لم تزل ثقيفٌ تُثري التّاريخ بأبنائها المؤثّرين من ذوي السّيادة أمثال عروة بن مسعودٍ سيّد ثقيفٍ في حرب الفجّار وعظيم القريتين في اﻵية:
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزّخرف-31)
أو من ذوي الدّهاء والفراسة أمثال المغيرة بن شعبة داهية العرب، والي معاوية ومعاونه، أو ذوي النّفوذ والرّياسة أمثال الحجّاج بن يوسف الغنيّ عن التّعريف، أو ذوي الشّجاعة أمثال أبي عبيدٍ بن مسعودٍ شهيد معركة الجسر ضمن معارك فتح بلاد فارس ووالد رجلنا المعنيّ.
نسبه
هو المختار بن أبي عبيدٍ بن مسعودٍ بن عمرو بن عُميرٍ بن عوفٍ بن عَقَدَة بن عَنَزَة بن عوفٍ بن ثقيفٍ. وُلِد في العام الأوّل للهجرة. والده من زعماء بني ثقيفٍ، أسلم في حياة النّبيّ محمّدٍ (ص)، ولكن اختلفت الرّوايات في صحبته للنّبيّ. استعمله عمر بن الخطّاب على أحد الجيوش الفاتحة للعراق، وإليه تُنسب معركة جسر أبي عبيدٍ الّتي استُشهد فيها هو وابنيه: مالكٌ ووهبٌ.[1،2،3]
أخباره
لم يُعرف عن حياته الأولى كثير أخبارٍ؛ ولكن ما لبث أن اشتدّت الحوادث حتّى صار للمختار فيها شأنٌ وأيّ شأنٍ. فكان له في كلّ حادثةٍ محيطةٍ به رأيٌ فذٌّ، وإن اختلفنا على مدى صواب آرائه فلن نختلف على مدى تأثيرها.
خبره مع الحسن بن علي
كان ذلك في عام (40) هـ بعدما تفرّق النّاس عن سبط رسول اللّه وانتهى به الأمر في المدائن، وكان واليها آنذاك سعدٌ بن مسعودٍ عمّ المختار؛ فأشار الأخير على عمّه بأن يوثق الحسن ويقدّمه إلى معاوية، ولكنّ عمّه نهره على رأيه ذا واستقبح أن يوثق ابن بنت رسول اللّه ويقدّمه لعدوّه.
على الرّغم من اتّفاق ابن كثيرٍ والطّبريّ وابن الأثير على تلك الرّواية إلّا إنّ الخوئيّ يشكّك فيها ويبرّر رأي المختار في حال صحّت الرّواية بأنّ المختار إنّما أراد اختبار عمّه لتأمين الحسن.[4،5،6،7]
خبره مع الحسين بن علي
لمّا دعا أهل العراق الحسين للخروج ووعدوه بنصرته، أرسل لهم ابن عمّه مسلمٌ بن عقيلٍ بن أبي طالبٍ ليستوثق منهم ويأخذ منهم البيعة. ولمّا وصل مسلمٌ العراق استقبله المختار في بيته وأكرمه، ولكنّ والي الكوفة عبيد اللّه بن زيادٍ أمر بقتل مسلمٍ بن عقيلٍ وتتبّع كلّ من بايعه. وكان المختار ممّن جاهر بنصرة مسلمٍ والحسين فكان نصيبه السّجن. وظلّ في محبسه حتّى بعد معركة كربلاء الّتى استشهد فيها الحسين. أرسل إلى زوج أخته عبد اللّه بن عمر ليشفع له عند يزيد بن معاوية لما لابن عمر من مكانةٍ عنده، فشفع له وأخرجه من سجنه.[4،5]
خبره مع عبد الله بن الزبير
يروي ابن الأثير أنّ المختار بعد مقتل الحسين وتسلّط عبيد اللّه بن زيادٍ عليه لم يجد بدًّا من اللّجوء لابن الزّبير في الحجاز، وكان النّاس هناك قد اجتمعوا عليه وبايعوه سرًّا. ولكنّ ابن الزّبير أخفى عن المختار أمر البيعة ولم يحدّثه بها، فكتمها المختار في نفسه وتركه قاصدًا الطّائف لمّا وجد منه من استغناءٍ عنه، وظلّ مدّةً في الطّائف بعيدًا عن الأحداث. ولكن أنّى لمثله بترك الأحداث دون التّأثير فيها؛ فلم تنقضِ السّنة إلّا وهو في مكّة يجوب شعابها ووديانها ويصلّي بمسجدها الحرام ولكن دون قصد ابن الزّبير.
فلمّا رأى عبد اللّه منه ذلك تفطّن لما يدور في نفسه فبادره بالتّواصل بأن أرسل إليه يطلب مقابلته وبيعته، فأجابه للأولى واشترط للثّانية ألّا يقضي ابن الزّبير أمرًا دونه، وأن يولّيه الكوفة حال ظهوره على منافسيه، فقبل منه على شروطه. أقام عنده وقاتل دونه حينما حاصر الحصين بن نميرٍ مكّة، فكان خير عونٍ لابن الزّبير في معاركه. ولمّا مات يزيد بن معاويةٍ ودانت العراق لابن الزّبير ظنّ أنّه لم يعد بحاجةٍ للمختار فتباطأ في إنفاذ شرط البيعة. فتركه المختار وتوجّه للكوفة بعدما علم أمر شيعة عليٍّ بها، الّذين ينتظرون من يقودهم لطلب الثّأر.
ويذكر ابن الأثير قولًا آخر في خروج المختار للكوفة، وهو أنّ المختار قال لابن الزّبير وهو عنده: إنّي أعلم قومًا لو أنّ لهم رجلًا له فقهٌ وعلمٌ بما يأتي ويذر لاستخرج لك منهم جندًا تقاتل بهم أهل الشّام. قال: من هم؟ قال: شيعة عليٍّ بالكوفة. قال: فكن أنت ذلك الرّجل. فبعثه إليهم.[4]
خبر إمرته على الكوفة
اجتمع عليه كثيرٌ من شيعة عليٍّ حال وصوله لِما رأوا منه من بكاءٍ على الحسين ومجاهرةٍ بالرّغبة في الأخذ بثأره. وزاد على ذلك إخباره -أو ادّعاؤه طبقًا لرواية الطّبريّ وابن كثيرٍ- بأنّه مكلّفٌ من قبل محمد بن الحنفيّة؛ فبايعوه سرًّا. وبذلك انقسم شيعة عليٍّ في الكوفة بين المختار وسليمان بن صُرَدٍ قائد جيش التّوّابين، الّذي خرج لقتال عبيد اللّه بن زيادٍ للتّكفير عن تخاذلهم عن نصرة الحسين والذّود عنه. ولكن ما لبث أن اندحر ذلك الجيش وقُتل قائده، فعادت الشّراذم النّاجية منها ولم تجد أمامها سوى المختار.
فلمّا رأى والي ابن الزّبير على الكوفة إبراهيم بن محمّدٍ بن طلحةٍ تجمّع النّاس حول المختار، خاف أن تقوى شوكته فأمر بحبسه. لم يُضع المختار فرصةً حتّى وهو في محبسه، فأرسل إلى أصحاب سليمان يُمنّيهم ويعدهم قائلًا:
أَبْشِرُوا، فَإِنِّي لَوْ قَدْ خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ جَرَّدْتُ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مِنْ أَعْدَائِكُمُ السَّيْفَ، فَجَعَلْتُهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ رُكَامًا، وَقَتَلْتُهُمْ فَذًّا وَتَوْأَمًا، فَرَحَّبَ اللَّهُ بِمَنْ قَارَبَ مِنْكُمْ وَاهْتَدَى، وَلَا يُبْعِدُ اللَّهُ إِلَّا مَنْ أَبَى وَعَصَى.
فلمّا وصلهم الكتاب استحسنوا رأيه وعرضوا عليه أن يخرجوه من محبسه بالقوّة، لكنّه آثر تأجيل الصّدام العسكريّ إلى حينٍ. وأرسل لصهر عبد اللّه بن عمر يطلب شفاعته لإخراجه من السّجن، فأجابه ابن عمر لطلبه وتشفّع له عند ابن الزّبير. فخرج من السّجن واجتمع النّاس حوله.[5,6]
خبره مع إبراهيم بن الأشتر
يروي ابن كثيرٍ أنّ النّاس لمّا اجتمعوا على المختار أشاروا عليه بأنّ الأمراء كلّهم ضدّه، ولكن إن استمال إبراهيم بن الأشتر ناحيته كفاه إيّاهم. فأرسل المختار لابن الأشتر يدعوه للخروج معهم فكان ردّه: «قَدْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ، عَلَى أَنْ أَكُونَ أَنَا وَلِيَّ أَمْرِكُمْ.» فأخبره المختار أنّ ابن الحنفيّة هو وكّله بذلك فلا يمكن ذلك، فقبل منه ابن الأشتر وبايعه.[5]
يا ثارات الحسين
اتّفق المختار وابن الأشتر على الخروج لطلب ثأر الحسين من قاتليه في ربيعٍ الأوّل من عام (66) هـ. فعبّأوا الجيش وخرجوا على أمراء الكوفة وحاصروا واليها ابن مطيعٍ في قصره إلى أن هرب. وبذا دانت لهم الكوفة فسعوا لقتل كلّ من شارك في مقتل الحسين، أمثال: عمر بن سعدٍ بن أبي وقّاصٍ، وشَمِر بن ذي الجوشن، وعبيد اللّه بن زيادٍ، والحصين بن نميرٍ، وخوليٌّ بن يزيدٍ.[5]
مقتله
يذكر المؤرّخون أنّ المختار لم يزل مُظهِرًا موافقة ابن الزّبير حتّى قدم مصعبٌ بن الزّبير إلى البصرة في أوّل سنة (67)هـ، فأظهر مخالفته. فسيَّر ابن الزّبير أخاه إلى المختار ليقاتله. توجّه إليه مصعبٌ وقاتله إلى أن انفضّ النّاس من حول المختار فحاصره في قصره أربعة أشهرٍ وقتله في الرّابع عشر من رمضان لعام (67) هـ.[5,8]
اختلاف أهل السنة والشيعة عليه
تثير شخصيّة المختار الكثير من الجدل. وكذا يكون معظم الرّجال المؤثّرين في التّاريخ. فالشّيعة يجلّونه لأخذه بثأر الحسين وقتله معظم من شارك في مقتله، فتروي الرّوايات الشّيعيّة مدح الأئمّة له، مثل قول الإمام محمّدٍ الباقر:
«لا تسبّوا المختار فإنّه قتل قتلتنا، وطلب ثأرنا، وزوّج أراملنا، وقسّم فينا المال على العسرة»
وقول الإمام عليٍّ زين العابدين حين جيئ إليه برأس عبيد اللّه بن زيادٍ: «الحمد للّه الّذي أدرك لي ثأري من عدوّي وجزى اللّه المختار خيرًا»؛ فيما يتّهمه أهل السّنّة بالكهانة وادّعاء النّبوّة، ويشيرون إلى أنّه الكذّاب المقصود بحديث النّبيّ (ص): «إنّ في ثقيف كذّابًا ومُبيرًا». [5,9,10]
وظلّ المختار أحد هولاء المُختلَف عليهم في التّاريخ الإسلاميّ، فلا نملك ترجيح رأيٍ على الآخر لما لكلٍّ منهم من أدلّةٍ معتبرَةٍ. ولكن نكتفي بالاستفادة ممّا يقدّمه لنا السّرد التّاريخيّ من دروسٍ.