على الرغم من أنَّنا نراها كل يوم، لا تزال شمسنا تثير ألغاز لا حصر لها. وفي 12 أغسطس 2018، بدأ هذا بالتغير، حيث نجحت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) في إطلاق مركبتها مسبار (باركر) الشمسي (Parker Solar Probe)، وهي أول مهمة على الإطلاق تقترب من نجمنا إلى هذا الحد؛ فستحلق المركبة الفضائية على بعد أقل من 6 ملايين كيلومتر فوق سطح الشمس في أقرب نقطة لها ومباشرة في غلافها الجوي الحار المتوهج.
وقال عالم المشروع (نيكولا فوكس)، وهو عالم في الطاقة الشمسية في جامعة (جونز) هوبكنز لموقع (Space.com):
إنها مركبة فضائية صغيرة جريئة، ذاهبة إلى المنطقة الرئيسية الأخيرة من نظامنا الشمسي لاستكشافها.
العديد من المركبات الفضائية قامت بدراسة الشمس بالطبع، ولكن لم يمتلك أي منها إمكانيات المهمة الجديدة: فلم يكن مسارها المداري أو معداتها ممكنة حتى الآن، على الرغم من مرور 60 عامًا من أحلام العلماء.
يقول (فوكس):
اعتقد أن مسبار باركر الشمسي هو مهمة ساحرة، وتمتلك شيئًا للجميع.
مسبار باركر وسبع سنوات من المطاردة
يمر مسار المركبة الفضائية إلى الشمس بكوكب الزهرة؛ حيث سيحلق المسبار بجوار أسخن كواكب مجموعتنا الشمسية سبع مرات على مدى سبع سنوات، مستخدمًا جاذبية كوكب الزهرة لتقليص مداره البيضاوي وتقريبه بشكل متزايد من الشمس. وسيكون أول تحليق بجوار كوكب الزهرة في شهر أكتوبر أي بعد 6 أسابيع من انطلاق المسبار، يليه أول لقاء مع الهالة الشمسية في نوفمبر. وسيكون هناك 24 دورة بين الشمس وكوكب الزهرة، وسيضع آخر ثلاثة منهم المسبار أقرب إلى الشمس –فقط 6 ملايين كيلومتر- في 2024 و2025، وهذا أقرب بمقدار 25 مرة من المسافة بين الأرض والشمس.
مسبار باركر من الخيال العلمي إلى الحقيقة
يتكلف المشروع بأكمله 1.5 مليار دولار وستستمر المهمة حتى عام 2025، قد لايبدو حينها مسبار (باركر) الشمسي بنفس الشكل: حيث يبلغ طوله حوالي 3 أمتار وعرضه أكثر من متر. ويحمي المسبار درع واقي حراري فائق القوة بسماكة 11.43 سم.
إن هذا الدرع الحراري هو ما أخذ مهمة لمدة سبع سنوات إلى الشمس خارج الخيال العلمي وجعل منها حقيقة. حيث سيُمكن الدرع المركبة الفضائية من النجاة في مدارها المتقارب مع النجم الناري، الذي سيصل إلى 6.16 ميلون كيلومتر من سطح الشمس.
وقد تمَّ بناء الدرع الحراري ليتحمل إشعاع مساوٍ لما يصل إلى حوالي 500 مرة مقدار إشعاع الشمس على الأرض. وحتى في المناطق التي يمكن أن تصل درجات الحرارة فيها إلى أكثر من مليون درجة فهرنهايت، من المتوقع أن تسخّن الشمس الدرع إلى حوالي 2500 درجة فهرنهايت فقط (1.371 درجة مئوية). حارق، أليس كذلك؟ ولكن إذا سار كل شئ كما هو مخطط، سيحافظ هذا الدرع على الأجهزة الحساسة للحرارة داخل المركبة عند 85 درجة فهرنهايت فقط (أي حوالي 30 درجة مئوية).
لماذا العلماء متحمسون للغاية في هذه المهمة الأولى من نوعها؟
أجهزة هذا المسبار تسعى للإجابة على أربعة أسئلة مختلفة حول الشمس:
- أولًا، هناك كاميرا عالية التقنية، يُطلق عليها وحدة التصوير على نطاق واسع لمسبار (باركر) الشمسي(Wide-Field Imager for Parker Solar Probe)، والتي سوف تلتقط صورًا لما توشك المركبة الفضائية على التحليق خلاله. وهذا سيسمح للعلماء بتزويد البيانات التي تجمعها الأجهزة الأخري بصور مرئية لظواهر الطاقة الشمسية مثل التوهجات.
- جهاز آخر، يُسمى (FIELDS)، يقوم بقياس ووضع خرائط للمجالات الكهربية والمغناطيسية داخل الغلاف الجوي الشمسي، مما يساعد العلماء على فهم كيفية تفاعل هذه القوى مع الجسيمات ذات الشحنة العالية تسمي بـ (البلازما-Plasma)، والتي تشكل الشمس وتتسارع إلى الفضاء فيما يسميه العلماء بالرياح الشمسية. (سنتحدث عنها لاحقا بالتفصيل)
- وتدرس مجموعتان من الأجهزة جسميات هذه الرياح الشمسية، إحداهما تُدعى (the Solar Wind Electrons Alphas and Protons)، وسوف تقوم بجمع الجسيمات لدراسة خصائصها مثل درجة الحرارة والسرعة.
- والمجموعة الأخري، والتي تُدعى (Integrated Science Investigation of the Sun)، سوف تقوم باستكشاف كيف تمكنت هذه الجسميات من التحرك بسرعات كبيرة جدًا في المقام الأول. (أكثر من 500 كم في الثانية).
هذه الرياح الشمسية هي واحدة من الأهداف العلمية الرئيسية لمسبار (باركر) الشمسي، حيث إنها تُعد قوة حاسمة تُشكل كامل نظامنا الشمسي وكل مكان من المحتمل أن يزوره البشر في المستقبل القريب. (يتم تعريف الحدود الرسمية لمنطقتنا بالفعل بمدى انتقال الرياح الشمسية).
الرياح الشمسية، فضلا عن غيرها مثل الانفجارات العملاقة للبلازما التي يطلق عليها العلماء التوهجات الشمسية والموجات الكتلية الإكليلية، تسبب مجموعة من الظواهر التي يطلق عليها الطقس الفضائي، يشمل الطقس الفضائي الأشفاق القطبية الجميلة والغير مؤذية التي تلون السماء الشمالية والجنوبية، ولكن ليس كل أنواع الطقس الفضائي حميدة جدًا؛ حيث يمكن للطقس الفضائي أن يتداخل مع الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض المسئولة عن الملاحة والاتصالات وبشكل خاص يمكن للأحداث القوية أن تضر بشبكات الكهرباء الأرضية.
يأمل العلماء أن تساعد البيانات التي سيتم جمعها من قبل مسبار (باركر) الشمسي على التنبؤ بشكل أفضل بالطقس الفضائي، موفرة ما يكفي من التحذير من الأحداث مما يسمح لهذه الأنظمة المصيرية من تجنب الأذى.
وقال (فوكس):
يمكننا الآن إضافة فيزياء صلبة للنماذج.
وأضاف:
بالقرب من الشمس، ما الذي يدفع الرياح الشمسية؟ وما الذي يسبب لها هذا التأثير الكبير على هذا الكوكب؟
في الوقت الحالي، الشمس هادئة إلى حد ما، فهي تقترب من الحد الأدنى من النشاط في دورتها التي تمتد 11 عامًا. ولكن في غضون بضع سنوات، سيتغير ذلك، مع زيادة نشاط الشمس مرة أخرى. ويأمل الفريق وراء مسبار (باركر) الشمسي أن يستعرض نجمنا مجموعته الكاملة من مزاجاته، من السكون إلى العنف. فكلما زادت الديناميكيات التي يراها المسبار اختلافًا، زادت إمكانية العلماء معه على معرفة كيف يعمل نجمنا حقًا.
وقال (فوكس):
نحن محظوظون للغاية لانها مهمة مدتها سبع سنوات. فنحن نريد أن نرى كل الأشياء المختلفة التي تلقي بها الشمس علينا.
تحطيم مسبار باركر للأرقام القياسية
سوف تبدأ الأرقام القياسية بالتحطم بمجرد أن يأخذ المسبار (باركر) دورته الأولى حول الشمس. البطل الحالي صاحب أقرب اقتراب من الشمس، وهو مسبار (هيليوس 2 – Helios 2) التابع (لناسا)، اقترب من الشمس بحوالي 43 مليون كيلومتر في عام 1976. بينما سيقترب مسبار (باركر) من الشمس احوالي 25 مليون كيلومتر في نوفمبر، ومن ثم سيبدأ في تحطيم أرقامه القياسية. وفي خلال أقرب نقطة له من الشمس، سوف تتدفق المركبة الفضائية خلال الهالة الشمسية بسرعة 690 كم/ساعة، مسجلة رقم قياسي في السرعة كأسرع مركبة في التاريخ البشري.
باركر الرجل
قبل ستين عامًا، عالم فيزياء فلكية شاب في جامعة (شيكاغو)، يُدعى (يوجين باركر – Eugene Parker)، اقترح وجود الرياح الشمسية. وقد شكك به الكثيرون حينها وطلبوا منه أن يقرأ عن الموضوع أولًا «حتى لا ترتكب هذه الأخطاء القاتلة»، كما يتذكر. ثم جاء الإثبات ومعه التبجيل مع المركبة الفضائية (مارينير2 – Mariner 2) التابعة لوكالة (ناسا) في عام 1962، يبلغ (باركر) الآن 91 عامًا، وقد شهد إطلاق المركبة الفضائية التي تحمل اسمه -إنها المرة الأولى التي تسمي فيها (ناسا) مركبة فضائية على اسم شخص لا يزال على قيد الحياة- على متن صاروخ (Delta IV Heavy rocket) مع عائلته من (كيب كانافيرال).
مصادر
إعداد وترجمة: هدير صبري
مراجعة: آية غانم
تحرير: زياد الشامي