المقدمة
بعدما أرسى كُلٌ مِن جاليليو جاليلي وإسحاق نيوتن وغيرهم مبادئ الفيزياء الكلاسيكية ظن البعض أن الفيزياء وصلت إلى منتهاها ، ولا يوجد شيء جديد في الفيزياء يحتاج البحث والدراسة، إلى أن بدأ القرن العشرين وبدأت معه ثورة علمية في الفيزياء تُكتب من جديد على يد علماء مغمورين باستكشاف ما هو أغرب من الخيال في ذلك الوقت.
هذه الثورة أنشأت فرع جديد في الفيزياء أُطلق عليه الفيزياء الحديثة، وفي هذه السلسلة من المقالات سوف نسرد السيرة الذاتية لهؤلاء العلماء الذين أحدثوا ضجة علمية جعلت عالمنا أكثر تحضرًا وتقدمًا من ذي قبل.
عالِم اليوم الذي سوف نتحدث عنه كان أحد رواد الفيزياء الحديثة هو العالِم الإنجليزي بول ديراك.
النشأة
ولد بول أدريان موريس ديراك والمعروف ببول ديراك في بريستول، إنجلترا بتاريخ 8 أغسطس 1908 م، ويعتبر أحد مؤسسيّ علم ميكانيكا الكم.
كان والده سويسريًا وأمه إنجليزية، حيث عاش ديراك طفولة قاسية من المنزل والمدرسة مِمّا جعله انطوائيًا مُفتقرًا للمهارات الاجتماعية والعاطفية وقليل الحديث بحيث لا يتحدث إلا إذا طُلِب منه وبشكل مختصر ودقيق جدًا.(1)
أظهر ديراك من صغره قدرات رياضية غير عادية، حيث قال ذات مرة:
«جزء كبير من عملي هو مجرد اللعب بالمعادلات ورؤية ما تقدمه».
مسار بول ديراك العلميّ
تلقى بول ديراك بداية تعليمه في مدرسة بيشوب الابتدائية، وفي عام 1914 انضم إلى مدرسة كوثام النحوية. ثم انضم إلى جامعة بريستول منذ عام 1918 حتى عام 1921 أولًا في قسم الهندسة الكهربائية بحسب رغبة والده، وبعد عدم حصوله على وظيفة ظل عامين أخرين في قسم الرياضيات التطبيقية. وبناءً على نصيحة أساتذته في الرياضيات ومُساعدة زملائه انضم في عام 1923 إلى جامعة كامبردج كطالب باحث بالجامعة؛ حيث كان مستشاره ومساعده الوحيد بالجامعة هو رالف فاولر.
وفي أغسطس 1925 تلقى ديراك من خلال أدلة فاولر ورقة غير منشورة بقلم فيرنر هايزنبرغ والتي بدأت الانتقال الثوري من نموذج بوهر الذري إلى ميكانيكا الكم الجديدة. وفي سلسلة أوراقه وأطروحة الدكتوراة الخاصة به عام 1926، قام بول ديراك بتطوير أفكار هايزنبرغ. وكان إنجاز ديراك أكثر عمومية من حيث الشكل ولكنه مماثل في النتائج لميكانيكا المصفوفة، وهي نسخة مبكرة أخرى من ميكانيكا الكم أُنشِئت في نفس الوقت تقريبًا في ألمانيا من خلال جهد مشترك بين هايزنبرغ وماكس بورن وباسكوال جوردان وولفغانغ باولي. وفي خريف عام 1926 قام ديراك، وبشكل مُستقل، بدمج نهج المصفوفة مع الأساليب القوية لميكانيكا موجات شرودنجر والتفسير الإحصائي لبورن في مخطط عام – (نظرية التحول – transformation theory-) وكانت أول شكليات رياضية كاملة لميكانيكا الكم. وفي نفس المرحلة، طور بول ديراك أيضًا إحصائيات فيرمي ديراك (التي اقترحها إلى حد ما في وقت سابق إنريكو فيرمي).(2)
الإنجاز العلميّ
إحصاء فيرمي – ديراك
إحصائيات فيرمي – ديراك (Fermi – Dirac Statistics)، في ميكانيكا الكم، إحدى طريقتين محتملتين يمكن من خلالهما توزيع نظام من الجُسيمات التي لا يمكن تمييزها بين مجموعة من حالات الطاقة: يمكن أن يشغل جُسيم واحد فقط كل حالة من الحالات المنفصلة المتاحة. يُفسر هذا التفرد التركيب الإلكتروني للذرات؛ حيث تظل الإلكترونات في حالات منفصلة بدلاً من الانهيار في حالة مُشتركة، وبعض جوانب التوصيل الكهربائي. حيث أدرك بول ديراك وأنريكو فيرمي أن مجموعة من الجُسيمات المتطابقة والتي لا يمكن تمييزها يمكن توزيعها بهذه الطريقة بين سلسلة من الحالات المنفصلة (الكمية – quantized). وتنطبق إحصائيات فيرمي – ديراك فقط على تلك الأنواع من الجُسيمات التي تخضع للقيد المعروف باسم مبدأ استبعاد باولي. هذه الجُسيمات لها قيم نصف صحيحة من الـSpin وتسمى الفرميونات – Fermions، بعد الإحصائيات التي تصف سلوكها بشكل صحيح. تنطبق إحصائيات فيرمي ديراك، على سبيل المثال على الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات. وقد تم تطوير هذا السلوك الإحصائي بين عامي 1926-1927.
مقتنعًا بتفسير أن القوانين الأساسية التي تحكم الجُسيمات المجهرية هي احتمالية، أو أنّ الطبيعة تتخذ خيارًا، أعلن ديراك أنّ ميكانيكا الكم قد اكتملت ووجه اهتمامه الأساسي إلى نظرية الكم النسبية. غالبًا ما تعتبر البداية الحقيقية للديناميكا الكهربائية الكمية هي نظريته الكمومية للإشعاع عام 1927. وطور ديراك فيه طرقًا لتقدير الموجات الكهرومغناطيسية واخترع ما يسمى بـ (التكميم الثاني – second quantization) وهي طريقة لتحويل وصف جُسيم كمي واحد إلى شكلية لنظام العديد من هذه الجُسيمات. (6)
معادلة ديراك
نشر بول ديراك ما يُمكن أن يكون أعظم إنجاز منفرد له على الإطلاق، معادلة الموجة النسبية للإلكترون أو ما يُسمى (معادلة ديراك – Dirac Equation)، التي نُشرت في ورقتين في دورية وقائع الجمعية الملكية (لندن) the Royal Society (London) في فبراير ومارس 1928.
معادلة ديراك هي معادلة موجية نسبية في شكلها الحر أو بما في ذلك التفاعلات الكهرومغناطيسية، تصف الجُسيمات ذات (اللف المغزلي- spin) ½ مثل الإلكترونات والكواركات التي يكون التكافؤ فيها متماثلًا. وهي تتفق مع مبادئ ميكانيكا الكم والنظرية النسبية الخاصة، وكانت أول نظرية تُفسر بشكل كامل النسبية الخاصة في سياق ميكانيكا الكم.(4)
تطلبت معادلة ديراك مزيجًا من أربع وظائف موجية وكميات رياضية جديدة نسبيًا تُعرف باسم السبينورات – spinors. وكمكافأة إضافية وصفت المعادلة دوران الإلكترون بالعزم المغناطيسي – magnetic moment وهي ميزة أساسية ولكن لم يتم شرحها بشكل صحيح من قبل للجُسيمات الكمومية.
أولًا ، وقبل كل شيء بالنسبة لبول ديراك كان المنطق الذي أدى إلى النظرية، على الرغم من تعقيده العميق بسيطًا بشكل جميل. وبعد ذلك بكثير عندما سأله أحدهم (كما فعل الكثيرون من قبل)
«كيف وجدت معادلة ديراك؟»
قيل أنه أجاب:
«لقد وجدتها جميلة».
ثانيًا، اتفق مع القياسات الدقيقة لطاقات الضوء المنبعثة من الذرات ، خاصةً عندما تختلف هذه الطاقات عن ميكانيكا الكم العادية (غير النسبية).
منذ البداية ، كان ديراك مدركًا أن إنجازه المذهل عانى أيضًا من مشاكل خطيرة؛ فقد كان لديه مجموعة إضافية من الحلول التي لا معنى لها فيزيائيًا لأنها تتوافق مع القيم السلبية للطاقة. وفي عام 1930 ، اقترح ديراك تغييرًا في المنظور لاعتبار الوظائف الشاغرة في بحر إلكترونات الطاقة السالبة ثقوبًا موجبة الشحنة. ومن خلال اقتراح أن مثل هذه الثقوب يمكن تحديدها بالبروتونات ، كان يأمل في إنتاج نظرية موحدة للمادة، حيث كانت الإلكترونات والبروتونات هي الجُسيمات الأولية الوحيدة المعروفة. ومع ذلك فقد أثبت آخرون أن الثقب يجب أن يكون له نفس كتلة الإلكترون، في حين أن البروتون أثقل ألف مرة. أدى هذا إلى اعتراف ديراك في عام 1931 بأن نظريته -إذا كانت صحيحة- تشير إلى وجود نوع جديد من الجُسيمات غير معروف للفيزياء التجريبية، له نفس الكتلة والشحنة المعاكسة للإلكترون. وبعد عام واحد ولدهشة علماء الفيزياء اكتشف كارل أندرسون من الولايات المتحدة هذا الجُسيم – المضاد للإلكترون أو البوزيترون – بالصدفة في الأشعة الكونية.(5)
وفي عام 1932 تم تعيين بول ديراك أستاذًا للرياضيات ، وهو كرسي لوكاسيان في جامعة كامبريدج الذي كان يشغله إسحاق نيوتن.
وبعدما وضع ديراك أساس نظريته -معادلة ديراك- وتم إثباتها تجريبيًا تم ترشيحه لجائزة نوبل عام 1933 وحصل عليها مناصفة بينه وبين إيرفين شرودنجر لعملهما في استكشاف شكل جديد للنظرية الذرية. كما شارك بول ديراك بشكل هامشي في تطوير القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية. ثم في في عام 1937 تزوج مارجريت فيجنر، أخت الفيزيائي المجري يوجين فيجنر.(5)
وقد تقاعد ديراك من كامبريدج في عام 1969 ، وبعد عدة زيارات شغل منصب الأستاذية في جامعة فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية من عام 1971 حتى وفاته في 20 أكتوبر من عام 1984 م.(1,5)
ونختتم مقالنا عن العالِم بول ديراك بلقاء له قبل عامين من وفاته: