشدد على استخدامها في الصلوات الكنسيّة، حتى أنه أمر بعدم صرف رواتب القساوسة إلا حال إتقانهم خدمة القداس باللغة القبطية وغيرها من الجهود التي حفظت هذه اللغة حتى اليوم(4).
ولم يكن البابا «كيرلس الرابع» آخر من حاول النهوض بها بل كان رائدًا لحركة إحياء اللغة القبطية في العصر الحديث التي تبعه فيها البطريرك السادس عشر بعد المائة «البابا كيرلس السادس»، والبطريرك السابع عشر بعد المائة البابا «شنودة الثالث»، والأب «متى المسكين» وغيرهم من الجهود المخلصة. والحق أن دور الكنيسة المصرية لا يقتصر فقط في الحفاظ على اللغة القبطية، بل كان لها الفضل في تثبيت الأبجدية القبطيّة المكتوبة والمنطوقة كما نعرفها اليوم، فحتى القرن الثاني الميلادي كان الإنجيل المكتوب يوناني اللغة ومُترجمًا للقبطية شفهيًا فقط حتى قام العلامة «بنتينوس» مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية بترجمته للقبطية مستعينًا بالحروف اليونانيّة والديموطيقيّة في عهد البطريرك الثاني عشر البابا «ديمتريوس» (189-232) بترجمة قبطية للكتاب المقدس(2).
إشكالية صوتيات اللغة القبطية
في رحلته للإصلاح القبطي عيًن البابا «كيرلس الرابع» القمص «تكلا» لتدريس اللغة القبطية والألحان الذي أخلف بعده المعلم «عريان أفندي جرجس مفتاح» الذي تبدأ من عنده الإشكالية(6).
تتبنى هذه الإشكالية رواية أن المعلم «عريان أفندي جرجس مفتاح» قد غَيَّر النطق القبطي الأصيل بنطق متأثر بالنطق الحديث للغة اليونانية والتي تختلف تمامًا عن اللغة القبطية سَلِسَةِ النطق في حدود العام 1858، مُحدثًا بذلك أزمةً كبيرةً في بناء اللغة القبطية التي يختلف دارسوها ومتحدثوها الآن على النطق القبطيّ الأصيل(6).
يتضح ذلك في عدم سلاسة النطق الحديث الذي لا تستسيغه الحنجرة القبطيّة، حرف الثاء مثالًا، فالنطق القديم يستبدله بحرف التاء العربي، نرى ذلك واضحًا في بعض الأعلام القبطية مثل: «بسطوروس» الذي تحول إلى «بياستافورس» أو «تواضروس» الذي تحول إلى «ثيؤذوروس» وغيرها من الأمثلة(3).