انقسام الحياة بين عالمين

ادمان_احلام_اليقظة-1

 

« إن أردت أن تتحاور معي، لن أستمعَ لَك، أتظاهر أني أستمع ولكن عقلي وإدراكي في مكان آخر، في كل مرةٍ أحاول أن أتوقف أشعر أن جزءًا انتزع مني، ويراودني إحساس بأني فقدت جزءًا من هويتي، أشعر بأنني لست هنا، ولكنني أيضًا لست هناك، ولا أستطيع أن أتخلص من هذا الإحساس بأني منقسم إلى اثنين»

 

هذا ما قاله لي مدمن هيروين متعافي، مدمن هيروين؟ ولكن أليس هذا ما يشعر به مدمن أحلام اليقظة؟!

 

إدمان أحلام اليقظة بين أشياء أخرى، هو إدمان مثل أي إدمان آخر، معظم المشاكل المتعلقة بإدمان أحلام اليقظة تتعلق بأنه آلِيةٌ للتكيف في عقل الإنسان وليس خلل أو مرض، إن الإدمان محفور في جزء بدائي من العقل يتعلق بالبقاء، وهذا يعني أنك إن لم تحصل على جرعتك ستشعر بأنك ميت وتحتاج لدواء أيًا كان ليعيد إليك الحياة، عقلك يرسل رسائل خاطئة إليك حتى تعتقد أن جسمك بحاجه إلى الاستمرار في أحلام اليقظة، ويجعلك تظن أنك إن لم تفعل العالم سوف ينتهي، وستخسر جزء من نفسك.

المخدرات غالبًا تستولي على إحساسك بنفسك حيث تنساب بين مشاعرك، وعندما تتخلى عنها تشعر أنك تتخلى عن جزء عزيز من نفسك.

 

الإدمان هو الإدمان ولكن أنواع المخدرات وسلوكيات الإدمان تقول أشياء مختلفة عن متعاطيها، إذن ماذا تقول أحلام اليقظة عنك؟

إن إدمان أحلام اليقظة هو مثل ملاك حارس يحاول أن يحميك بشدة وفي النهاية يضرك أكثر مما ينفعك، ولكنه ما زال ملاكك الحارس ويحاول أن يرفع عنك عبئك، هو مدمرٌ في طريقته ولكنه في الأصل وُجْد لحمايتك من شيء. إن تفهمك وتقبلك لما تحاول أن تهرب منه هي أولى خطوات العلاج، ربما كان الاكتئاب أو الوحدة أو قله الثقة بالنفس أو التوتر هو السبب.

 

سقوط النفس

 

عندما يتعمق الشخص في نشاط لدرجة كبيرة حتى يفقد إحساسه بنفسه، مثل العازف الذي ينسى نفسه وسط الموسيقى ويصبح الراقص الرقصة، ويصبح السهم امتداد لعقل مطلقه، والحالم يصبح الحلم ذاته.

 

وفي الحقيقة هذا مشابهٌ لإدمان أحلام اليقظة، عندما ندخل في حالة عقلية نكون فيها شخص آخر، حيث نركز بشدة على أفكارنا الداخلية حتى نفقد إحساسنا بأنفسنا، وعندما تنفصل عن نفسك تنفصل أيضًا عن مشاكلك اليومية التي تزعجك وكل المشاكل الحياتية، وهذا هو السبب في أن أحلام اليقظة تجعلك تشعر بشعور رائع. حيث أن كل شيءٌ سيء في حياتك ابتعد عنك، حيث أن الجزء في عقلك الذي يحدد نفسك بكل أشيائها السلبية توقف عن العمل، وللساعة أو الساعتان القادمتان، أنت حرٌ تمامًا.

 

وفي أحلام اليقظة، تصنع أشخاص خياليين وتنتهي عادة بالوقوع في حبهم أو العكس، وفي وسط هذا الخيال الذي أنت بأمس الحاجة إليه، تستيقظ وتعود إلى الواقع.. وهنا تبدأ المشاكل، كل هؤلاء الأشخاص الذين صنعتهم ووقعت في حبهم هم لا شيء.. لا شيء على الإطلاق، ولا علاقة لهم بك وكل هذه الأحلام والذكريات المزيفة التي صنعتها تختفي. حقيقة أنك بعيد عن الأشياء في أحلام اليقظة ولا يمكنك الوصول إليها ليس ما يسبب هذا الانقسام، لأن كل هذه الأشياء ليس لها علاقة بنفسك الحقيقية حتى إن تحققت كل الأشياء في أحلامك، ولكنك لازلت تشعر بالسوء والفراغ الداخلي، وحتى إذا ظهر صديقك في أحلام اليقظة لن يتغير شيء، وهذا لأن أحلام اليقظة لا تتعلق باحتياجك للأصدقاء أو لحياة جديدة، إنما هو يتعلق بأنك لا تريد أن تكون نفسك وتتهرب منها، كل شيء آخر لا أهميه له.

 

والحقيقة هي أنك لست مدمن لهذه الشخصيات الخيالية أو حبيبك الخيالي، أنت مدمن أن لا تكون أنت، أنت مدمن لهذا الشعور الذي يمنحك راحة مؤقتة.

 

وفي الواقع أنا لا اقول لك ألا تهتم بمحتوى أحلامك، ما أقوله هو أن حبك لما هو في خيالك ليس ما يصنع هذا الشعور السيء إنك منقسم بين عالمين، وهناك شيء أستطيع أن أضمنه لك، عندما تصبح مستريحٌا مع فكرة أن تكون أنت ولا تتهرب من نفسك، سيختفي الإحساس بالانقسام وستشعر بالسلام النفسي.

 

هل سيؤخذ جزء منك عندما تتخلى عن أحلام اليقظة؟

 

ربما أكثر الأسئلة حزنٌا التي سألتها لنفسي كان “كم سأفقد من نفسي عندما أتخلى عن الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر بالسعادة؟”

ولكن في الحقيقة ليس عليك أن تتخلى عن المشاعر التي أحسست بها في أحلامك، كل ما عليك أن تتخلى عنه هو تشويهك لذاتك وهروبك منها. وربما هذه المشاعر نتجت من الوحدة أو الحزن، وهذه المشاعر هي الدليل أنك تصارع من أجل البقاء وأنك تشعر ولست مثل الأموات، وأن تتخلى عن هذه المشاعر هي جريمة في حق نفسك. إدمان أحلام اليقظة  ليس فقط تخيل ما تتمناه أو لعق لجروحك، إنه المكان الذي لازلت تشعر فيه والحياة تجري بداخلك بينما أنت ميت ولا تشعر بشيء في العالم الحقيقي، وهذا يكفي لتعرف أن أحلام اليقظة  ليست بالسوء الذي تبدو عليه، ربما حياتك الواقعية فارغة من المشاعر، ولكن ما تفعله في أحلامك تفعله بحب وإخلاص، وهذا يعني أنك لازلت تمتلك القدرة على الحب والشعور والاهتمام مثل حياة أي شخص طبيعي، إذًا الإحساس موجود ولا تحاول أن تنكره، هو فقط موجود في المكان الخطأ ولكنه موجودٌ على الأقل، وما يجب أن تفعله أن تجد طريقه تحول بها شعورك وأحاسيسك من أحلامك إلى الواقع، مثلما قلت مسبقًا، هذا سيحدث عندما تجد نفسك الحقيقية. كل هذه المشاعر الإيجابية سوف تسير من أحلامك إلى نفسك وستشعر أن العالمين الذين عشت طويلًا بينهما اندمجا في عالم واحد.

 

إذن ما يجب أن تفعله هو أن تركز على مداواة نفسك، العملية صعبة ولكن لا يوجد حل سريع في هذا الموقف. والمفارقة في الأمر أنه لتعالج نفسك يجب أن تتخلى عن أحلام اليقظة، ولكن ألم أقل لك أنه لا يجب أن تتخلى عنها؟ لا تتخلى عن الحب والمشاعر التي توجهها نحو أحلامك لأن كل هذه المشاعر سواء حقيقيه أم لا، تذكرك بأنك حي، ما يجب أن تتخلى عنه هو الشعور بالراحة المزيفة التي تعطيها أحلام اليقظة لك، تخلى عن كل تلك الساعات التي لا تحصى التي قضيتها في داخل عقلك، لأنك تفضل البقاء في أحلامك على العودة إلى الواقع، تخلى عن هذا الدواء المؤقت عندما تشعر بالبؤس. إذا أغضبك أحدهم لا تحبس نفسك في غرفتك وتمارس الانتقام في عقلك، اذهب واركل أي شيء وأخرج غضبك على العالم الخارجي.

 

يجب أن تفصل نفسك عن هذا المسكن الذي هو الخيال، دع نفسك تشعر بالألم بكل جزء في جسدك، دع كل هذه المشاعر السلبية تطفو، دعها تبتلعك حيًا، لا تقاوم، لا تهرب بعيدا، تقبلها، دعها تدمرك، وفي أثناء هذه العملية جزء من نفسك الحقيقية سيولد من جديد، شيء سوف يستيقظ في داخلك، ليس كل شخصك سيستيقظ، ولكن ما يكفي لتكمل الطريق لمداواة نفسك، وهناك مقولة قديمة تقول أنه يجب أن تدمر نفسك قبل أن تولد من جديد. أيضًا، إذا شعرت بالحاجة لأحلام اليقظة، لا مشكله في ذلك، طالما لن تخفي الألم الذي لا يجب أن تهرب منه مجددًا، إنه لمن الطبيعي أن تجد وقت تستلسم فيه لأحلام اليقظة، لا تقاوم الإغراء، إذا قاومته ستشعل في داخلك نار الإدمان، وإنه لمن المعروف أن مقاومة أي رغبة إدمانية تجعلها أقوى، يجب أن تعترف بها وتحللها وتتعامل معها على أنها رسائل مزيفة من دماغك، وهذا هو ما سيكسر هذه الحلقة المغلقة من الإدمان. يعني أنه لا يجب أن تمنع المشاعر السلبية والألم، إذا هجمت عليك هذه المشاعر، رحب بها، وحللها، دعها تستهلكك، وفي تلك اللحظة ستعرف أنها رسائل مزيفة يرسلها دماغك لك، هذا الهراء والمشاعر السلبية ليس أنت، هذا هو الاكتئاب يتلاعب بك. كلما تركت نفسك تشعر بهذه المشاعر السلبية بدون حاجز أو مخدر، كلما ستقل رغبتك في الدخول لعالم الأحلام ولن تريد الهروب إليه مجددًا.

 

من أنت حقا؟

 

عادةً ما يدخل الاكتئاب حياتك كالعاصفة، في الأمس كنت الشخص المتفائل الذي يستمتع بأبسط الأشياء، واليوم تشعر أنك تريد الانتحار لأن لا قيمة لك، هذا هو الاكتئاب عند معظم الناس، ولكن في هذه الحالة مع إدمان أحلام اليقظة، يدخل الاكتاب إلى حياتك في الخفاء، ببطء ولا تشعر به، وفي لحظةٍ ما يجردك من مشاعرك وطموحاتك وذكرياتك وهويتك، حتى تقول لنفسك أنا لا أتذكر متى كنت سعيدًا أو يبدو أن هذا البؤس جزءٌ من شخصيتي، ولهذا من الصعب أن تحدد متى ينتهي الاكتئاب ومتى بدأ. فإذا أنت لست هذا المرض، إذًا من أنت؟

 

دعني أنحرف عن الموضوع قليلًا هنا، إن إدمان أحلام اليقظة يولد عندما لا تستطيع أن تعبر عن نفسك وعن مشاعرك للآخرين لأنك مصابٌ بالتوتر أو الاكتئاب. ببساطة.. الاضطرابات العقلية تشوه منظورنا للحياة وتجعل كل شيء يبدو أكثر بؤسًا مما هو في الحقيقة، وكلتا عيناك مصابتان بهذا المرض، وهنا يخدعك عقلك الباطن ويقول لك: «حسنًا إذا كانت كلتا عينيك مصابتين وتجعلان كل شيء يبدو أسوأ، لما لا تغلقهما؟» وهنا يبدأ إدمان الخيال. تبدأ بفقدان الاهتمام تجاه العالم الخارجي وتحول هذا الاهتمام إلى داخلك، داخل أحلام اليقظة، وداخل تلك الأحلام لا يمكن أن تصاب بأي اكتئاب أو توتر. ولكن ما لا يخبرك عقلك الباطن به قبل أن يتأخر الوقت وتغلق عينيك، أنك ستنفصل تمامًا عن العالم خارجك، وهذه هي الحرب بين الاضطرابات العقلية المهاجمة لك، وعقلك الواعي الذي هو المدافع، وأنت ساحة المعركة، لا تمتلك أي خيار، تتركهم لترى من منهم سيفوز. لذا إذا لُمت نفسك أنك كنت ضعيف لتأخذ القرار لتوقف هذا الإدمان، توقف. إنه لم يكن خطؤك.

 

دعني أعود لسؤالي إذًا، من أنت حقًا؟

 

إن نسخه أحلام اليقظة منك ليست نفسك الحقيقية ولكنها ليست مزيفة أيضًا، إنها نسخة منقحة منك خلقها عقلك الواعي ليحميك، ونفسك في الحياة الواقعية عديمة الثقة ذات الأفكار السلبية التي تدور في حلقة مفرغة، وهذه بالطبع أيضًا ليست نفسك الحقيقية، إن نفسك في عالم أحلام اليقظة أقرب كثيرًا لنفسك الحقيقية من هذا الشخص المليء بالإحباط والأفكار السلبية.

 

هل يمكنك أن تتذكر الوقت الذي لم تكن فيه مدمنًا لأحلام اليقظة، تذكر هذه الأوقات التي اعتدت أن تعيش فيها في الحاضر، لا يهم حتى إن كانت آخر مرة شعرت فيها بهذا الشعور كان عندما كنت طفلًا في السادسة، فقط حاول تذكر كل هذه اللحظات وتذكر شعور أنك في الحاضر، وإليك طريقة يمكن أن تسهل عليك القيام بهذا، إنها الموسيقى، هي رحلة عبر الزمن والمشاعر، إنها تنقلك إلي الماضي، إلي مكان آخر. إن الموسيقى تساعد مرضى الزهايمر أن يتذكروا من هم، ويعود لهم إحساسهم بالذات لوقتٍ قصير. الحالمون يستخدمون الموسيقى ليخلقوا مكان آخر ليهربوا إليه، ولكن ماذا لو استخدمتها لتنقل نفسك إلى الماضي عندما كنت غير مصاب بالتوتر أو الاكتئاب أو إدمان لأحلام اليقظة، إذا استطعت تذكر أغنية كنت تستمع لها عندما كنت طفلًا، استمع لها مجددًا، حاول أن تتذكر من أنت حقًا، وإذا كانت الأغنية ذات معنى إليك، نفسك الحقيقية وشعورك بنفسك سيعود إليك في الدقائق التي تستمع فيها إلى الأغنية، لن تكون في الحاضر، ستكون في الماضي، ولكنه ماضيك الحقيقي، حاول أن تتذكر هذا الشعور وحاول تكراره مجددًا، سوف يقوي هذا إحساسك بهويتك على المدى الطويل.

 

أنت لا تدمر أحلام اليقظة الخاصة بك، ولا المشاعر الإيجابية المتعلقة بها، أنت لا تدمر أي شيء على الإطلاق، أنت فقط تحول هذه المشاعر للواقع، للمكان الذي يجب أن تتواجد فيه هذه المشاعر، ولكن قبل أن يحدث هذا التغير، يجب أن تطلق سراح نفسك، يجب أن تدمرها قبل أن تولد من جديد..

 

المصدر
http://sc.egyres.com/SRAOV

ترجمة: محمد عمر

مراجعة لغوية: سمراء طارق

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي