“الهروب الأعظم” الكتاب الذي حاز بسببه أنجوس ديتون على جائزة نوبل 2015 في الاقتصاد

قد يكون الحنينُ للاقتصاد القديم ذا دوافعٍ قوية، خصوصًا بعد مرور أكثر من خمس سنوات على الأزمة المالية وتداعياتها. حيث يشعر الناس في الولايات المتحدة بالحنين إلى منتصف القرن الـ 20، عندما تزايدت الطبقةُ الوسطى وأصبحت هي السائدةَ في المجتمع. وأيضًا أوروبا واليابان تعيدنا إلى فترة التسعينات، قبل نشأة اليورو وانفجار الفقاعة اليابانية. حتى في الصين والهند، وهما من الاقتصادات الأكثر ديناميكية في العالم، يحلو للبعض أن يحتفل بالوقت الذي كانت فيه الحياة لا يغلب عليها النموُّ السريع. هذا ما يحدثنا عنه جزءٌ من كتاب «الهروب الأعظم» لأنجوس ديتون (Angus Deaton).

يُعتبر كتابُ «الهروب الأعظم» أكبرَ إنجاز لأنجوس ديتون، وهو أستاذُ الاقتصاد المُبجَّل في جامعة برينستون، كرَّسَ حياتَه لوصف مشاكل العالم ودراستها؛ سواء عدم المساواة في الدخول في البلدان الغنية، أو المشاكل الصحية في الصين والولايات المتحدة، أو انتشار فيروس نقص المناعة البشرية في قارة أفريقيا. تدور أجزاءٌ كبيرةٌ من هذا الكتاب حول تلك المشاكل والحلول المحتملة لها. فمن خلال التساؤلات ذات المعنى الواضح – وهي كم المدة التي سوف نعيشها؟ وما مدى صحتنا وسعادتنا؟ وكم نعرف؟ – لم تصبح الحياة أفضل، هي فقط مهمة لاستمرار الحياة في التحسن، لذا وجب البحث عن حلول لها ودراسة إمكانية تنفيذها.

ويدرك ديتون بالتأكيد أن العديد من القراء سوف يعرضون هذه التساؤلات مع الشك، خصوصًا أولئك الذين يفضلون المال غالبًا على الاحتياجات الإنسانية الأساسية. لذلك فهو يخاطب هذا الشك مع رسم أوصاف شاملة حول مدى تَحسُّن الحياة. لقد ارتفع متوسطُ العمرِ المتوقعُ ارتفاعًا مذهلًا بمقدار 50% منذ عام 1900، وإلى الآن مستمرٌ في الزيادة. ورغم أن نتيجة ذلك كانت حدوث الانفجار السكاني، فإن نوعية الحياة قد ارتفعت؛ حيث انخفضت نسبةُ الناس الذين يعيشون على أقل من دولارَ واحدٍ يوميًا إلى 14%، بعد أن كانت 42% في عام 1981. ورغم زيادة عدم المساواة في العديد من الدول، ولكنها انخفضت بشكل كبير على مستوى العالم، ويرجع الفضل في ذلك إلى التقدم الحادث في آسيا. وكما قال ديتون: «كثيرٌ من الأشياء في تحسن مستمر، وبشكل كبير جدًا.»

ولقد وقَعَ كثيرٌ من التغيير السريع – على الأقل لقُرّاءِ ديتون في الولايات المتحدة وأوروبا – منذ فترةٍ طويلة. وفي العالم الصناعي ربما يكون من السهل التركيز على الأخبار السيئة (مثل الأجور بطيئة النمو وارتفاع السمنة) وعدم النظر إلى أحدث الابتكارات (مثل أحدث آيفون مثلًا). وهذا أيضًا قد يكون خطأً، فبالنسبة لبعض الناس تعثَّرَ التقدمُ باستخدام هذه السياسات. وعلى الجانب الآخر، بالنسبة لمعظم الناس فالتقدم يتحرك ببطء فقط ولكنه لم يتوقف.

ربما كان الأكثرُ إثارةً للإعجاب – وفي الوقت نفسه الأكثرُ إثارةً للقلق – هو أن التقدم بأي حال من الأحوال لا مفر منه. حيث قضت الإنسانية معظمَ تاريخِها ولم تحرز تقدمًا واحدًا يُذكر، سواءً فيما يخص طول مدة الحياة أو ارتفاع الدخول. حيث كتب ديتون: «محظوظون أولئك الذين نَجَوا من الموت في مرحلةِ الطفولة على مر آلاف السنين مواجهِين سنواتٍ من الفقر المُدقّع.» وقد كتب ديتون متحدثًا عن غياب التقدم وعدم حدوثه إلا منذ عقود قليلة مضت: «لقد كان أكبر تقدُّمٍ في الطب هو إيجاد علاجًا لأمراض القلب والسرطان منذ فترة ليست ببعيدة، خلال فترة ما بين الـ 20-30 عامًا الماضية. عندما عاد جِدّي من الحرب العالمية الأولى إلى منجم إسكتلندي وأصبح مشرفًا لنا، هرب بعد ذلك من النازيين إلى نيويورك، ولكن توفي بالسرطان عندما كان شابًا في عام 1950. فالطب الحديث لم يتقدم بهذه السرعة إلا منذ بضعة عقود. وبشكل أوضح، قد يكون معظمُنا اليومَ قد فَقَدَ على الأقل واحدًا من أفراد العائلة أو الأصدقاء بسبب غياب الابتكارات في العقود القليلة الماضية.»

«الهروب الأعظم» كان عنوانَ كتابِ ديتون مشيرًا بذلك إلى التحولات التي بدأتْ خلال عصر التنوير وجعلت التقدمَ سائدًا. لقد شَرَع العلماءُ والأطباءُ ورجالُ الأعمال والمسئولون الحكوميون في التجربة والبحث عن الحقيقة بدلًا من القبول بالأمر الواقع. وكأن إيمانويل كانط قد ألهمنا عندما قال في مصطلح التنوير أنه «الجرأة في أن تعرف! فكن شجاعًا لاستخدام مفهومك الخاص».

ويظل السؤال الهام الذي لا إجابة له هو: إلى أي مدى ستستمر سرعة هذا التقدم؟ فتفاؤل ديتون يخالطُه بعضُ الحذر، لأنه يعرف أيضًا المشاكل المتزايدة، ولا سيما الاحتباس الحراري العالمي الذي أصبحَ المشكلةَ الأهم من بين كل مشاكل العالم. «وإلى جانب تغيُّرِ المناخ، يتباطأ النموُّ الاقتصاديُّ وترتفع نسبةُ عدم المساواة في معظم الدول الغنية، تاركةً الطبقةِ الوسطى والفقراء لا يجنون إلا القليل من المكاسب. وذلك يوحي بانحرافٍ شديد في مسيرة التقدم، حتى في الولايات المتحدة، على الرغم من جودة الحالة الاقتصادية. إلا أن حال الغالبية العظمى من الأمريكيين – الـ 99 في المائة الأقل – أسوأ بكثير من الغالبية العظمى من الفرنسيين في العقود الأخيرة. وفي الوقت نفسِه قد يكون تباطؤ النموِّ الصينيِّ مجردَ بدايةٍ للأزمة، وذلك يمكن أن يجلب الاضطرابات السياسية الحقيقية، بما في ذلك الحرب.»

ولأن المعرفة تُعتبرُ المحركَ الأساسي للتطوير والتحسين والتقدم، يَخلُص ديتون، استنادًا إلى البيانات، إلى أن انتشار التعليم هو السبب الأقوى والأهم لحدوث طفراتٍ في معظم الدول الفقيرة، أكثر من ارتفاع الدخول. فعلى سبيل المثال؛ اختلاف أغنياء الهند عن أغنياء بريطانيا في عام 1860؛ فعلى الرغم من أن كليْهما غنيٌّ ولديه الكثيرُ من المال، إلا أن متوسط العمر المتوقع للأوروبي في منتصف القرن الـ 20 كان أعلى من نظيرِه في الهند. وذلك يؤكد على أن انتشار المعرفة حول الصحة العامة والطب والنظام الغذائي السليم سببُ هذا الاختلاف. ولسوء الحظ، أصبحتْ الحقائقُ والمعرفةُ تُقابَل بالاعتراض لدى كثيرٍ من الأصوليين بمختلف أنواعهم، حيث يمنعون العديد من الدول من إكمال الهروب الأعظم – الاتجاه نحو التقدم – الخاص بهم. وفي الغرب لا تزال العلومُ خاضعةً في بعض الأحيان إلى الأمر الواقع، بشأن تغير المناخ والتطور والسياسة الاقتصادية. فالطبقات العليا لدى كل من اليمين واليسار يتساءلون عن قيمة التعليم لعامة الشعب – الطبقات الدنيا – ويعارضون الكثيرَ من المحاولات لتحسين وتطوير المدارس، على الرغم من أنهم يقضون ساعاتٍ لا تُعد ولا تُحصى وينفقون الكثير من الدولارات لمعرفة أفضل تعليم ممكن لأطفالهم.

ورغم أن العديد من أكبر المشاكل الحالية- بما في ذلك النمو الاقتصادي والتعليم والمناخ – فلا تُجدي معها الحلولُ البسيطة. ولكن الأمر أيضًا ليس سهلًا، لأنه متعلقٌ بالهروب لقرون عديدة من الفقر والموت المبكر. فالقصة التي يريد أن يخبرنا بها ديتون – وهي القصة الإنسانية الأكثر إلهامًا على الإطلاق- يجب أن تدعو كلَّ واحدٍ مِنّا للتفاؤل، طالما نحن على استعدادٍ لخوض التجربة – الاتجاه نحو التقدم – واستخلاص النتائج.

إعداد: Amal Hussein
مُراجعة: Ali Adham
تصميم: Ahmed Eltobshy

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي