العامل الحاسم
ناقشنا في سلسلةِ مقالاتٍ سابقة المدارسَ العلمية المختلفة في دراسة التاريخ الإنساني تجدهم هنا: [1] [2] [3]، وانتهينا في ختام تلك السلسلة إلى أنه لا يُمكن التقيد باتجاهٍ واحد عند دراسة الإنسان بشكلٍ عام، وتاريخه المُدوَّن بشكلٍ خاص. في هذه السلسلة الجديدة نزور جانبًا آخر من التاريخ، ونلقي الضوء على عاملٍ يغفل عنه كثيرٌ من المؤرخين، إما لانشغالهم بالتأكيد على بسالة وألمعية القادة وحسن إدارتهم الأمور، أو لإغفالهم وجود هذا العامل من الأصل، في محاولةٍ لإثبات أن التاريخ تحكمه قوانين ثابتة بشكلٍ يمكن معه تفسير الوقائع ومعرفة أسبابها وفقًا لهذه القوانين.
في كتابه «دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ» يحاول (إريك دورتشميد–Erik Durschmied) أن يُسلِّط الضوء على تلك العوامل، التي رغم ضآلتها، تؤثر بشكلٍ مباشر في كثيرٍ من الوقائع بشكلٍ غيَّر مسار تلك الأحداث في اتجاهٍ جديدٍ وغير مُتوقعٍ على الإطلاق. خُلاصة ما يُريد دورتشميد الوصول إليه في كتابه، هو أن الكثير من الأحداث المحورية التي غيرت مجري التاريخ سواءً كانت معركة معينة، أو غزوًا لأحد البلدان، أو حتى قرارًا سياسيًا لأحد القادة، قد حُسمت بعاملٍ لا يمكن التنبؤ به أو قياسه، وهو ما يُطلق عليه العسكريون «العامل الحاسم»1.
في هذه السلسلة سنحاول إلقاء الضوء على ذلك العامل الحاسم في عددٍ من الوقائع التاريخية، بعضها قد يكون معروفًا لك عزيزي القارئ وبعضها الآخر قد تسمع عنه للمرةِ الأولى، لكن لا شك أنه في نهايتها لن ترى التاريخ كما تراه الآن على الإطلاق.
الجزء الأول.. من أجل برميل شنابس
كارانسيبيس 20 سبتمبر 1788
خلفية تاريخية
دخلت منطقة البلقان في حوزة الدولة العثمانية في أواخر القرن ال16، وظلت تحت السيطرة العثمانية للقرنين التاليين. في تلك الفترة –القرن ال 18- كانت الإمبراطورية العثمانية قد دخلت في طورٍ من الضعف، مما شجَّع كثيرًا من خصومها الطامعين في ممتلكاتها الواسعة على التوسع على حساب الإمبراطورية المتداعية. ففي عام 1774 هزمت روسيا الجيوش العثمانية وطردتها من شبه جزيرة القرم، وأُجبِرَت الدولة العثمانية على توقيع معاهدة (كوتشك كاينارجي – The Treaty of Küçük Kaynarca) والتي أعطت لروسيا امتيازاتٍ ضحمة على حساب العثمانيين. وعلى الرغم من الآثار المدمرة التي سببتها هذه المعاهدة للدولة العثمانية، فإن الأثر الأهم على الإطلاق أنها شكَّلت إعلان نهاية القوة العثمانية في المنطقة، مما عنى أن الإمبراطورية لم تعد قادرةً على الدفاع عن ممتلكاتها ضد أي غزوٍ أجنبي، وأن «الدولة العلية» قد أصبحت الآن ميدانًا مفتوحًا لللاعبين الطامحين.
المقدمات
قبل أن ندخل إلى الحدث نفسه ربما كان من الأفضل أن نلقي نظرة على الأوضاع المحيطة ب «رجل أوروبا المريض» في تلك الفترة. في روسيا كانت الإمبراطورة (كاثرين الثانية- Catherine the Great) تستعد لتجدد الحرب مع العثمانيين مرةً أخرى، ذلك أن الأطماع الروسية لم تكن قد توقفت عند البحر الأسود والقرم فحسب، بل كانت تمتد إلى ما وراء ذلك، إلى إسطنبول والبحر المتوسط، حيث كانت روسيا تسعى بكل قوتها إلى إنجاز وصية (بيتر الأكبر) مؤسس الإمبراطورية الروسية، بالوصول إلى «المياه الدافئة»، وفي سبيل ذلك بدأت روسيا استفزازَ العثمانيين لدفعهم إلى إعلان الحرب، حتى يكون غزوها مبررًا بداعي الدفاع عن النفس. على الجانب الآخر للـ«الرجل المريض» وبالتحديد إلى الغرب، كان (جوزيف الثاني – Joseph II) إمبراطور النمسا الطموح حليفًا للروس، وكان طموحه وإدراكه للحالة المزرية التي أصبحت عليها قوة العثمانيون، هو ما دفعه إلى توقيع معاهدة سرية مع الإمبراطورة كاثرين الثانية. نصت هذه المعاهدة على تدخل النمسا إلى جانب روسيا في حالة نشوب أي صراع مع الدولة العثمانية مستقبلًا. والحقيقة أنه، كما يخبرنا دورتشميد، أن الدافع وراء دخول جوزيف الثاني الحرب ضد العثمانيين لم يكن لمجرد الوفاء بالتزاماته تجاه حليفته القوية روسيا فحسب، وإنما يرجع ذلك في جانبٍ كبيرٍ منه إلى «طموح جوزيف الشخصي، ورغبته أن يتذكره التاريخ كقائدٍ عسكريٍّ فذّ على غرار مثله الأعلى فريدريك الأعظم ملك بروسيا»، وكان ذلك الظرف مثاليًا لجوزيف لكي يتمكن من تحقيق تلك الأحلام. ففي تلك الأثناء كانت فرنسا، حليف الدولة العثمانية التقليدي في مواجهة الأطماع الروسية التقليدية، مُنشغلةً بتدخلها في الحرب الثورية الأمريكية المشتعلة في المستعمرة البريطانية في ذلك الوقت، بالإضافة إلى أزمتها المالية الداخلية، وبالتالي لم تملك فرنسا سوى تحذير الدولة العثمانية من أن تورط نفسها في حربٍ ضد روسيا التي استعدت جيدًا لهذه للحرب، ولكن هذا التحذير لم يكن ليمنع المحتوم، ففي أغسطس 1887 وجهت إسطنبول إنذارًا إلى الروس بإخلاء شبه جزيرة القرم، الأمر الذي اعتبرته روسيا مبررًا لإعلان الحرب ضد الدولة العثمانية. وفي فبراير، وبعد أن تحركت قواته عبر الحدود بالفعل، تنبَّه جوزيف الثاني أنه قد نسي في تعجله نحو تحقيق مجده الشخصي أن يُبلغ الإمبراطورية العثمانية أنه في حالةِ حربٍ معها! ولكنه سرعان ما تدارك خطأه هذا بعد أن عبرت قواته حدود البلقان بالفعل، فأرسل إلى مبعوثه في إسطنبول رسالةً إلى الباب العالي نصها: «يؤسفني إبلاغك أن الباب العالي قد دخل حربًا مع حليفتنا كاثرين، وطبقًا للمعاهدات بيننا وبين روسيا، فإننا مُلزَمون بمساعدة الإمبراطورة، إني آمرك أن تُبلِّغ الباب العالي أننا أصبحنا في حالةِ حربٍ مع تركيا».
الحدث
إذا نظرنا إلى تلك الحملة ككل، سنجد أنها كانت تتجه نحو الفشل المؤكد، فمنذ البداية اُبتلِيَت حملة الإمبراطور جوزيف الطموحة من أجل المجد الشخصي بعدة كوارث. كان هدف النمساويين الرئيسي هو تحرير الأراضي الواقعة على نهر (سافا – Sava) الذي يمر عبر البلقان، ولكي يتحقق ذلك كان لا بُد من السيطرة على عددٍ من الحصون الواقعة على مجرى النهر، وعلى رأسها (بلغراد) وبالتالي ضم إقليم صربيا بالكامل للإمبراطورية النمساوية. وفي سبيل ذلك، حشدت الإمبراطورية جيشًا بلغ تعداده 245 ألف جندي، ومئات الأحصنة والمدافع. مع هذه الأهداف الطموحة، قد يبدو من المنطقي أن يُوكِل جوزيف مهمة قيادة الحملة إلى قادة أكفاء، يستيطعون إدارة جيش متعدد اللغات والقوميات مثل الجيش النمساوي، ربما كان هذا هو السلوك الأمثل في ظرفٍ كهذا، ولكن «رغبة جوزيف الجامحة في أن يقود جنوده إلى المعركة، ويحقق نصرًا مؤزرًا على البرابرة، بما يكفي لتخليد اسمه مع القادة العسكريين العظام أمثال الإسكندر وفريدريك الأكبر» لربما جعلته يخشى أن يسلب أحد قادته ذلك المجد المنتظر، أو ربما كان ذلك يرجع لعدم خبرته بالحرب، واعتقاده أن الحملة على الدولة العثمانية لا تتطلب مثل هؤلاء القادة، نظرًا لحالة الضعف الشديد الذي حل بتلك الإمبراطورية. وأيًّا كانت الأسباب، فإن الذي حدث، أنه بدلًا من أن يوكل قيادة هذه القوة العسكرية الضخمة لقائدٍ ذي خبرة، استبعد جوزيف قائده الفذ الوحيد، المارشال لاودن، وعهد بالحملة إلى جنرالات اشتهروا بالغباء والعجز، مثل المارشال لاكزي.
لم يكن من الصعب إذَن التنبؤ بمصير تلك الحملة منذ البداية، حتى أن النمساويين أنفسهم توجسوا شرًّا من ترؤس الإمبراطور للحملة، رغم عدم خبرته وافتقاره ما يلزم لقيادة الجيش في الحرب، وقد وضَّح ذلك منذ البداية، فبدلًا من أن يستغل تفوقه العسكري الواضح ويهاجم العثمانيين المتواجدين في المنطقة مباشرةً قبل أن يستجمعوا قواهم.. اختارَ بدء حملته بالدفاع، وعندما قرر أخيرًا أن يهاجم، واتخذت قواته أماكنها، غيَّر رأيه عشية الهجوم، وأمر قواته بالتراجع، وخسر فرصة مهاجمة حامية بلغراد الضعيفة الدفاعات، وكل ذلك بحجة أن القوات الروسية لم تتحرك لدعمه. كلف هذا التردد النمساوي الكثير من الوقت والجهد، ولكن رغم هذا، سيستمر الإمبراطور جوزيف في قيادة الجيش بنفس الأسلوب حتى نهاية الحملة.
زادت الأمور سوءًا عندما ساءت صحة الإمبراطور، وتسبب تردده في التضحية بعُشر جيشه تقريبًا عندما أمر الجيش بأن يعسكر في منطقة مستنقعات مليئة بالبعوض، فقضت الملاريا والديزينتاريا على 33 ألفٍ من أفضل جنوده، بينما رفض الإمبراطور المريض حتى أن يُغير موقعه. مفضلًا انتظار التعزيزات الروسية التي لن تأتي قط.
في هذه الأثناء نفذ الخبز من المعسكر، وعندما وصلت أخيرًا شحناتٌ إضافية من الدقيق من أقصى النمسا كانت مليئةً بالسوس! فتعرَّض الجيش للمجاعة. وحتى تكتمل دائرة المصائب، كانت خزائن الجيش خاويةً، وبالتالي لم يتلقَ الجنود رواتبهم. وكأن الأمور لم تكن سيئةً بالفعل للنمساويين، فقد خصص الوالي التركي في بلغراد مكافأةً ضخمة لكل من يُحضر له رأس جنديٍّ نمساوي، فبدأ الأتراك في خطف وقتل الجنود النمساويين، فأصبح فقدان أيَّ جُنديٍّ، حتى لو كان قد غرق أو فَرَّ عائدًا لأهله، يُعزى للأتراك، وانتشرت القصص بين الجنود عن المصير الأسود الذي ينتظر من يقع منهم في «أيدي البرابرة». أمام كل هذا، اضطر الإمبراطور إلى استدعاء الماراشال لاودن لإنقاذ ما تبقى من كرامة الجيش النمساوي، ورغم أن لاودن تمكن بالفعل من إحراز بعض الانتصارات، إلا إن ذلك لن يغير من المصير النهائي للحملة.
اعتقد عزيزي القارئ أنك تستطيع الآن تصور وضع معنويات الجيش النمساوي في هذه المرحلة. تخيَّل أنك فلاح هنغاري أو كرواتي أو لومباردي بسيط لا تعرف في الحياة غير الزراعة، وتعيش بالكاد على ما يُقيم بدنك أنت وأسرتك، بعد أن تدفع ضرائب مذهلة في إجحافها لسيدٍ إقطاعيٍّ ما، ثم في يومٍ ما يأتي إليك فرسان مبهرجون لا يتحدثون لغتك أصلًا، لينتزعوك من أرضك وأسرتك، ويطالبوك بأن تحمل السلاح لتقاتل، في بلدٍ لا تعرفه، مع أُناسٍ لا يتحدثون لغتك، في سبيلِ بلد لم تختر الانضمام إليه، من أجل طموحِ حاكمٍ تكرهه! تخيلت؟! حسنًا، والآن تخيل نفسك بعد كل هذا في الوضع الذي ذكرته لك في البداية، وهو وضع على وشك أن يسوء بالمناسبة، لتعرف حجم المأساة التي يعيشها الجيش النمساوي، بعد كل هذا ربما لن يكون من الصعب عليك أن تستوعب ما يوشك أن يحدث الآن.
أتاحت الفوضى التي كان يمر بها الجيش النمساوي الفرصة للأتراك لتجميع قواهم، والتوجه لملاقاة النمساويين، وهكذا وصلت رسالة إلى الإمبراطور تفيد بأن جيشًا تركيًا ضخمًا في طريقه إلى بلدة صغيرة تُدعى (كارانسيبيس-Karansebes) تقع على نهر تيميسول. ابتهج جوزيف الثاني، ففي هذا الموقع نفسه تعرض الأتراك لهزيمة من سنوات عديدة. بالنسبه إليه، فقد قرر التاريخ أن يشهد نفس المكان انتصارًا جديدًا على الأتراك، وهذه المرة على يديه هو.
في ليلة التاسع عشر من سبتمبر، عبرت طلائع الجيش الإمبراطوري النمساوي جسر تيميس إلى بلدة كارانسيبيس، كان أول الواصلين من الجيش النمساوي من الهوصار (Hussars) وهي وحدات فرسان هنغارية، ولكنهم لم يجدوا الجيش التركي بانتظارهم، ما وجدوه كان مجموعةً من الباعة الغجر، اللذين رحبوا بالهوصاريين، وعرضوا على الجنود المرهقين خمر الشنابس والفتيات، وسرعان ما كان الجنود منغمسين في العربدة. بعد بضعة ساعات وصلت أول دفعة من جنود المشاة إلى البلدة، وقد نال منهم الظمأ، وعندما رأوا رفاقهم منغمسين في الُسكر أرادوا، طبعًا، أن ينضموا إليهم، ولكن الهوصاريين كانوا قد اشتروا كل براميل الشنابس بالفعل، ولم يكونوا على استعداد أن يتشاركوها مع آخرين، فقاموا بتشييد دشم حماية حول البراميل وطردوا جنود المشاة، ثم ومن لا مكان، انطلقت رصاصة، وسقطت أول الجثث، فامتشق الهوصاريون السكارى سيوفهم وبدؤوا في مهاجمة جنود المشاة، الذين بادلوهم بإطلاق المزيد من النيران، اشتد القتال وسقط المزيد من الضحايا من الجانبيين، ثم برزت إلى ذهن جنود المشاة فكرةٌ عبقرية! فراحوا يصرخون: «توركي، توركي» أي الأتراك، حتي يستدرجوا الهوصار بعيدًا عن الخمر، صدَّق الفرسان السكارى أن الأتراك يهاجمونهم، فبدؤوا بالفرار عبر الجسر، وانتشرت الفوضى، ظنَ جنود المشاة –رغم أنهم من بدأ الخدعة أصلًا- أن الأتراك قد جاؤوا بالفعل، فبدؤوا هم كذلك في الفرار، حاول جنرالهم النمساوي إيقاف تلك المهزلة، فوقف في طريقهم وأخذ يصرخ بالألمانية «Halt, stehen bleiben, Halt » والتي تعني توقفوا، ولكن بلا فائدة، فهؤلاء الرجال كانوا فلاحين من قوميات مختلفة، هنغار ولومبارديين وسلوفاكيين، ومعظمهم لا يعرف من الألمانية غير كلمه واحدة «Vorwarst» أي تقدم!
ظل الجنرال النمساوي يصرخ «Halt, Halt»، ووسط الصخب ظن بعض الجنود أن هناك من يقول «الله، الله» وسطهم، فبدؤوا في إطلاق النار على بعضهم بعضًا!
على الجانب الآخر من النهر، استيقظ بقية الجيش النمساوي على صوت القتال المشتعل على الناحية الأخرى، وكان في وسط المعسكر حظيرة من الخيول، التي اضطربت من هذا الصخب، فحطمت السياج المحيط بالحظيرة، وانطلقت هاربة، وكان الظلام حالكًا في تلك الليلة، فبدا صوتهم مثل صوت فِرقةٍ من الفرسان تهاجم المعسكر، فأمر قائد الجيش المدفعية بإطلاق النيران، وتعالى الصياح بأن الأتراك اقتحموا المعسكر، فبدأ الجيش كله بالتراجع، كان من المستحيل أن يقف أحدهم وسط تلك الفوضى المدمرة ويقنع ذلك الجيش المتعدد اللغات بأنه ليس تركيًا، فبدأ الجميع في إطلاق النار على بعضهم بعضًا، وكلٌّ يظن أن الاعداء يهاجمونه. كان الإمبراطور الذي كان لا يزال مريضًا غافيًا في عربته، فاستيقظ على صوت المعركة الجارية، وساعده حُرَّاسُه على امتطاء صهوة جواده، ولكن الجنود المندفعين لم يبالوا بالإمبراطور أو بغيره، فسقط جوزيف من على جواده في النهر، ثم زحف الإمبراطور المقدس، الذي أصبح الآن إمبراطورًا مبتلًا ومرتجفًا، إلى أحد بيوت كارانسيبيس مختبئًا، خوفًا من أن يقع في أيدي الأتراك غير الموجودين أصلًا، حتى أنقذه أفراد حرسه في النهاية.
في هروبهم تخلى النمساويين عن كل شيء، الأسلحة والمدافع والأحصنة والعربات، وفي النهاية تمكن الجنرالات أخيرًا من أن يوقفوا هذه المهزلة ولكن بعد أن دُمِّر الجيش النمساوي العظيم بالكامل تقريبًا. عندما وصل الجيش العثماني أخيرًا بعد يومين لم يجد سوى بقايا الجيش النمساوي فأجهز على من بقي منهم.
النتائج
كانت معركة كارانسيبيس كارثةً بكل المقاييس، وإلى اليوم يُنظر إليها على أنها أحد أبرز الأمثلة على اجتماع عددٍ مدهش من العوامل غير المتوقعة لتؤدي في النهاية إلى نكبة عسكرية كبرى، لقد هزم الجيش النمساوي المهيب نفسه بنفسه، وكل ذلك من أجل مجدٍ شخصيٍّ لإمبراطور فاق طموحه قدراته بكثير. لم يخسر جوزيف حربه بسبب أي شيءٍ فعله، رغم أخطائه الفادحة الكثيرة، بدءًا من إسناد الحملة لجنرالات غير أكفاء، مرورًا بعجزه وتردده، الذي كلف جيشه الكثير من الأرواح والمعنويات حتى قبل أن تبدأ المعركة، وعدم معرفته الدقيقة بتحركات ومكان الجيش العثماني، بل وحتى إهماله وضع ضباطٍ يتكلمون نفس لغة جنودهم، كان العامل الحاسم هنا شيئًا لم يخطط له النمساويين أو الروس أو الأتراك أنفسهم، وكان آخر شيء يمكن أن يتوقعه جوزيف الثاني، لقد خسر المعركة بسبب برميلٍ من الخمر الرخيص!
في النهاية تمكَّن النمساويون من تجميع صفوفهم واستكمال الحرب، بل وإحراز بعض الانتصارات على الأتراك، ولكن لم يتمكن أي طرف من إحرازِ نصرٍ يحسم الحرب لصالحه بشكلٍ نهائي، وانتهت الحرب أخيرًا بمعاهدة مع الدولة العثمانية عام 1791، أبقت الأوضاع تقريبًا على ما كانت عليه قبل الحرب، ولكن الإمبراطور جوزيف الثاني لم يعش ليشهد انتهاء الحرب، فقد مات بعد عامين تقريبًا من المعركة، وكان آخر ما قاله هو: «كل ما أتمناه هو سلامٌ دائم في أوروبا»2.
#الباحثون_المصريون
المصادر
- درتشميد، إريك، دور الصدفة والغبار في تغير مجري التاريخ، دار المدى للنشر، بيروت 2002، ص 11.
- المصدر السابق، من 69 ل 80.