إن العلاقة مع الموسيقى ليست علاقة نفعية تقوم على الترفيه والإمتاع والإحساس بالجمال فحسب، بل هي علاقة اجتماعية قوامها الرئيس الإنسان، منه وإليه يعود تفاعل عوامله الداخلية والنفسية مع عناصر بيئته الخارجية مُنصهرة جميعها في بوتقة واحدة لتُحدِث ذلك العنصر الكيميائي الذي ليس له معادلة ثابتة وهو الإبداع.
لذلك غالبًا ما نحاول البحث عن صاحب الموسيقى التي نحن بصدد سماعها، حتى نستطيع إيجاد التواصل بيننا وبين صاحبها، وبين صاحبها وعالمه الذي نسجه لنفسه، وبين الموسيقى ذاتها وصاحبها؛ أي بين صورة وأصل تلك القطعة المعدنية الثمينة، لنكون في نهاية الأمر أمام علاقة اجتماعية من نوع خاص وفريد.
ولأنها علاقة اجتماعية، فإجماع الآراء فيها غير يقيني، والصحيح فيها نسبي، والقُبح متذبذب، والجمال مُتردد، وهذا هو الحال عند ذكر اسم أحد أشهر علامات الموسيقى العالمية، حيث كانت حياته مُضطربة، وعلاقاته الإنسانية مُتوترة، وأحزانه ملاذه، وأعماله مُختلَف عليها، ووفاته جدال مُستمر بلا نهاية، إنه الموسِيقي تشايكوفسكي.
حملت حياة تشايكوفسكي الكثير من التناقضات والتضادات، والقليل من الأفراح، وقدر لا بأس به إطلاقًا من المآسي، والآمال، والأحلام المخيبة للرجاء، ونحن لنسأله أن يغفر لنا محاولة الكشف عن حياته ولو بشكل صغير، حيث لطالما عانى من فكرة محاولة الكثيرين في المستقبل التنقيب عن كل ما يخصه، وهو ما ذكره في إحدى رسائله الخاصة عندما قال: «إن فكرة أن الاهتمام بموسيقاي سيثير الاهتمام بي شخصيًا هي فكرة شديدة الوطأة… وفكرة أن القوم في يوم ما سيحاولون سبْر العالم الخصوصي لأفكاري ومشاعري، وكل شيء حرصت على إخفائه طوال حياتي… لهي محزنة وغير سارة(1)».
بداية غير صاخبة
وُلد «بيتر إيليش تشايكوفسكي» في الخامس والعشرين من إبريل لعام 1840م في مدينة «فوتكنسك» بمقاطعة «فياتكا»(2) في الإمبراطورية الروسية آنذاك -جمهورية روسيا الاتحادية حاليًا- وجرى في عروقه شيء من الدم الفرنسي من ناحية والدته، كان الطفل الثاني لـ«إيليا بتروفيتش تشايكوفسكي» من زواجه الثاني بعد وفاة زوجته الأولى، إذ كان يعمل مديرًا لإحدى مناجم الحديد.
تأثر تشايكوفسكي كثيرًا بمربيته الفرنسية «فاني دورباك»، فقد ساعدته على تنظيم الوقت الذي يقضيه أمام آلة البيانو، وشجعت محاولاته المبكرة في مجال الأدب، واستطاع بفضلها التحدُث باللغتين الفرنسية والألمانية بطلاقة وهو في السادسة من عمره.
وقد كتبت دورباك واصفة طفولة تشايكوفسكي: «كانت حساسيته مرهفة جدًا، لذلك كان عليَّ أن أكون حذرة في التعامل معه. كانت التفاهة تجرحه بعمق، كان سريع الانكسار كالبورسلين. معه لم يكن هناك مجال للعقاب، إن التعنيف البسيط الذي قد لا يؤثر في الأطفال الآخرين يؤثر فيه بعمق ويجرحه(3)».
اتخذ تشايكوفسكي مسارًا تعليميَا طبيعيًا، فبعد اجتيازه للثانوية العليا التحق بمدرسة القانون لتستقر حياته المضطربة بداخله نسبيًا حتى يدق أول أجراس مُصَاب الحياة بوفاة والدته التي كانت أقرب الناس إليه بوباء الكوليرا، لتتمزق أول أوصال صلابته من جرّاء ما تعتمله الحياة الخشنة على نفسيته الرقيقة، ويعمد بعدها بموافقة والده إلى تعلم عزف البيانو على يد العازف الألماني «كوندينجر» الذي نصح والده -رغم أنه أُخذ بقدرات طالبه على الارتجال- بألا يحترف الموسيقى: «في المقام الأول لا أرى إشارات تدل على العبقرية في تشايكوفسكي، ثانيًا إن زيادة موسِيقي آخر في روسيا أمر شاق ومُرهق(4)»، ليعترف كوندينجر بخطأ حكمه بعدها بسنوات ويكتب: «لو كانت لديّ أيُّ فكرة عما سيصبح عليه، لكنت احتفظت بدفتر يوميات الدروس(5)»
في عام 1860م، عرج تشايكوفسكي على طرق متنوعة، فها هو يعمل موظفًا بوزارة العدل عقب تخرجه من مدرسة القانون، وعلى الجانب الآخر يقوم على دراسة النظريات الموسيقية ويُحرز فيها تقدمًا ملحوظًا، حيث عُدّ من أوائل الطلاب الملتحقين بالمعهد الموسيقي الروسي «كونسرفاتوار بطرسبورج» الذي تأسّس وفق المعايير العالمية، ليتابع دراسته به على يد أستاذه «نيكولاي زاريمبا» ويدرس نظريات التأليف وموسيقى الكنيسة إلى جانب دروس العزف على آلات الفلوت والبيانو والأورجن.
وفي أواخر عام 1863م، يحسم تشايكوفسكي الجدل داخله ويقرر الاستقالة من منصبه بوزارة العدل والتفرغ تمامًا للموسيقى، ليتخوّف شقيقه «نيكولاي» من هذا القرار، ويكتب إلى أخيه: «إنك لن تصبح جلينكا* آخر»، ليرد عليه تشايكوفسكي: «ربما لن أصبح جلينكا آخر، ولكن سيأتي اليوم الذي ستكون فخورًا بي(6)»، ليتخرج بالفعل بعد ذلك ويعمل أستاذًا لمادة الهارموني بـ«كونسرفاتوار موسكو» بترشيح من «أنطون روبنشتاين» لأخيه «نيكولاي روبنشتاين»، لتثبت الحياة لتشايكوفسكي بأن ليس له طريق ليسير به سوى الموسيقى.
سر حب تشايكوفسكي للموسيقى
كان تشايكوفسكي يرى نفسه محظوظًا لأنه لم ينتم إلى عائلة موسيقية تفرض عليه تفضيلات وأذواق بعينها، مما أتاح الفرصة لروحه للبحث عما تألفه، لتنفتح أمامه آفاق موسيقية غير معروفة ذات جمال بلا حدود، وكانت البداية عند سماعه لموسيقى أوبرا «دون جيوفاني» لـ«موتسارت»، حيث أوضح تشايكوفسكي بأن هذه الموسيقى أثّرت فيه تأثيرًا ساحرًا، وحملته معها داخل ذلك العالم من الجمال الفني حيث لا يقطن فيه سوى العباقرة العظماء، وأن موتسارت أول من أثار قواه الموسيقية وجعله يحب الموسيقى أكثر من أي شيء بالعالم(7).
بداية من عام 1866م، شرع تشايكوفسكي في تقديم أعماله الفنية، ومنها سيمفونته الأولى «أحلام الشتاء»، وأوبرا «فويفودا» للكاتب «أوستروفسكي»، والقصيدة السيمفونية «القدر» ليحظوا بنجاح ليس بالكبير دفع تشايكوفسكي إلى إتلاف بعضٍ من هذه الاعمال(8).
هذا الإخفاق كان من شأنه أن جعل الاكتئاب والإحباط ضيفان لازماه طوال حياته، لكنهما لم يجعلاه بأي حال من الأحوال يتوقف عن استكمال مشواره الموسيقي وعن الاستمتاع بها، ليحقق بعد ذلك نجاحات عظيمة لموسيقى أتى بها من عالم آخر.
وإلى جانب عمله في التأليف الموسيقي، اشتغل تشايكوفسكي كناقد فني للأعمال الموسيقية في «الجريدة الروسية» و«مجلة التاريخ المُعاصر»، وكان دؤوبًا متحمسًا لهذا العمل الذي يستطيع من خلال إثراء العقول البشرية بالتحف الموسيقية وتعريفهم بقيمتها من خلال تسليط الضوء عليها، لكن سُرعان ما بدأت تجربة الحياة تصب الماء البارد على نار الحماس النقدي الذي تأجج في داخله على حد وصفه(9)، ولحدوث اختلافات معه في آرائه، لذلك آثر الابتعاد والرجوع للانغماس في مؤلفاته الموسيقية.
دفاع تشايكوفسكي عن الفن الشعبي الروسي.. ورأيه في الموسيقى الأوروبية
كثيرًا ما وُجهت لتشايكوفسكي ادعاءات وتهم تتعلق بعدم اهتمامه بالفن الروسي والعمل على رفعة شأنه، وتفكيره في ذاته وفنه فقط، في حين أن المُتأمل الأمين لدورة حياته سوف يجد ما يدل على نقيض ذلك، والأدلة كثيرة.
فالموسيقى التي قدمها تشايكوفسكي شاهدة على ذلك، خاصة سيمفونته الثانية «الروسي الصغير» التي تأثر فيها بمقابلاته مع الخمسة الكبار، وهم المؤلفون القوميون الروس الذين كانوا يدْعون إلى الحركة القومية في الموسيقى وهم «ميلي بالاكيريف، ريمسكي كورساكوف، كوي، موسورسكي، وبورودين(10)»، حيث استعان فيها بألحان شعبية أوكرانية، وكذلك الحال في االقصيد السيمفوني «روميو وجولييت» الذي أهداه إلى بالاكيريف(11).
كذلك كان السبب الحقيقي وراء اعتزال تشايكوفسكي للنقد الفني دفاعه المستميت عن الفن الشعبي الروسي بعد معارضته لأداء المغني «سلافيانسكي» للأغاني الشعبية، واصفًا من يعتبرونه حاملًا لراية الموسيقى الروسية بعدم معرفتهم بالموسيقى عامة والموسيقى الروسية بشكل خاص، وأن الأغنية الروسية ينبغي أن تؤدَّى بالطريقة التي تجذب أُذن الشعب الروسي من جانب مُغنيين شعبيين حقيقيين، وأنها تتطلب شخصية موسيقية متمكّنة ومعرفة حقيقية بتاريخ الفن(12).
فوق ذلك، كان تشايكوفسكي شديد الحرص على انتقاء موضوعات لأوبراته تَهم الفرد الروسي في المقام الأول قبل أن تجذب الموسيقيين، إيمانًا منه بأن هؤلاء هم جمهوره الحقيقي.
وعكست أسفاره المُتلاحقة إلى أوروبا في أوقات تالية في حياته بداخله آراءه الخاصة حول موسيقى ذلك الركن من العالم، فكان يرى الموسيقى الأوروبية مُستودع كنز تساهم فيه كل أمة بشيء مما لديها، وأن الحس القومي حاضر لدى جلينكا بالعند نفسه الذي يحضر فيه لدى «بتهوفن»، و«فيردي»، و«جونو**»، مُتمنيًا من أعماق قلبه أن تقف الموسيقى الروسية على قدمين خاصتين بها، وأن تبث الأغاني الروسية روحًا جديدةً داخل الموسيقى(13).
أريد التفرغ للتأليف الموسيقي ولكن!
بحكم طبيعة تشايكوفسكي المُعقدة نسبيًا وعدم ميلها إلى الاجتماعيات وحبها للانعزال، كان يجد صعوبةً ما في التوفيق بين عمله في التدريس، وبين مقدرته على التأليف الموسيقي التي كان يرى أنها تحتاج إلى تفرُغ تام ليستحضر أجمل الألحان، ولكنه كان يجد مَشَقَّةً في الاستغناء عن التدريس لما توفره من ماديات تسمح له بالعيش والتنقُل.
وكان للقدر يده البيضاء عليه عندما منحه السيدة «فون ميك» الثرية المولعة بالموسيقى ومن المعجبين والمتحمسين لعمله، فقدمت له دعمًا ماليًا سنويًا ساعده على الاستقالة من عمله التدريسي والتفرغ التام لمؤلَفاته عام 1878م، كما كان لها الفضل في عبوره لكثير من أزماته النفسية، حيث كانت خير صديقة لروحه، عن طريق المُراسلات فيما بينهما. وفي وقت لاحق منحه القيصر الروسي معاشًا تقاعديًا سنويًا مقداره ثلاثة آلاف روبل مدى الحياة(14).
لقاء تشايكوفسكي مع تولستوي
كان تشايكوفسكي يرى في «ليو تولستوي» الكاتب الأعظم في العالم، وأنه وحده يكفي لضمان ألا يحتاج الروسي إلى طأطأة رأسه خزيًا حين يخبرونه عن كل الأشياء العظيمة التي منحتها أوروبا للبشرية، وأنه العبقرية الأعظم عُمقًا وقوة التي لم يعرفها الأدب قط، ولم يكن تشايكوفسكي معجبًا بوصف الآخرين بأنه «مُعادل شكسبير» أو «أعظم من بوشكين»، فقد كان مفرد تولستوي بالنسبة له أبعد من كل المقارنات، وأنه مفرد في جلاله المنيع كقمة «ايفيرست» أو «داولاجيري»*** بين القمم (15).
وعلى الجهة الأخرى، كان تولستوي مُعجب بموسيقى تشايكوفسكي، وعبّر عن رغبته في لقائه حيث كان شديد الاهتمام بالموسيقى، وتردد تشايكوفسكي في مقابلته لخوفه من قدرته على اختراقه، لكن مخاوفه تبددت جميعها بالأحاديث التي دارت بينهما، وزادته ثقة في نفسه كمؤلف موسيقي يجلس تولستوي العظيم بالقرب منه باكيًا من فرط إعجابه بإحدى حركاته الموسيقية.
أنبتت المناقشات فيما بينهما أزهار في حدائق عقل تشايكوفسكي، كان أهمها على الإطلاق أن الفنان الذي يعمل ليس باستجابة إلى دافع داخلي بل بحساب حريص للتأثير الذي سيحققه؛ والذي يقسو على موهبته بهدف الإرضاء، والذي يُجبر نفسه على إشباع الجمهور؛ ليس بفنان حقيقي، وأن أعماله لن تدوم، وأن نجاحه وقتي(16). وكان هذا الرأي ما وجد فيه تشايكوفسكي ضالته.
الإلهام ضيف لا يحب زيارة الكسالى
لا يتفق تشايكوفسكي مع من عاصروه أو قدموا بعده على أن الإلهام الفني يكون عصيًا في أحيان ويُجبر الفنان على التوقف انتظارًا لحضوره، حيث يراه على عكس قولهم مُلبيًا لكل من يستدعيه، وأن على الفنان أن يُعطي كل ما لديه سواء استجابت قوة هذا الإلهام بشكل جزئي أو كلي، أو لم تستجب مطلقًا.
فيصف شارحًا بأنه إما أن يكتب استجابةً لدافع داخلي تنقله قوة الإلهام، وإما أن يعمل ببساطة مُستدعيًا هذه القوة التي تأتي أو لا تأتي، وفي الحالة الأخيرة يُنتِج قلمه عملًا لم يمسه دفء الانفعال الحقيقي(17).
كذلك يرفض كتابة الكلمات بعد الموسيقى، فما أن تُكتب الموسيقى لنص، حتى يستدعي النص تعبيرًا موسيقيًا مُلائمًا، وبالطريقة ذاتها يرى استحالة كتابة قطعة سيمفونية ثم البحث عن منهاج لها، بل إن المنهاج المُختار سيستدعي تزيينًا موسيقيًا مُطابقًا(18).
التفكير في الانتحار!
في إحدى سنوات حياته، وتحديدًا في يوليو من عام 1877م اتخذ تشايكوفسكي قرارًا مُفاجئًا بالزواج، ربما لم يفكر في هذا القرار بعقله أو بقلبه ولكن من المؤكد أن هناك قوة مجهولة داخله هي من دفعته إلى ذلك، وكان لهذا القرار عواقب وخيمة على حياته، فقد بدأت فكرة الانتحار تراود عقله، ولكنه رفضها في بداية الأمرلأنها ستكون ضربة مُميتة لعائلته، ولضعفه كذلك على حد قوله، فقد اعترف بحبه للحياة وللنجاح الذي ينتظره في المُستقبل(19).
وبعد مرور فترة قصيرة على زواجه، عانى تشايكوفسكي حالة من أشد حالات اكتئابه، منبعها إحساسه بالإخفاق في التأليف الموسيقي لأوبرا «يفجيني أونيجن» للكاتب «ألكسندر بوشكين»، التي لم يكن يعلم حينها أن ستكون بعد أعوام من أعظم أعماله وسر من أسرار نجاحه، وعدم قدرته على مجاراة أيام حياته مع زوجته السيدة «أنتونينا ميليوكوفا».
تكالبت عليه الأفكار السوداوية، وفي يأس تام، قرر تشايكوفسكي إنهاء حياته، لكن عزم على أن يفعل ذلك بطريقة لا يتمكن فيها أحد من الشك بالانتحار، لقد استنبط وسيلة للموت وفيها سيدرك من في الدائرة حوله بأن موته كان نتيجة المرض. وهكذا، في ليلة خريفية باردة، ذهب إلى نهر موسكو، وغطس في الماء، وبقي واقفًا فيه إلى أن تملّك جسده التشنج. حين مضى إلى البيت، أوضح أنه قد تعثر وسقط في النهر. كان مُتأكدًا من أنه سيُصاب بمرض ذات الرئة ويموت، لكن أعصابه كانت في حالة من الإثارة حتى أنه لم يُصب بمجرّد البرد(20)، ولكن وطأةً ما فيه بدأت في الانحسار عنه تدريجيًا خاصةً بعد إنهاء زواجه الذي لم يدم سوى أسابيع قليلة.
أصابه سهم الشُهرة
كان تشايكوفسكي راغبًا في تحقيق الشُهرة والانتشار ولكن بقواعده التي اختارها لنفسه مبدأً، ومن بينها رفضه التام لنصيحة نشر أعماله الأوبرالية بعناوين فرنسية، مبررًا ذلك بأنه لا يحب السعي وراء الخارج قائلًا في مذكراته: «دعهم يأتون إلينا وليس العكس، لو أن الوقت حان في أنهم يريدون أعمالنا الأوبرالية، إذن سنترجم لهم ليس العناوين فقط، بل النص كله كما فعلوا بالترجمة الألمانية ل «عذراء أورليان» من أجل انتاجها في براج، وإلى أن يغادر عمل أوبرالي روسيا، فلا معنى في ترجمته إلى لغة قوم غير مُهتمين به(21)».
ولم تكن تلك القواعد مُقيِدة لأعماله، فقد نال ما أراد، وتردد صدى شهرته في الآفاق، وصارت أعماله علمًا يُرفرف في جنبات عواصم الأوبرا، وأصبح اسمه مقترن بأسماء كبار الموسيقيين الذين عرفهم العالم.
وفي ديسمبر من عام 1885م، انتخب المجلس الأكاديمي لمعهد الموسيقى تشايكوفسكي عضوًا فخريًا في معهد الموسيقى بموسكو، نظرًا للمواهب العظيمة الجلية في مؤلَفاته الموسيقية، والخدمات التي قدمها لتطوير فن الموسيقى في روسيا، حيث كانت هذه هي المرة الأولى التي يقوم بها معهد الموسيقى بمثل هذا الإجراء(22).
وخارج حدود روسيا القيصرية، كانت هناك تكريمات كثيرة، من بينها تكريم مدينة «براج» العظيم له، حيث أوضح بأنه منذ الدقيقة الأولى لوصوله، انطلقت سلسلة لا تنتهي من الاحتفالات والتمرينات والمشاهدات، حيث استقبلته المدينة كمُمثلًا ليس فقط عن الموسيقى الروسية، بل عن روسيا كلها(23).
أينما ظهر تشايكوفسكي حقّق نجاحًا عظيمًا، لكن لا أحد يقرأ عنه في جرائد روسيا، فقد أهملته بشكل مؤسف، فلم يكن لديه أصدقاء في صحافة بطرسبورج، ولم يكن تشايكوفسكي يربط هذا الأمر بشخصه، بل كان كل هدفه بأن يعرف الجمهور الروسي بأن موسيقيًا روسيًا، بغض النظر عمن قد يكونه، حمل راية فنه الوطني بشرف وتميُز في المراكز العظيمة في أوروبا(24).
فحَزن تشايكوفسكي على موقف صحافة بلاده منه، ولأن الأحزان لا تأتي إلا مُجتمعة، فقد أرسلت إليه السيدة فون ميك، داعمته المالية والروحية، رسالة تشتكي فيها من الحالة المالية المهزوزة لأبنائها، لتتبعها برسالة أخرى تخبره بأنها تحطمت ماليًا وأنها أوقفت مخصصاته، فخسر تشايكوفسكي بذلك ليس سنده المادي فقط، بل أيضًا اليد التي كانت ترفق به وتجمع فتات روحه المبعثرة، وبذل عدة محاولات لمواصلة المُراسلات بينهما، حتى بواسطة طرف ثالث، ولم تُسفر محاولاته عن نتيجة(25).
أعمال تشايكوفسكي
ألّف تشايكوفسكي العديد من الأعمال التي شاعت بين جمهور الموسيقى الكلاسيكية، منها أوبرات «أوبريتشنك» لـ«إيفان لاجيشنيكوف»، و«عذراء أورليان» لـ«فريدريش فون شيللر»، و«العاصفة» لـ«شكسبير»، وكلًا من «يفجيني أونيجن»، و«مازيبا»، و«ملكة البستوني» لـ«بوشكين»، وغيرهم الكثير.
كما كان لفن الباليه نصيب من موسيقى تشايكوفسكي التي حوّلها إلى تحف فنية تجول العالم دونما توقف، حيث يعتبر المؤلف الأكثر أهمية في هذا المجال، ومن أعماله باليهات «بحيرة البجع»، و«الجمال النائم»، و«كسارة البندق» المأخوذ من حكاية «كسارة البندق وملك الفئران» ل «هوفمان»، ومن الداعي إلى الاستغراب أن هذه الباليهات لم تحظ بنجاح كبير عند عرضها ولم يكن تشايكوفسكي نفسه ليتصور وصولها إلى هذا النجاح العالمي الآن.
وإلى جانب ذلك، ألّف ست سيمفونيات من بينهم السيمفونية الرابعة التي أهداها إلى السيدة فون ميك، وأربعة كونشرتوات، والفانتازيا السيمفونية «فرانشيسكا دا ريميني»، و«النزوة الإيطالية»، وأغانيه المائة والست التي ما زالت تتردد في أوبرات العالم، وأكثر من مائة عمل لآلة البيانو المُنفرد، وغيرها للكمان، والنشيد الإمبراطوري الروسي، إلى جانب «افتتاحية 1812» التي وثّق من خلالها محاولة الغزو الفرنسي الفاشلة لروسيا، مُستخدمًا فيها طلقات من المدافع لتندمج مع الموسيقى لتكون خير مُعبر عن قوة الموسيقى في نقل التاريخ بشكل حي، وغيرها الكثير من موسيقى الكورال والحُجرة.
نضوج فني
صال تشايكوفسكي وجال بين هنا وهناك، يبعثر ويوزّع نسماته الموسيقية ف حفلاته حول العالم الأوروبي، ووصل الأمر إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي حاز فيها جُل التكريم أثناء مشاركته في افتتاح قاعة نيويورك الموسيقية -المعروفة بكارنيجي هول الآن-، وأرادت المملكة المتحدة أن يكون لها نصيب من التقدير لهذا الرجل، فمنحته جامعة «كامبريدج» العريقة الدكتوراه الفخرية.
وأراد تشايكوفسكي الاستقرار، فطلب من السيد «ألكسي سوفرونوف» أن يُهييْ له منزلًا ريفيًا جديدًا، وبعد بحث قصير وجد سوفرونوف منزلًا مُناسبًا في منطقة كلين، وكان ذلك المنزل آخر منزل لتشايكوفسكي، وقد غدا ذلك المنزل «متحف تشايكوفسكي» (26).
غياب يحكمه الجدل
في اليوم الخامس والعشرين من شهر أكتوبر لعام 1893م، تُوفي تشايكوفسكي، هكذا بدون أية مُقدمات، مَرَضْ وتعب وعذابات امتدت لأيام قصيرة ثم النهاية مُباشرة.
أعلنت الجرائد الروسية أن الكوليرا قضت على مشعل من مشاعل روسيا، لتكثُر الأقاويل والأحاديث بعد ذلك، منها ما أكد أن وفاته طبيعية بفعل وباء الكوليرا المتفشي في روسيا، ومنها ما تُبرّأ هذا الوباء من فعلة قتل تشايكوفسكي مبررة ذلك بأن أعراض مرضه لم تكن أعراض وباء الكوليرا، بل أعراض انتحار قَتَلَه بصورة بطيئة، وما زال الجدل بشأن ذلك لم يتوقف، ودُفن تشايكوفسكي في مقبرة «تخفين» بالقرب من «دير ألكسندر نيفسكي» (والآن هي مقبرة كبيرة للشخصيات البارزة في الفنون» بالقرب من قبر جلينكا)(27).
إن الموت غير المُتوقع لمؤلفهم المحبوب كان ضربة قاسية لمُعاصريه، لقد كان تشيخوف**** من أعظم المعجبين بموهبة تشايكوفسكي، وحين عرف بأمر وفاته، أرسل برقية إلى موديست -الأخ الأصغر لتشايكوفسكي-: «لقد صعقني الخبر، إنني حزين بشكل مُروع.. »، وكان في ذلك الوقت أن كتب تولستوي إلى زوجته من مدينة ياسنايا بوليانا: «أنا شديد الأسف لتشايكوفسكي… أكثر من كونه موسيقيًا، أشعر بالأسف للإنسان الذي كان بداخله، شيء غير واضح كلية. لَكَم هو مُفاجئ وبسيط، كَم طبيعي وغير طبيعي، وكَم كان قريبًا من قلبي(28)».
إن قصة حياة «بيتر إيليش تشايكوفسكي» هي قصة فنان فريد في ثقافته وفكره وصدقه، قصة عبقري عكس في موسيقاه روح روسيا القرن التاسع عشر، منذ سنواته الأولى، أظهر طبيعة حسّاسة إلى أبعد حد، هذه الطبيعة التي انعكست فيما بعد على نحو عميق في الموسيقى التي أبدعها. كان روِسيًا فخورًا بقوميته، وبفضله حظيت الموسيقى الروسية في القرن التاسع عشر بقيمة عالمية(29).
واحتفاءً بقيمة هذا الرجل، نظّم الاتحاد السوفيتي في عام 1958م أول دَورات «مسابقة تشايكوفسكي» في مجال الموسيقى الكلاسيكية، حيث تُعد إحدى أهم المسابقات العالمية، ورمز من رموز الثقافة الروسية، حيث تتوجّه عيون العالم إلى روسيا كل أربعة أعوام لإحياء مجال الموسيقى الكلاسيكية بشكل عام، واسم هذا الرجل بشكل خاص، للتذكير بدوره من خلال هذه المسابقة.
ولعلنا نظل نتذكر كلماته التي اختصرت غايته من كل أيام حياته:
«إنها رغبتي العميقة أن تكون موسيقاي معروفة على نطاق واسع، وأن يتزايد عدد أولئك الذين يحبونها، الذين يجدون فيها راحةً وعونًا(30)».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ميخائيل جلينكا (1804م – 1857م) مؤلف روسي يُعد منشئ الموسيقى القومية الروسية
(المصدر: محمد حنانا. (2014). بيتر إيليتش تشايكوفسكي. دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب).
**شارل جونو (1818م – 1893م) مُلحن فرنسي وشخصية رائدة في الأوبرا الفرنسية خلال الربع الثالث من القرن التاسع عشر
المصدر
***داولاجيري من القمم الجبلية الواقعة بمدينة بوخارا التابعة لدولة النيبال
المصدر
****أنطون تشيخوف (1860م – 1904م) طبيب وكاتب مسرحي روسي، ومؤلف للعديد من القصص القصيرة المصدر
إعداد: هدير جابر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- أورلوفا، ألكسندرا.(2009). تشايكوفسكي: سيرة ذاتية، (ترجمة سمير علي). أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث(المجمع الثقافي). (العمل الأصلي نشر في عام 1990م)، ص ص 9-10.
2- نفس المرجع السابق، ص27.
3- محمد حنانا. (2014). بيتر إيليتش تشايكوفسكي. دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب.
4- نفس المرجع السابق، ص15.
5- نفس المرجع السابق، ص16.
6- نفس المرجع السابق، ص ص 20-21.
7- أورلوفا، ألكسندرا، مرجع سابق، ص32.
8- محمد حنانا، مرجع سابق، ص26-31.
9- أورلوفا، ألكسندرا، مرجع سابق، ص73.
10- محمد حنانا، مرجع سابق، ص29.
11- يوسف السيسي. (1981). دعوة إلى الموسيقى. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
12- أورلوفا، ألكسندرا، مرجع سابق، ص93.
13- نفس المرجع السابق، ص314.
14- محمد حنانا، مرجع سابق، ص53.
15- أورلوفا، ألكسندرا، مرجع سابق، ص ص 444-459.
16- نفس المرجع السابق، ص ص 109-110.
17- نفس المرجع السابق، ص200.
18- نفس المرجع السابق، ص201.
19- نفس المرجع السابق، ص120.
20- نفس المرجع السابق، ص123.
21- نفس المرجع السابق، ص345.
22- نفس المرجع السابق، ص424.
23- نفس المرجع السابق، ص475.
24- نفس المرجع السابق، ص510.
25- نفس المرجع السابق، ص ص 543-545.
26- محمد حنانا، مرجع سابق، ص56.
27- أورلوفا، ألكسندرا، مرجع سابق، ص599.
28- نفس المرجع السابق، ص599.
29- محمد حنانا، مرجع سابق، ص7.
30- أورلوفا، ألكسندرا، مرجع سابق، ص599.