تجريبية التاريخ

2

|

تجريبية التاريخ

     قد يبدو من الوهلة الأولى اندهاش القارئ بكون علم التاريخ علمًا تجريبيًا؛ لأننا اعتدنا على أنه علم إنساني نظري يدرس الإنسان والزمان، ولكننا نحاول النظر في هذه القضية نظرة مختلفة وإن كانت غير يقينية.

      قام جين بابتستي Jean Baptiste([1])، وهو باحث في الرياضيات بجامعة هارفارد، بفكرة مميزة أطلق عليها «رياضيات التاريخ»، وقامت فكرته تحت تساؤل مهم وهو: هل من الممكن قياس سلوك البشر القدامى بطريقة كمية؟ وطرح جين رأيًا أن اللغة التي تحدث بها ملكا من ملوك إحدى الحقب التاريخية هي بالضرورة مختلفة عن اللغة التي تحدث بها ملك آخر لحقه بقرنين من الزمان، وأن كلا الملكين سيستخدم مفردات وتراكيب مختلفة عن الملك الآخر، وطبق هذا الرأي على تجربة قام فيها بتتبع أكثر من 100 فعل شاذ من أفعال اللغة الإنجليزية على مدار 12 قرن من تاريخ هذه اللغة، وقد ثبتت فكرته بالاختلاف والتطور)[2](.

     إن فكرة تجريبية التاريخ ربما تكون غير موافقة لكثير من آراء المؤرخين ونظرتهم لطبيعة التاريخ، وأشهر هؤلاء المؤرخين المؤرخ الإنجليزي هرنشو F.J.C.HEARNSHAW الذي يرى في كتابه «علم التاريخ» أن التاريخ يختلف عن العلوم التجريبية الفيزيقية وأنه ليس علم معاينة وتجربة، بل هو علم نقد وتحقيق ([3]) ، وهذه الطبيعة النظرية للتاريخ التي أثبتها ابن خلدون وأعجب بها كثير من مؤرخي الغرب أمثال توينبيA.JToynbee وكولنجوود R.G Collingwood هي في الحقيقة – بالنسبة للكاتب- رؤية تجريبية في المقام الثاني، قال ابن خلدون «إذ هو لا يزيد على إخبار عن الأمم والأيام والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال ..» ([4]).

   إن العلوم التجريبية تقوم على التجربة والنتيجة، فإن الحياة عبر التاريخ هي التجربة الأكثر وضوحًا لأحوال الأمم وتقلبات العصور، وحينما يحاول المؤرخون استعادة الحدث التاريخي ودراسته فهُم فى الحقيقة يذكرون تجربة من تجارب الحياة البشرية، في محاولة منهم لاستعادتها إلى العصر الحالي لدراسة هذه التجربة مرة أخرى، وهو ما لخصه بيتر تشارلز هوفر PETER CHARLES HOFFER عندما قال: «إن المؤرخين يعيدون ما هو ميت إلى الحياة »([5]).

       كان من أبرز ما دعاني للإعجاب بهذه الفكرة – تجريبية التاريخ – قول المؤرخ بيوري J.B. Bury، وهو أستاذ التاريخ بجامعة كامبريدج، عندما كان يوجه تلاميذه قائلًا: « لم يعد تفضلًا أن نقول ونُصِر على كون التاريخ علما من العلوم، لقد كانت المكتبة والسجلات على مدار التاريخ بمثابة المعامل، وكان من الممكن استخدام الأدلة التاريخية التي يتم اختبارها وتقديمها بموضوعية لاثبات الفروض المطروحة عن الماضي أو نفيها»([6])، والحقيقة أن أول غرفة خُصصت للسيمنار التاريخي في جامعة هوبكنز سنة 1880م كانت مصممة على شكل معمل([7])، وإذا كانت العلوم التجريبية تعتمد على التجربة البحتة والنتيجة، فإن التاريخ يعتمد على الإنسان، عنصر التاريخ الأول، وأفعاله التي هي الثمرة الأولى لوجوده في الحياة.

     إن التجربة العلمية تخضع للوقت وللتغيرات التي تطرأ بمرور الوقت وللتطور الذي يعطي نتائج مختلفة بمرور هذا الوقت، وهو ما يشابه قول المؤرخ المشهور هيجل G.W.Hegelونظرته في فلسفة التاريخ حينما قال في عام 1831م: »إن تاريخ البشر كله يمكن أن يوصف بأنه عملية طويلة استطاعت البشرية من خلالها أن تحرز تقدمًا روحيًا» أي أنها عملية التطور وتحقيق تقدم الروح عبر العصور([8])، فحوادث التاريخ المتطورة هي التغيرات التي تطرأ على تجربة الإنسان على سطح الأرض ومدى تأثيره وتأثره بهذه التجربة على مدار فترات زمنية مختلفة، فكما أن العلوم التجريبية تتميز بالتطور والتغير بمرور الوقت، فإن التاريخ كما يقول المؤرخ المشهور إدوارد كار E.H.Carr في كتابه الشهير What is History ?  في عام 1962 م: «التاريخ حوار لا نهاية له بين الماضي والحاضر» ([9])، والكتاب مجموعة من محاضرات شفهية ألقاها كار في جامعة كامبريدج في الفترة يناير – مارس 1961.

       إن المعادلات العلمية التي تخضع لدراستها العلوم التجريبية هي مواد مختلفة ونسبية الهوية، منها البسيط والمعقد، ومنها ما يتأثر بالضغط والبيئة والحياة والمكان، ومنها ما يخضع للكميات والأعداد، والإنسان على مر تاريخه مادة دسمة يخضع لكل هذه المتغيرات من البيئة والحياة والمكان وغيرهم، ويخضع للعدد في الحروب ويخضع للكميات في الحضارات.

     ومما سلف يمكن القول أن التاريخ هو العلم التجريبي الذي يقوم بتجربة هذه المادة – الإنسان – على مدار حقب – تجارب – تاريخية مختلفة، تخضع هذه التجارب للنجاح في فترات تاريخية مزدهرة وتنال الأخرى حظها من الفشل في فترات التدهور والاضمحلال.

__________________________________________________________________________________________________________________________

([1] ) جين بابتستي JEAN BAPTISTE : باحث فى البيانات وأكاديمي بجامعة هارفرد ، تتركز أبحاثه وتجاربه علىى استخدام الكميات والبيانات والأدوات في مساعدة فهم أفضل للعالم من حولنا .

([2] ) https://www.ted.com/talks/jean_baptiste_michel_the_mathematics_of_history

([3] ) هرنشو F.J.C.HEARNSHAW : علم التاريخ ، ترجمة وتعليق : عبد الحميد العبادي (دكتور) ، سلسلة المعارف العامة ، 1944، صـ 11.

([4] ) ابن خلدون ( عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ت 808هـ ، 1405م ) : المقدمة ، جـ1، تحقيق : علي عبد الواحد وافي ( دكتور) ، مكتبة الأسرة ، القاهرة ، 2006م ، صـ 291.

([5] ) بيتر تشارلز هوفر PETER CHARLES HOFFER : تناقضات المؤرخين ” دراسة التاريخ في زماننا ، ترجمة وتقديم : قاسم عبده قاسم (دكتور) ، المركز القومي للترجمة ، طـ 1، القاهرة ، 2013م ، صـ 21 ، 22.

([6] ) بيتر تشارلز هوفر : تناقضات المؤرخين ، 23.

([7] ) نفس المرجع.

([8] ) هيجل G.W.HEGEL: العقل في التاريخ ، مجـ 1 ، “محاضرات في فلسفة التاريخ ” ، ترجمة وتعليق : إمام عبد الفتاح إمام ، دار التنوير للنشر ، طـ 3، 2007م ، صـ 41 ، ويمكن مراجعة نظرية هيجل من خلال : رأفت الشيخ ( دكتور) : تفسير مسار التغيير ” نظريات في فلسفة التاريخ ” ، عين للدراست والبحوث ، 1420هـ ، 2000م ، صـ 166وما بعدها .

([9] ) E.H.CARR:WHAT IS HISTORY ,PENGUIN PRESS, SECOND EDITION ,1987,P:123.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي