النظام الجبري في المنطق (الجزء الخامس)

حديث-1

الجبر البولياني

بعد تعرضنا فى المرة السابقة لأفكار ليبنتز فى المنطق وكيف زاوج بين المنطق وقواعد الرياضيات المجرده متحررا من قواعد أرسطو في الإستنباط وكيف أكمل بولزانو التحرر من فلسفة المنطق الأرسطية، واضعا فلسفة متكاملة للمنطق الحديث. كانت الخطوة التالية هى وضع نظام منطقي معتمدا على قواعد الرياضيات يمكن فيه تمثيل نظام أرسطو المنطقي كاملا بحيث يعتبر منطق أرسطو ما هو إلا حالة خاصة من نظام منطقي أشمل وأقوى وأكثر قدرة على التعبير عن الحالات الواقعية في العالم المحيط. وقد أستطاع الرياضي الإنجليزي بوول (Boole) في فعل ذلك بإستعمال بعض العمليات الجبرية البسيطة، مكملا طريقة ليبنتز لنهايتها ومتلافيا كل العيوب السابقة.

 

لاحظ بوول أن المنطق الأرسطي يعتمد على دمج المقدمتين مع حذف المصطلح المشترك، كأنها معادلتين جبريتين يمكن حلهم مع بعض بتعويض واحدة فى الأخر فيختفى المصطلح المشترك. فأختار الجبر كأساس لنظامه المنطقى ونشر كتابه “التحليل الرياضى للمنطق” (Mathematical Analysis of Logic ) عام 1847 والذى وضع فيه القواعد الجبرية لتمثيل منطق أرسطو بأشكاله المنطقية الأربعة وكان هدف بوول من ذلك كما يقول فى كتابه “أن يحتوى منطق أرسطو تماما ثم يتجاوزه” وقد نجح فى ذلك بأنه:

  • وضع أساس رياضى بإستعمال المعادلات الجبرية لمنطق أرسطو.
  • تجاوز الحالات الواقعية التى يستطيع منطق أرسطو أن يعبر عنها إلى حالات أعم وأشمل.
  • المعادلات الجبرية قد تتعامل مع العديد من المتغيرات وليس متغيرين فقط مثل ما يفعل المنطق الأرسطى.

 

سنذكر مثالا على جملة منطقية فى نظام بوول ثم نحللها كما رأينا من قبل فى مقالة أسس النظم المنطقية. المثال يقول كل إنسان هو فان ويتم التعبير عنها بـ أ*(ك – ف) = 0

  • مكونات الجمل وتنقسم الى قيم متغيرة تشير لمجموعات (Classes)تحتوى على أعضاء قد يكونوا أسماء محددة (Singular Proper Nouns) مثل الشمس والقمر وغيرها أو أسماء كلية عامة (General Common Nouns) مثل الإغريق أو الفلاسفة وغيرها أو أسماء مجردة (Abstract Nouns) مثل العدل والقوة. فنجد فى المثال أ = مجموعة كل ما هو إنسان و ف = مجموعة كل ما هو فان.
  • مجموعة من العلامات الجبرية الحسابية مثل الضرب (*)(logical Multiplication) ويشير إلى تقاطع المجموعتين و طرح (-) (Logical Difference) ويشير إلى حذف الأشياء التى تنتمى للمجموعة الثانية من المجموعة الأولى وجمع (+)(logical Addition)  وهو إتحاد مجموعتين فيشكلان مجموعة تحتوى على كل أعضائهماوأخيرا المساواة (=) وهى تساوى مجموعتين بوجود نفس الأعضاء بينهما وبالتالى يمكن تبديلهم فى المعادلات بدون أى مشكلة. مثال لو أ = ب إذا أ * ج = ب * ج و أ + ج = ب + ج و و أ – ج = ب – ج
  • وثوابت منطقية فنجد ك تشير إلى “مجموعة كل ما يمكن التفكير فيه سواء موجود أو غير موجود” و 0 تشير إلى”مجموعة ليس بها شئ”. مثال أن أ * ك = أ و أ + ك = ك، مهما كانت أ. مثال أخر أن أ * 0 = 0 و أ + 0 = أ مهما كانت أ.
  • فمثلا (ك – ف) تشير إلى مجموعة كل ما يمكن التفكير فيه بعد حذف كل شئ فان منها فنستنتج أن (ك – ف) هى العكس التام لـ(ف) فتكون (ك-ف) هى مجموعة كل ما هو “ليس” فان وبالتالى ف * (ك – ف) 0 دائما.
  • والمثال كاملا يكون أ*(ك – ف) = 0 معناه أن تقاطع كل ما هو إنسان مع كل ما هو غير فان يعطينا مجموعة ليس بها شئ لأن كل إنسان هو فان.
  • نلاحظ أن بتحويل المنطق لعملية اندماج مماثلة للعمليات الرياضية بين الأرقام في الرياضيات. فقد أستطاع بوول أن يفعل ما حلم به ليبتنز، لأن العمليات الرياضية “واضحة جدا للرياضيين، فبمجرد نظرة واحدة لها يمكننا اكتشاف الخطأ في الإثبات الرياضي وعند حدوث جدال حول قضية معينة فمجرد الحساب نحصل على نتيجة ملزمة للجميع”. وبهذا أصبح المنطق سليما (Valid) بمجرد إتباعه لقوانين الإندماج الصحيحة (combination laws) لتكوين الجمل المنطقية بدون الإنتظار لنرى تفسير القيم المتغيرة أولا كما كنا نفعل فى نظام أرسطو، وسنرى ذلك بالتفصيل لاحقا فى المقالة.
  • نقل بوول بعض خصائص العمليات الجبرية لنظامه المنطقى مثل الإبدال (Commutation) فنجد أن أ + ب = ب + أ أو أ * ب = ب * أ. ومثل التوزيع فنجد أن أ + (ب * ج) = (أ + ب) * (أ + ج) أو أ * (ب + ج) = (أ * ب) + (أ * ج)
  • نجد أن قواعد الإستدلال فى النظام المنطقي (Inference Rules) هى معظم القواعد الجبرية العادية للتعامل مع المعادلات كما وضحنا فى النقاط السابقة، لكن بوول أضاف قانون أخيرا لنظامه يختلف عن الجبر الرياضى العادى وهو (idempotent law) الذى يقول أن أ * أ = أ دائما وحدد بوول أن قانونه يتعامل مع الرموز الفردية فقط مثل أ أو ب ولا يمكن تطبيقها على الرمو المعقدة مثل (أ + ب) أو (أ * ب). فلنفترض هذا سنجد أن (أ+ب)* (أ+ب) = (أ+ب) وبتطبيق قانون التوزيع على الجزء الأول نصل إلى (أ*أ) + (أ*ب) + (ب*أ) + (ب*ب) = (أ+ب) إذا أ + (أ*ب) + (ب*أ) + ب = (أ+ب) وبإستعمال قاعدة الطرح نصل إلى (أ*ب) = (ب*أ) = 0 وبالتالى لابد أن يكون أ وب مجموعات لا تتقاطع أبدا (disjoint)، ولكن فى الحقيقة قد تتقاطع المجموعات أو لا تتقاطع، فذا طبقنا هذا القانون على مجموعات متقاطعة سنصل لنتيجة خاطئة منطقيا. بل أن بوول أكتشف أيضا نفس المشكلة تظهر فى أ + أ = أ ، لأنه أيضا بإستعمال الطرح سنجد أن أ = 0 دائما وتلك مشكلة منطقية عويصة، لذا فلم يضع هذا القانون فى نظامه بل بدل قانون الإتحاد الذى كان على صورة( أ + ب) وجعله على صورة أ + (ب- أ)  ولكن ظلت هذة النقطة سببا بعض المشاكل التقنية فى النظام المنطقي الجبري وقد تم حلها لاحقا بحذف قاعدة الطرح تماما وإعادة قانون أ + أ = أ فى المنطق الحديث.

بعد أن إستعرضنا أهم النقاط فى نظام بوول المنطقى، لنرى كيف يتعامل مع المنطق الأرسطى ولنبدأ بالأشكال المنطقية الأربعة

  • كلية مثبتة (كل س هو ص) -< س*(ك – ص) = 0
  • خاصة مثبتة (بعض س هو ص) -<س*ص <> 0 أو س*ص = م حيث أن م هى مجموعة تحتوى على أعضاء
  • كلية منفية مثل (كل س ليس هو ص) -< س*ص = 0
  • خاصة منفية مثل (بعض س ليس هو ص) -< س*(ك – ص) <> 0 أو س*(ك – ص) = م حيث أن م هى مجموعة تحتوى على أعضاء

ولإكمال الصورة، سنطبق طرق الإستدلال الجبرية على مثال من المنطق الأرسطى، لنرى كيف يتعامل معه نظام بوول

فى المثال، المقدمتين هما (كل فيلسوف هو إنسان– كل إنسان هو فان) فماهى النتيجة؟

(كل فيلسوف هو إنسان) تتحول إلى س*(ك – ن) = 0

(كل إنسان هو فان) تتحول ن*(ك – ف) = 0

وتصبح خطوات الإستدلال لنصل للنتيجة كالتالى، لاحظ ان كل ما نفعله هو تعويض واحدة فى الأخرى لحذف المصطلح المشترك.

من المقدمة الأولى س*(ك – ن) = 0 = س*ك – س*ن = س – س*ن

نجمع س*ن على الطرفين س*ن + س – س*ن = س*ن

فنحصل على س = س*ن ( نتيجة أولى)

من المقدمة الثانية ن*(ك – ف) = 0 = ن*ك – ن*ف = ن – ن*ف

نجمع ن*ف على الطرفين ن*ف + ن – ن*ف = ن*ف

فنحصل على ن = ن*ف (نتيجة ثانية)

نصل لأهم خطوة وهى أن نعوض بالنتيجة الثانية فى النتيجة الأولى فنحصل على س = س*ن*ف وحيث أن س = س*ن (نتيجة أولى)  فإن س = س*ف

وبطرح س*ف من الناحيتين س – س*ف = س*ف – س*ف = 0

وبأخذ س كعامل مشترك نحصل على س * (ك – ف) = 0 وبالرجوع لتحويل الشكل المنطقى الأول ، نجد أن تلك العبارة تعنى (كل إنسان هو فان) وهى النتيجة النهائية الصحيحة فى نظام أرسطو المنطقى.

وطبق بوول طريقته على كل الصور المنطقية فى نظام أرسطو، فأستطاع إثبات كل الصور الصحيحة منطقيا (Valid) ووجد أن كل الصورالخاطئة منطقيا (Invalid)تصل فى أخر الإثباتات إلى 0 = 0 دائما. وبهذا فقد أستطاع بوول تحويل نظام أرسطو المنطقى إلى حالة داخل نظامه المنطقى الأقوى والأوسع فى قدرته على التعبير عن الحالات الواقعية.

ويعتبر نظام بوول الجبرى (Boolean Algebra) هو أساس كل الدوائر الديجيتال التى تجدها فى الكمبيوتر. فكل الدوائر المنطقية تترجم الإشارات الكهربية إلى 1 أو 0 حسب قيمة الفولت الكهربى ( 1 يعنى فولت عالى و 0 يعنى فولت منخفض) ويستعمل هذا النظام الثنائى (Binary System) فى كل العمليات الرياضية والمنطقية التى هى أساس أى عملية تتم على الكمبيوتر. فبمجرد تعديل نظام بوول كالتالى

  • ك هى 1 أو صادقة
  • 0 هى 0 أو كاذبة
  • الضرب (*)(logical Multiplication) هو العملية المنطقية (and)وتفيد حدوث إفتراضين معا
  • جمع (+)(logical Addition) هو العملية المنطقية (or)وتفيد حدوث إفتراضأو الأخر أو الإثنين معا
  • حذف قاعدة الطرح من نظام بوول وعودةقانون أ + أ = أ
  • (ك – س) هى (نفى س) (Not) وهى العملية المنطقية الأخيرة فى الثلات عمليات الأساسية.

ثم جاء دى مورجن ووضع قاعدتيه الشهيرتين فى التحويل بين الضرب المنطقى والجمع المنطقى بإستعمال النفى وهما:

  • نفى (س * ص) = (نفى س) + (نفى ص)
  • نفى (س + ص) = (نفى س) * (نفى ص)

الجدير بالذكر أن العالم الرياضى فين (Venn) قد حول نظام بوول الجبرى إلى مجموعة من الأشكال (دوائر) (diagrams) تتقاطع معا، وبالتالى توضح العلاقات بين المجموعات (Classes)فى نظام بوول القديم أو قيم الحقيقة (Truth Values) فى النظام الثنائى الحديث. وكانت طريقة فينن تعتمد على رسم كل العلاقات الممكنة ويتم التعبير عنها بثلاث دوائر تتقاطع معا بكل إحتمالات التقاطع، ثم يحذف العلاقات الغير موجودة فى المقدمتين، حتى يصل لرسمة بها علاقة بين المحمول والموضوع والتى توضح النتيجة النهائية.

وبهذا أكمل بوول ودى مورجن ما بدأه الرواقيين فى القرن الخامس قبل الميلاد وحاول ليبتنز فعله، وبهذا النظام المنطقى الجبرى أنتهى المنطق الأرسطى تماما ووصلنا لأول صور المنطق الحديث وهو منطق القضايا أو منطق الإفتراضات (propositional logic) الذى يعتبر نواة المنطق الرياضى الحديث.

 

إعداد: Ali Reda

مراجع

Simple Formal Logic byArnold vander Nat

Introduction to Logic by Harry J. Gensler

The Development of Logic by William Kneale and Martha Kneale

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي