هل يرى كل شخص اللون الأحمر كما يراه الشخص الآخر؟ وهل شعورك بالألم هو نفس شعوري به؟ والوعي الإنساني، هل هو وعي موضوعي -أي مدرك للأشياء على ما هي عليه في الواقع- أم وعي ذاتي -أي نابع من فكر الإنسان الواحد ومنظوره الشخصي-؟ وما الحد الذي يفصل بين الوعي وغياب الوعي؟
إنها تلك النوعية من الأسئلة التي من الصعب الإجابة عليها، والتي لها نطاق واسع فلسفيًا، ولكن عند الحديث عن الحد الفاصل بين الوعي وغيابه، فإن قياس هذا الحد يبدو أسهل قليلًا…
أشارت دراسات سابقة إلى أهمية التكامل القشري-cortical integration أي تكامل واندماج قشرة الدماغ بأجزاءها المختلفة في إبقاء وعي الإنسان، والتي تعني أن الدماغ يقوم بمعالجة ودمج العديد من المعلومات القادمة إليه من الحواس المختلفة في نفس الوقت. فعلى سبيل المثال؛ إن خبرتنا عن البرتقالة مكونة من رؤيتنا لها وشم رائحتها وتذوق طعمها ولمسها، وهذه هي المعلومات التي تأتينا من الحواس، هذا بالإضافة إلى تذكر واستدعاء خبرتنا السابقة لهذه الفاكهة، ثم يقوم الدماغ بدمج كل هذه المعلومات (الفوتونات الضوئية والجزيئات ذات الرائحة.. إلخ) في تجربتنا الشخصية الواعية بالشيء في هذه اللحظة.
يقول إنزو تاليازوتشي الفيزيائي بمعهد علم النفس الطبي في مدينة كيل الألمانية: «إن تفاعل الأشياء واندماجها مع بعضها البعض يكسبها معنًا جديدًا.» ويُقصد بهذا أن الوعي يجعلنا نُضفي معنى جديد لنمط ما من الفوتونات التي تصطدم بشبكية العين، معنى جديد يختلف عن كونها مجرد فوتونات، وهذا هو الذي يُميزنا عن الكاميرات الرقمية. وبالرغم من أن الدماغ في حالة فقدان الوعي يظل يستقبل مثل هذه البيانات، إلا أنه لا يستطيع تجميع معنى متماسك للواقع.
وفي دراسة على الكيفية التي تؤثر بها الأدوية المُخدِرة على الدماغ، افترض الباحثون أن تجربتنا للواقع هي نتاج توازن دقيق في الوصلات بين الخلايا العصبية، وإذا زاد أو قلّ هذا التوازن يؤدي إلى فقدان الوعي.
وبحثًا عن وجود الوعي في الدماغ، استخدم تاليازوتشي وزملاؤه دواءًا مُخدِرًا يُستخدم في العمليات الجراحية يُدعى بروبوفول-propofol لإحداث فقدان في وعي المشاركين في هذه الدراسة أثناء تعرضهم لآلة المسح باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، يعمل الرنين المغناطيسي الوظيفي عن طريق تتبع تدفق الدم في الدماغ، والذي يستخدم كبديل يمكن به استنتاج وقت حدوث النشاط الكهربائي أثناء سريان السيال العصبي في الخلايا العصبية. وقام الفريق بتجميع بيانات من 12 مشترك في حالات اليقظة، وأثناء التخدير، وعند البدء بفقدان الوعي، ثم في حالة استرداده مرةً أخرى.
وأظهرت تلك الدراسة أن نشاط الدماغ يختلف بصورة كبيرة في كلا من حالتي الوعي واللاوعي، وافترضت أن هذا الاختلاف يمكن أن يكون عائدًا على الكيفية التي يسكتشف بها الدماغ فضاء التشكيلات أو التنسيقات الممكنة له.
ففي حالة الوعي كان نشاط دماغ المشاركين في تغير مستمر؛ إذ أظهر التصوير بالرنين المغناطيسي العديد من الشبكات العصبية المتداخلة التي تنشط عندما يقوم الدماغ بدمج البيانات القادمة من محيطه، وهذا هو ما يخلق (تدفقًا للوعي) لحظة بلحظة خلال الدماغ.
أما بعد أخذ دواء البروبوفول، تقل الوصلات بين الشبكات العصبية، وتقل التغيرات في نشاط الدماغ مع الوقت، ويبدو الدماغ وكأنه عالق في حالة من الرتابة والروتين، إذ يستخدم نفس المسارات العصبية مرارًا وتكرارًا.
افترضت النتائج وجود مستوى أمثل من الترابط بين الخلايا العصبية في الدماغ، والذي يتيح أقصى عدد ممكن من المسارات العصبية. ولتوضيح الأمر يمكننا اعتبار كل خلية عصبية بمثابة (عُقدة) في الشبكة العصبية، حينها يكون الوعي ناتجًا عن استكشاف ومعالجة عُقد تلك الشبكة على أكمل وجه ممكن. ولا تقتضي الضرورة أن تكون الشبكات الأكثر تنوعًا -أي تلك التي لديها أكبر عدد ممكن من التشكيلات العصبية- هي التي لديها أكبر عدد ممكن من الاتصالات بين الخلايا العصبية.
إذا كانت كل خلية عصبية في الدماغ ترتبط مباشرة وبطريقة واحدة مع كل خلية عصبية أخرى، سوف يصبح الدماغ متماثلًا جدا، إذ لن يكون بالإمكان تمييز إشارة واحدة عن الأخرى، ويوضح تاليازوتشي: «كان هذا ليؤدي إما إلى سريان السيال العصبي في كل الخلايا العصبية في وقت واحد أوبقائها كلها في وضع الراحة.»
بدلًا من ذلك، فإن الوعي قد يكون ناشئًا عن توازن دقيق في الدماغ، هذا التوازن هو الذي يجعله قادرًا على توليد المعنى عن طريق استكشاف الحد الأقصى من المسارات المتمايزة (أي المختلفة) عن أي مسارات أخرى. وسمّى العلماء نقطة التوازن هذه بـ (النقطة الحرجة).
الأمر أشبه بسائق يستكشف بسيارته شوارع المدينة، فلو ظل يتنقل طوال اليوم من نقطة أ إلى نقطة ب ثم يعود إلى نقطة أ مرة أخرى مستخدمًا طريقًا واحدًا، ففي نهاية اليوم لن يكون قادرًا على التعرف على المدينة، سيعرف الشوارع التي سار فيها فقط، أما لو استكشف السائق كل شوارع المدينة بسيارته، وذهب إلى كل أجزاء المدينة التي يمكن الذهاب إليها، فإنه في نهاية اليوم يمكنه أن يكون قادرًا على أن يرسم لنا خريطة للمدينة شبيهة بخريطة المدينة الحقيقية. النقطة الحرجة إذًا هي الحالة التي تكون فيها السيارة قادرة على استكشاف المدينة بالطريقة المُثلى.
وعلى عكس السيارات، فإن تدفق الكهرباء خلال عقولنا لا يسببه قوة واعية مع إرادة أو نية مثل تلك التي يؤثر بها السائق على السيارة، فنحن في الواقع، ما زلنا لا نعرف سبب انتقال الدماغ بين حالتي الوعي واللاوعي -أي من وإلى النقطة الحرجة.
ويضيف تاليازوتشي أنه عند النقطة الحرجة، يكون الدماغ فوضوي حقًا، ولكنه يكون موازنًا لهذه الفوضى، وكلما ابتعد عن النقطة الحرجة، كلما ازداد الدماغ رتابة واستقرارًا، هذا الاستقرار يمكن أن يفسر لماذا يصعب إيقاظ الناس من الغيبوبة.
يأمل العلماء أنه من خلال فهم حالة الدماغ عند النقاط الحرجة، وكيف يمكن الحفاظ عليها، فإنه قد يكون بإمكاننا إيقاظ مرضى الغيبوبة من حالة اللاوعي التي هم فيها، من خلال تحفيز الدماغ ليبدأ استكشاف شوارعه، استكشافه فقط بالطريقة الصحيحة.
ترجمة: Hanan Gamal
مراجعة علمية: Hosny Ayman
مراجعة لغوية: Ahmed Abd Elkareem
تصميم: Tawfik Atef
المصدر: http://sc.egyres.com/75rhR
# الباحثون المصريون