خمسمائة عام على انتفاضة العبيد.. فما الذى تغير؟

Portugal-Confronts-its-Slave-Trade-Past

|||

في الليلةِ الواقعة بين يومي 22 و23 أغسطس 1791م، انتفض رجالٌ ونساء، ممن تم سبيهم واستعبادهم من أبناء أفريقيا واُجتثوا منها. تَمرَّدوا على نظام الرق بغية تمكين هايتي من نيل حريتها واستقلالها، ونالوا مبتغاهم في عام 1804م. ومَثَّل هذا التمرد منعطفًا في تاريخ البشرية، فلم يعد ممكنًا الاستمرار في امتهان الإنسان ومُصادرة جسده وروحه في الأساس. لقد كان لما تم في تلك الليلة أثرٌ عظيم في مسألة تأكيد الطابع العالمي لحقوق الإنسان، لقد أعادوا إحياء إسبارتاكوس إلى الحياة، ولولاهم لما كان مالكوم إكس ومارتن لوثر كينج ونادية مراد (الإيزيدية) وديفيا أوني (الهندية) وملالا يوسفزي الباكستانية وعضوات حركة وانا أيضًا وكل من يكافح ضد العبودية. نحن مدينون بذلك لسلة المتمردين في تلك الليلة.[1]

يُعدُّ الإتجار بالبشر من أخطر الانتهاكات التي يتعرض لها الإنسان في العصر الحديث وهي جريمةٌ تأتي مباشرةً بعد جريمة الإرهاب، الذي يُعدُّ أيضًا صورة من صور استباحة جسد الإنسان. لقد اهتم المجتمع الدولي بمكافحة هذا السلوك من خلال إنشاء بنية قانونية وتشريعية متكاملة من خلال القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، التي احتاجت لوضعها موضع التنفيذ إلى إيجاد إطارٍ مؤسسيٍّ أيضًا متكامل، يبدأ بالأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ومنظمات المجتمع المدني. أكثر من ذلك اُعتبرت جريمة الإتجار بالبشر من ضمن جرائم حقوق الإنسان التي لا تسقط بالتقادم، وأيضًا التي تفتح الباب أمام التدخل الدولي لرد وردع هذا العدوان على الإنسانية.

نشأة الظاهرة في العصر الحديث

بدأ البرتغاليون منذ عام 1450 م في استقدام آلاف الأفارقة إلى أراضي القارة الأوروبية، واستعبادهم للعمل كخَدَمٍ في المنازل وكمزارعين فى الحقول. وقد وصلت أعداد هؤلاء إلى مئات الآلاف في القرن السادس عشر مع تطور وازدهار التجارة عبر الأطلنطي.
إلى جانب البرتغال، كانت أسبانيا وبريطانيا وفرنسا وهولندا والدنمارك والسويد تمارس نفس النشاط في استجلاب الأفارقة واستعبادهم، إلا أن بريطانيا كانت من الدول الرائدة في هذا المضمار.

                                                               خريطة توضح مسار تجارة العبيد

بدأت بريطانيا في توسيع مجال نشاطها في جلب الأفارقة واستعبادهم وتوظيفهم في الأنشطة الإقتصادية من خلال شركات تجارية خاصة منذ العقد الرابع من القرن السابع عشر، التي كان أهمها شركة رويال أفريقيا ومقرها لندن، التي أخذت تحتكر تجارة العبيد منذ العام 1672 م وحتى العام 1698 م، لقد كانت تجارة مربحة لهم بالفعل![2]

في القرن الثامن عشر كانت الرفاهية الاجتماعية في أوروبا الغربية تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على منتجات وخدمات السخرة. ففي المنازل والمقاهي كان الناس يجتمعون لشرب مشروبات القهوة أو الشوكولاتة أو الشاي المحلاة بالسكر الكاريبي وهي كلها منتجات كان يصنعها ويقدمها العبيد الأفارقة، وفي العالم الجديد كان الأوربيون يرتدون الملابس المصنوعة من القطن الأمريكي ويدخنون التبغ فيرجيني، وهي أيضًا من إنتاج العبيد.

                                            خريطة توزيع تجارة العبيد

لقد لعبت الأرباح المتولدة من تجارة العبيد دورًا جوهريًّا في ظهور طبقة الرأسمالية الأوروبية التي تمتلك البيوت الكبيرة وتنشئ المدن الحديثة وتحتكر مجموعةً واسعة من الأنشطة الاقتصادية بما في ذلك المصارف والصناعة، التي كانت تُغلَّف أنشطتها بطابعٍ أخلاقي من خلال دعم المؤسسات الخيرية لرفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي للطبقات الدنيا من المجتمعات الأوروبية.  [3]

وفي الأرض الجديدة -الأمريكتين-؛ كانت الأوضاع مختلفة في البداية، حيث تم استعباد الهنود الحمر والآسيويين، فالهنود كان يتم استجلابهم من جزر الهند الغربية في الكاريبي، ثم يتم شحن الكثير منهم في سفن إلى مستعمرتي نيويورك ونيو إنجلاند. أيضًا كان يتم استجلاب العبيد من أكثر المناطق كثافة في عدد السكان الهنود -وهي مناطق المكسيك وبيرو وبوليفيا حاليًا- حيث يتم أسرهم ومن ثم بيعهم عبيدًا.

لكن لسوء حظ الذين اشتروهم، كان الهنود يهربون إلى قبائلهم وبمساعدة عناصر محلية، كما  أن القبائل ذات القوة والعصبية الكبيرة التي تتميز بالاعتداد بالنفس كانت تسيطر على حدود أمريكا الشمالية طوال مرحلة الاستعمار، ولم تكن لتسمح أو تتحمل أن يُستعبد أيًّا من أبنائها. وبالتالي، لم يجد الأسياد في النصف الغربي من العالم سوى الاعتماد على العبيد الأفارقة طوال مرحلة الاستعمار الأوروبي.[4]

لقد شكلت تجارة الرقيق عبر الأطلسي أكبرَ عملية ترحيل في التاريخ، بتقديراتٍ تصل إلى قرابة 17 مليون شخص، باستثناء أولئك الذين لقوا حتفهم في أثناء نقلهم، وغالبا ما يُشار إليها على أنها الشكل البدائي للعولمة.

لقد كان الإتجار بالبشر النشاطَ الاقتصادي الأمثل في توليد الأرباح، والأكثر ازدهارًا في الفترة الممتدة من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، كما غطت هذه التجارة مساحاتٍ واسعةٍ من العالم شملت قارات ومناطق متعددة (أفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا والكاريبي)، مُسبِّبَةً لمعاناة ملايين الأفارقة جرَّاء استغلالهم من قبل الأوروبيين.
كانت السفن المحملة بالبضائع التجارية كالبنادق والمشروبات الكحولية والخيول تغادر الموانئ الأوروبية والأمريكية متجهة إلى غرب أفريقيا؛ حيث يقومون هناك بتبادل تلك البضائع بالبشر الأفريقيين، الذين يكونون إما أسرى حروب تنشب بين الممالك الأفريقية، أو ضحايا لتجارة محلية مزدهرة في خطف المواطنيين الأفارقة وبيعهم.

ثم تبدأ السفن المشحونة بالعبيد الأفارقة رحلتها عبر «الممر الأوسط» متجهة إلى المستعمرات الأمريكية والأوروبية في الكاريبي وأمريكا الجنوبية والمستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية.

كانت عمليات نقل البشر إلى العالم الجديد مُروِّعةً، وأقل ما توصف به أنها كانت مُدمِّرة لإرادة المقاومة لدى الإنسان الأفريقي، فقد كانت سفن نقل العبيد تقضي أشهرًا مُبحرةً إلى أجزاءٍ مختلفة من الأمريكتين من أجل تسليم بضاعتها من البشر إلى جلاديهم الجدد، إلا أن تلك البضاعة لم تكن تتلقى نفس الاهتمام الذي كانت تتلقاه البضائع الأخرى، ففي كثيرٍ من الأحيان كان العبيد في حالةٍ صحيةٍ وإنسانيةٍ بالغة السوء، متلقين الإساءات البدنية والعقلية من البحارة الأوربيين، لقد تم حملهم على متن السفن بعد تجريدهم من ملابسهم وفحصهم من الرأس حتى القدمين من قِبَلِ القبطان أو الجراح.

ظروف الحياة على متن تلك السفينة كانت مروعة؛ حيث يتم تكبيل الرجال بالأغلال معًا تحت سطح السفينة، ويوضعون في غُرفٍ ضيقةٍ ومظلمة -تُشبه السجون- مكتظة لدرجة أنه يتم إجبارهم على الانحناء أو الاستلقاء كما موضح في الشكل. أما النساء والأطفال فيتم وضعهم في أماكن منفصلة، وأحيانًا على سطح السفينة، مما سمح لهم بحرية الحركة المحدودة، لكن هذا أيضًا عرَّضهم للعنف والاعتداء الجنسي من طاقم البحارة.

                      تقسيم سفينة التجارة بالعبيد 

كان الهواء في ممرات السفينة كريه وساخن. كانت الإصابة بدوار البحر شائعةً بين المُكبَّلِين، والطقس شديد الحرارة، والرطوبة مرتفعة، والمرافق الصحية معدومة، والإصابة بالدوسنتاريا والحُمَّى والجديري أمرٌ متوقع بشكلٍ كبير في ظل رحلة تستمر لمدة شهرين وأحيانًا أطول.

لقد أدَّى الجمع بين المرض وعدم كفاية الغذاء والتمرد والعقاب إلى خسائرَ فادحةٍ في العبيد والطاقم على حدٍّ سواء، وتشير سِجلَّات الباقين على قيد الحياة إلى أنه حتى عام 1750 مات واحد من كل خمسة أفارقة على متن تلك السفن.[5]

يمكن تقسيم السياسة الأوروبية للهيمنة على مقدرات أفريقيا إلى مرحلتين: الأولى، تقوم على احتلال الموانئ والمحطات التجارية على طول الساحل البحري بهدف التحكم في طرق التجارة الدولية، وقد شهدت تلك المرحلة مآسي تجارة الرقيق وترحيلهم للعمل في أوروبا والعالم الجديد. أما المرحلة الأخرى، فهي تتعلق بدعم الثورة الصناعية في غرب أوروبا من خلال التوغل في الداخل الإفريقي واستعباد الأفارقة في بلادهم لاستخراج المواد الأولية الطبيعية، وقد شهدت تلك المرحلة مآسي ظاهرة العنصرية التي أنتجت تناقص عدد السكان بسبب أعمال القتل، والجوع والمرض، والأمراض والأوبئة.[6]

السؤال الذي يتبادر في الأذهان في نهاية المقال: هل كانت العبودية تاريخًا وانتهى واندثر؟ هل نجحت القيم الأخلاقية لليبرالية الغربية في جعل العبودية تراثًا ارتبط بواقعٍ اجتماعيٍّ تغيَّر أكثر من ارتباطه ببنى فكرية -التي رغم تطورها فهي ما زالت عاجزة عن إنتاج قيم أخلاقية جديدة-؟

في أغسطس 2011 م حدثت ضجةٌ إعلامية واجتماعية في أوروبا حيث قام عارضون -رجال ونساء- بالوقوف في نوافذَ زجاجيةٍ لمتجرٍ في إيطاليا من أجل استخدام أجسادهم في سبيل الترويج للسراويل القصيرة والبكيني. وفي أكتوبر 2017 عاد الجدل من جديد، لكن هذه المرة في الولايات المتحدة بعد تناول تقارير إعلامية عن  اعتياد  المخرج الأمريكي جيمس توباك التجول في الشوارع بحثًا عن فتياتٍ جميلات يتم استجلابهن إلى سفينة هوليود التي يملكها المنتج السينمائي هارفي واينستين، ويقوم كلٌّ منهما بنفس ما كان يقوم به أجدادهما من تجريدهن لملابسهن، لكن هذه المرة ليس لجعلهن خادمات سخرة، بل لجعلهن ممثلاتٍ يتقاضين أجورًا على امتهان أجسادهن.[7]

أخيرًا، يرى عالِم الاجتماع الفرنسي جان بودريارد أن الرأسمالية وروح تحقيق الأرباح ما زالت لا تجد أي غضاضة في استباحة روح الإنسان وجسده بمختلف الوسائل والأساليب. [8]

إعداد: د. تامر هاشم

مصادر المقال:

[1] فريق التحرير ، اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الرق وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي ، الموقع الرسمي لهيئة الأمم المتحدة ، http://www.un.org/ar/events/africandescentdecade/slave-trade.shtml

[2] د. بدر حسن الشافعي ، تسوية الصراعات في افريقيا ( نموذج الإيكواس ) ، القاهرة ، دار النشر للجامعات ، 2009، ص 239-241.

[3] رمضان عيسى الليمونى ، امراء الإستعباد الرأسمالية وصناعة العبيد ، لندن ، اى كتب ، 2016 ، ص 41- 45.

[4] محمد جمعة ، عرض كتاب : تجارة العبيد في إفريقيا (تأليف: عايدة العزب موسى ، مكتبة الشروق الدولية القاهرة2007)  ، جريدة البيان الإماراتية ، 20 يوليو 2008، https://www.albayan.ae/paths/books/2008-07-20-1.658515

[5]  John Simkin, Slave Ships, American History, http://spartacus-educational.com/USASships.htm.

[6] محمد جمعة ، عرض كتاب : تجارة العبيد في إفريقيا ، مرجع سبق ذكره.

[7] هيئة التحرير ، فضيحة جنسية جديدة في هوليوود: مخرج يتحرّش ويعتدي جنسياً على الممثلات ، مجلة لها ، 24 أكتوبر 2017 ، https://www.lahamag.com/article/101958-%D9%81%D8%B6%D9%8A%D8%AD%D8%A9-%D8%AC%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%85%D8%AE%D8%B1%D8%AC-%D9%8A%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D8%B4-%D9%88%D9%8A%D8%B9%D8%AA%D8%AF%D9%8A-%D8%AC%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%85%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B5%D9%8A%D9%84-%D9%85%D9%82%D8%B2%D8%B2%D8%A9

[8] منير الطيراوي ، «تسليع» الإنسان ، جريدة البيان الإماراتية 1اغسطس 2011، https://www.albayan.ae/opinions/orbit/2011-08-01-1.1480744

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي