باروخ سبينوزا: كيف رأى الحقيقة؟

54256693_338352466794373_6084366425177194496_n

باروخ سبينوزا: كيف رأى الحقيقة؟|

عاش سبينوزا (١٦٣٢-١٦٧٧) في ما يشبه العزلة التامة. وكان مرد ذلك، ليس إلى كونه يهوديًا في مجتمع ينظر فيه إلى اليهود على أنهم أبناء طائفة منبوذة فحسب، بل إلى مضمون فلسفته بالذات. ذلك أن الصيت الذي اكتسبه كواحد من الهراطقة والملحدين دفع البعض إلى الابتعاد عنه والقدح فيه. وقد يبدو من الغريب النظر إلى سبينوزا كواحد من الملحدين لأن الله كان محورًا أساسيًا في فلسفته. ولكنه بدا من الهراطقة حتى في نظر اليهود لأنه رفض التصوّر اليهودي-المسيحي عن الله، وذهب بعيدًا إلى حد أنه كان يستعمل كلمة «الله» و«الطبيعة» كمترادفتين.

نشر سبينوزا كتاب «مبادئ الفلسفة الديكارتية» عام ١٦٦٦، وكتاب «رسالة في اللاهوت والسياسة» عام ١٦٧٠. وما بينهما حرّر كتاب «الأخلاق» الذي يُعد من أبرز الأنساق الميتافيزيقية في تاريخ الفلسفة، حيث اعتمد على المنهج الاستنباطي، وأحاط بموضوعه إحاطة شاملة، وتناول بتفصيل دقيق جميع مسائله، فجاء عمله محكمًا في شكل نسقي منتظم.

يتضمّن الكتاب محاولة للاهتداء إلى نسق جامع للمعرفة، يستند أساسًا إلى العقل وليس إلى المعطيات التجريبية، ويتّسم بيقينه الكامل ابتداءً من أساسه وصولًا إلى نتائجه.

والحال أنّ العنوان الكامل للكتاب: «الأخلاق المبرهن عليها في نظام هندسي»، لا يدع مجالًا للشك في أنّ صاحبه إنما يطمح إلى بناء نظام فلسفي تُشكّل فيه الرياضيات المعيار الإبستمولوجي للميتافيزيقا. فالتعريفات مدْرجة، والبديهيات موضوعة، ثم هناك العدد الكبير من القضايا والاستنتاجات المبرهن عليها بالتفكير الذي ينجم بطريقة دقيقة متدرجة عن التعريفات والبديهيات.

وفي بناء نسقي كهذا ليس ثمة سوى معيار واحد فقط لليقين الحقيقي وهو الضرورة المنطقية. فالقضايا المنطقية الضرورية يقينية بصفة مطلقة، ومن ثم تكون القضايا الضرورية منطقيًا، أو القضايا التي تُستنتج منطقيًا من قضايا منطقية ضرورية أو من التعاريف البسيطة هي الجديرة باسم المعرفة الحقة. يقول سبينوزا في هذا السياق:

«أصف الشيء بالمحال إذا دلّ وجوده على تناقض، وأصفه بالضروري إذا دلّ لا وجوده على تناقض» (الأخلاق).

وهكذا فإنّ منهج سبينوزا الاستنباطي يستند إلى مبدأ عدم التناقض حيث أنّ كل ما يُعَدّ مسألة منطقية يجوز التسليم بحقيقته بدون أدنى تردد. وما يتبع منطقيًا تعريف شيء آخر، يُعتبر صحيحًا بطبيعة الحال شريطة أن يكون التعريف ذاته صحيحًا منطقيًا.

بيد أنّ نقطة القوة في هذا النظام هي عينها نقطة الضعف. وهذه ليست محض مفارقة لفظية. ذلك أنه «إذا طرأ الشك على افتراضاته الأولية، فإنّ النظام كله سينهار كبيت من ورق»، كما يقول كوتنغهام في ملاحظة سديدة، مقترحًا تقييم هذا النظام «هوليسيًا»، (holos باليونانية تعني «الكل») أي أنّ النظام لا ينبغي أن يتحدد تجزيئيًا بل بصفة كلية.

والحال أنّ في هذا الدفاع ما يتخطى مبدأ عدم التناقض، إذ يحيلنا إلى تصوّر الحقيقة نفسها. فبينما يميل التجريبيون إلى تحليل الحقيقة بوصفها مسألة انسجام (convenient)، أي انسجام الفكرة مع شيء خارجي، يعتقد سبينوزا أنّ الحقيقة تتّبع نظرية التماسك (coherence). حيث أنّ القول بأنّ فكرة من الأفكار وافية هو القول بأنها تقوم على علاقة منطقية معينة مع الأفكار الأخرى، الذي يعني جوهريًا أنه من الممكن البرهنة على أن لها صلة ضرورية بالنظام في كليته. وبعبارة واحدة: إنّ الحقيقة عند سبينوزا هي التماسك المنطقي.

وتقوم نظرية سبينوزا في الجوهر شاهدًا على مثل هذا التركيب المنطقي التماسك حيث أننا إذا سلّمنا بمقدماته سنجد أنّ النتائج المستنبطة لا مفرّ منها. فما هو تعريف الجوهر عند سبينوزا إذن؟ وما الذي تَرتّب منطقيًا عليه؟

يعلن سبينوزا في التعريف الثالث من «الأخلاق» أنّ «الجوهر هو الذي يكون في ذاته ويجري تصوّره من خلال ذاته؛ وبكلمات أخرى، هو الذي يمكن لتصوّره أن يتشكّل مستقلًّا عن أي تصوّر آخر». ويضيف بأنّ هذا الجوهر هو «علّة ذاته» (causa sui) أي أنه كينونة مكتفية بذاتها ومستقلّة.

يستخلص سبينوزا من هذا التعريف نتيجته المحتومة التي لم يستخلصها أحد من قبله، فيقول إنّ الجوهر بهذا المعنى لا يمكن إلا أن يكون واحدًا. فإذا افترضنا وجود جوهرين، وجب علينا لكي نفسّر طبيعتهما الجوهرانية، أن نفسّر كيف تم ارتباطهما أو عدم ارتباطهما. إلا أنّ مثل هذا التفسير سوف يعني بالضرورة أنه علينا أن ننظر إلى ما وراء الخواص الأساسية لكل جوهر. ومع ذلك، ففي تلك الحالة، لا يمكن أن يكون الشيئان اللذان نحن بصددهما جوهرين. لأنه، في التعريف الأصلي أعلاه، فإنه لوصف الشيء بأنه جوهر يجب أن يكون مكتفيًا بذاته ويجري تصوّره «في ذاته ومن خلال ذاته».

والحال أنه إذا كان هناك جوهر واحد، وإذا تعذّر بالتالي وجود جوهرين أو ثلاثة، فإنّ ما يتبع ذلك إذن هو أنّ كل ما هو موجود إنما يتعيّن على نحو أو آخر أن يكون جزءً من هذا الجوهر الأوحد، لأنه لو وُجد شيء ما مستقلًا عن هذا الجوهر فإنه سيكون جوهرًا آخر أو جزءً من جوهر آخر. وإذا كان هذا الجوهر قد سمّاه سبينوزا «الله أو الطبيعة» (deus sive natura)، فإنه بوسعنا القول إنّ كل شيء عبارة عن جزء من الطبيعة. وكلمات سبينوزا في هذا الصدد لا تخفي نفسها.

فيقول في رسالة إلى هنري أولدنبرغ (Henry oldenburg):

«كل جزء من الطبيعة يتفق مع الكل».

وتتمخض هذه النظرة عن جملة عواقب هامة:

أولًا:

استبعاد أية صورة من الثنائية الأونطولوجية التي أرستها الفلسفة الديكارتية على شكل جوهرين: الجوهر المفكر (الذهن) والجوهر الممتد (الجسم). والحال أن هذه القسمة الثنائية إلى جوهرين متضادين ومتعارضين قد خلقت مشكلة أعيت تلامذة ديكارت وشرّاحه، وهي أن الذهن والجسم كثيرًا ما يتفاعلان. فعندما يكون هناك تغيّر مادي في الجسد (ساقي مصابة بالأذى)، يكون هناك تغيّر ذهني ملائم (أشعر بالألم). وبالعكس، عندما يكون هناك تغيّر ذهني (أقرر أن أرفع يدي)، يتبعه تغيّر جسدي (ترتفع ذراعي).

بيد أنّ سبينوزا يقوم بالتحوّل الرائع والأصيل عن عقلانية ديكارت عندما يرفض ثنائيته. فضدًا على صاحب «مقالة في المنهج» الذي جعل من الفكر محمولًا رئيسيًا أو صفة للجوهر الذهني، وجعل من الامتداد محمولًا رئيسيًا أو صفة للجوهر الجسمي، فإنّ سبينوزا قد آثر الحديث عن جوهر واحد ولامتناهٍ هو «الله أو الطبيعة» جاعلًا من الفكر والامتداد صفتين لهذا الجوهر. أما ما كان عند ديكارت تعيّنات للجوهر من محمولات ثانوية أو أعراض وخواص من شكل أو حركة أو لون أو وزن أو انفعال أو حالة نفسية، فقد صار عند سبينوزا هو الحال. وهكذا فإنّ العقلانية عند سبينوزا تستلزم أنّ الثنائية باطلة لا محالة، لأنّ الثنائية لو كانت حقيقية لكانت هناك علاقة اعتباطية وغير قابلة للتفسير بين الذهن والجسد، وهذا يتعارض مع الزعم العقلاني أنّ هناك صلات مفهومة عقليًا تربط كل الظواهر.

ثانيًا:

إنّ القول بأنّ الجوهر واحد وهو «الله أو الطبيعة» قد أتاح لأول مرة في تاريخ الفلسفة إمكانية قراءة ثانية للإلهيات باعتبارها هي نفسها طبيعيات. فبالامتداد تكون الطبيعة قد تبدّت في حلية جديدة بوصفها «جسم الله» اللامتناهي. وخارج هذا الجسم الذي هو محل كل الوجود لا وجود إلا للعدم، والعدم فرض مستحيل وعبثي. فالطبيعة لامتناهية. وإنْ يكن الله هو مبدأ معقوليتها، فهذا المبدأ كامن فيها غير مفارق لها. وما دامت الطبيعة «واحدة دومًا»، وما دامت قوانينها بدورها «واحدة دومًا في كل مكان»، فهذا معناه أنه «لا يمكن أن تكون هناك سوى وسيلة واحدة وحيدة لفهم الأشياء، كائنة ما كانت: عن طريق قوانين الطبيعة وقواعدها الكليّة» (الأخلاق).

ثالثًا:

إنّ هذه الإحالة في فهم الطبيعة إلى الطبيعة نفسها تضعنا أمام ثالثة نتائج التماسك السبينوزي في وصف الحقيقة. وهذه النتيجة تدعى عمومًا «جبرية سبينوزا». فمن البديهيات الأولية في كتابه «الأخلاق» أنه «من علة محددة معينة ينجم معلوم بالضرورة». ولكن سبينوزا يذهب إلى ما هو أبعد من أن العلل تحتم معلولاتها. إنه ينكر أن يشتمل الكون على أية حوادث عارضة غير ضرورية مهما كانت. «ليس في الكون شيء عارض، ولكن كل الأشياء مشروطة بأن توجد وتعمل على نحو خاص بضرورة الطبيعة الإلهية». وهذا ينجم بالضرورة عن واحدية سبينوزا. لأنّ كل ما يوجد إنما هو صفة للجوهر الواحد الذي هو الله. وبما أن ذلك الجوهر ذاتيّ العلة وحر الإرادة بالضرورة، فإنّ كل صفاته يجب أن تنشأ من جوهره أو طبيعته، ومن ثم «فكلّ الأشياء مشروطة بضرورة الطبيعة الإلهية.. وليس هناك شيء عارض» (الأخلاق).

يهاجم سبينوزا الفكرة التي تقول إننا نتصرف بحرية عندما نستطيع أن نتصرف بطريقة أخرى، ويذهب إلى أن تصوّرنا لأنفسنا فاعلين غير محدَّدين هو تصوّر باطل. وشهير هو مثال الحجر الذي يعقده سبينوزا في هذا السياق.

يقول في رسالة إلى شولر (schuller):

«سأضرب مثلًا بموجود بسيط وليكن حجرًا مثلًا. يتلقى الحجر من مصدر خارجي مقدارًا من الحركة الدافعة فيستمر في الحركة حتى بعد توقّف العلة الخارجية عن ممارسة تأثيرها. وما يصدق على الحجر، يصدق على كل كائن أو شيء مفرد. لأن وجود وسلوك كل شيء مفرد محدَّدين بشكل ضروري بعلّة خارجية. تصوَّرْ أن هذا الحجر وهو الآن مستمرّ في حركته، قد بدأ يفكر فأدرك مجهوده الذي يقوم به للتحرك. من المؤكد أنّ هذا الحجر سيظن نفسه حرًا وأنه مستمر في حركته بمشيئته وحدها، وما ذلك إلا لأنه لا يعي غير مجهوده. ذلك هو شأن الحرية الإنسانية التي يتبجح الكثيرون بالتمتع بها والتي ليست في الحقيقة سوى نتيجة لوعي الناس برغباتهم وجهلهم بالعلل التي تحددها».

رابعًا:

يقول سبينوزا إنّ:

«الطبيعة لا تنحدّ بقوانين العقل البشري، فهي تنطوي على لاتناهٍ من قوانين أخرى تعود إلى النظام الأزلي لجماع الطبيعة التي ما الإنسان إلا جزء صغير منها. وفي كل مرة يظهر لنا فيها شيء من الأشياء رديئًا في الطبيعة، فمردّ ذلك إلى أننا نعرف الأشياء جزئيًا فقط ونجهل نظام الطبيعة بكاملها. وهذا على حين أنّ ما يحكم العقل بأنه سيء، ليس سيئًا من منظار نظام الطبيعة وقوانينها بكليتها، بل فقط من منظار طبيعتنا وحدها» (خواطر ميتافيزيقية).

والحال أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار الثورة العلمية التي سيعرفها مطلع القرن العشرين مع إلغاء أينشتاين لفكرة الفضاء المطلق ومع إلغاء هايزنبرغ لفكرة الموضوعية المطلقة في التجربة العلمية كما في نظرية المعرفة، فإنّ التجلية التي ينبغي أن تسجَّل لسبينوزا من وجهة النظر هذه هي تمهيده لإلغاء فكرة إطلاقية العقل، من خلال توكيده على المشروطية البنيوية للعقل البشري بالنظام الكلي للطبيعة التي هو جزء منها.

وهذا هو الاختبار الأخير والحاسم الذي لا تكون الحقيقة معه إلا حقيقة بوصفها تماسكًا.

 

إعداد: مايكل عطالله

مراجعة: مايكل ماهر

تحرير: سامح منصور

المصادر والمراجع:
1- باروخ سبينوزا، علم الإخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة.
2- جون كوتنغهام، العقلانية، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، مركز الإنماء الحضاري.
3- ريتشارد شاخت، رواد الفلسفة الحديثة، ترجمة الدكتور أحمد حمدي محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
4- جورج طرابيشي، نظرية العقل، دار الساقي.

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي