يشكّل عامل الوقت عائقًا كبيرًا أمام الكيميائيّين وعلماء الموادّ أثناء محاولتهم تصنيع وتطوير موادّ جديدةٍ. ممّا دفع باحثين من جامعة ولاية نورث كارولَينا (بالإنجليزيّة: North Carolina State University) وجامعة بافالو (بالإنجليزيّة: University at Buffalo)، إلى تطوير تقنيّةٍ تُسمّى: الكيميائيّ الاصطناعيّ (بالإنجليزيّة: Artificial Chemist). وهي تكنولوجيا تجمع بين الذّكاء الاصطناعيّ (بالإنجليزيّة: Artificial Intelligence) ونظامٍ أوتوماتيكيٍّ لإجراء التّفاعلات الكيميائيّة لتسريع عمليات البحث والتّطوير (بالإنجليزيّة: R&D Processes) وتصنيع الموادّ المطلوبة تجاريًّا.
في تجارب إثبات المفهوم (بالإنجليزيّة: Proof-of-concept Experiments)، أثبت الباحثون أنّ الكيميائيّ الاصطناعيّ يمكنه تحديد وإنتاج أفضل نقاط الكمّ (بالإنجليزيّة: Quantum Dots) الممكنة لأيّ لونٍ خلال 15 دقيقةً أو أقلّ.
نقاط الكمّ هي بلّوراتٌ نانويّةٌ شبه موصّلةٍ غروانيّةٍ (بالإنجليزيّة: Colloidal Semiconductor Nanocrystals)، وتُستخدم في بعض التّطبيقات مثل الشّاشات العاملة بدايوداتٍ مضيئةٍ أو ما تُسمّى بشاشات اللّيدّ المضيئة (بالإنجليزيّة: LED Displays). ولاحظ الباحثون سريعًا أنّ الكيميائيّ الاصطناعيّ يمكنه تحديد أفضل الموادّ لتلبية أيّ مجموعةٍ من الخصائص القابلة للقياس، وليس فقط نقاط الكمّ.
يقول ميلاد أبو الحسانيّ (بالإنجليزيّة: Milad Abolhasani) -وهو أستاذٌ مساعدٌ في الهندسة الكيميائيّة والجزيئيّة الحيويّة (بالإنجليزيّة: Chemical and Biomolecular Engineering) في جامعة ولاية نورث كارولَينا، وأحد المشاركين في إعداد هذه الورقة البحثيّة-:
«إنّ الكيميائيّ الاصطناعيّ هو نظامٌ ذاتيٌّ التّشغيل حقًّا، ويمكنه التّنقّل بذكاءٍ داخل عالم الكيمياء. في الوقت الحاليّ، يناسب تصميم الكيميائيّ الاصطناعيّ الموادّ المعالجة باستخدام المحاليل (بالإنجليزيّة: Solution-processed Materials)، ممّا يعني أنّه فعّالٌ في حالة الموادّ الّتي يمكن تصنيعها باستخدام مركّباتٍ طليعيّةٍ سائلةٍ (بالإنجليزيّة: Liquid Chemical Precursors)، وتشمل الموادّ المعالجة باستخدام المحاليل موادّ عالية القيمة مثل: نقاط الكمّ، والجسيمات النانويّة للمعادن وأكاسيد المعادن (بالإنجليزيّة: Metal/Metal oxide Nanoparticles)، والهياكل الفلزّيّة العضويّة (تُختصر بالإنجليزيّة: MOFs)، وغيرها»
يشبه الكيميائيّ الاصطناعيّ السّيّارة ذاتيّة القيادة، إلّا أنّ السّيارة ذاتيّة القيادة لديها عددٌ قليلٌ من الطّرق للاختيار بينها، حتّى يتسنّى لها الوصول إلى وجهتها المحدّدة مسبقًا. لكنّ الكيميائيّ الاصطناعيّ يأخذ مجموعةً من المعايير المرغوب فيها، وهي الخصائص الّتي نرغب في وجودها في الشّكل النّهائيّ للمادّة. ويجب على الكيميائيّ الاصطناعيّ استنتاج كلّ المعلومات الأخرى المطلوبة، مثل: ما هي المركّبات الطّليعيّة الّتي يجب استخدامها، وما هو المسار التّخليقيّ (بالإنجليزيّة: Synthetic Route) الّذي يجب اتّباعه، وفي نفس الوقت، كيف يمكن خفض استهلاك هذه المركبّات الطّليعيّة.
يضيف أبو الحسانيّ:
«والنّتيجة النّهائيّة هي تكنولوجيا ذاتيّة التّشغيل تمامًا لتطوير الموادّ. لا تساعدك هذه التّكنولوجيا فقط في إيجاد مجموعةٍ مثاليّةٍ من الموادّ المعالجة باستخدام المحاليل بشكلٍ أسرع من أيٍّ من التّقنيّات المستخدمة حاليًّا، لكنّها أيضًا تحقّق ذلك باستخدام كمّيّاتٍ صغيرةٍ من المركّبات الطّليعيّة. وهذا يقلّل بشكلٍ كبيرٍ من إهدار الكيماويّات المستخدمة، ويجعل عمليّة تصنيع الموادّ أقلّ تكلفةً بكثيرٍ»
يمتلك الكيميائيّ الاصطناعيّ جسمًا وظيفته إجراء التّجارب وملاحظة نتائجها، ودماغًا لتسجيل هذه البيانات واستخدامها لتحديد ما ستكون عليه التّجربة التّالية. ومن أجل اختبار صحّة المفهوم، صُمّم جسم الكيميائيّ الاصطناعيّ بالدّمج بين برنامجين آليّين لكيمياء التّدفّق التّخليقيّة (بالإنجليزيّة: Flow Synthesis Platforms)، طُوّرا داخل معمل أبو الحسانيّ، ويسمّيان: نانوكريستال فاكتوري (بالإنجليزيّة: Nanocrystal Factory) ونانوروبو (بالإنجليزيّة: NanoRobo). أثبت برنامج الكيميائيّ الاصطناعيّ أنّه يمكنه إجراء 500 تجربةٍ تخليقيّةٍ لنقاط الكمّ يوميًّا، على الرّغم من أنّ أبو الحسانيّ قدّر عدد التّجارب الّتي يمكنه إجراءها يوميًّا بألف تجربةٍ.
يعتبر دماغ الكيميائيّ الاصطناعيّ برنامجًا للذّكاء الاصطناعيّ يمكنه تمييز الموادّ الّتي يصنّعها الجسم، ويستخدم هذه البيانات لاتّخاذ قراراتٍ أوتوماتيكيّةٍ لتحديد ما هي الظّروف التّجريبيّة التّالية. وتستند قراراته على تحديد ما الّذي يؤدّي إلى أفضل تركيبٍ للمادّة، ويمنحنا الخصائص ومقاييس الأداء المرغوب فيها. يقول أبو الحسانيّ:
«لقد حاولنا محاكاة العمليّة الّتي يستخدمها البشر عند اتّخاذ القرارات، ولكن بكفاءةٍ أكبر»
على سبيل المثال، يسمح الكيميائيّ الاصطناعيّ بنقل المعرفة، ممّا يعني أنّه يخزّن البيانات الّتي يحصل عليها من كلّ طلبٍ يتلقّاه، وذلك يسهّل عليه تمييز المادةّ التّالية الّتي يُكلّف بها. بعبارةٍ أخرى، يصبح الكيميائيّ الاصطناعيّ مع مرور الوقت أكثر ذكاءً وسرعةً في تحديد المادّة الأفضل. يقول أبو الحسانيّ:
«توصّلنا إلى طريقةٍ يمكنها -حتّى في حالة عدم وجود أيّ معلوماتٍ مسبقةٍ- تحديد أفضل نقطةٍ كميّةٍ ممكنة خلال 25 تجربةً، أو قُرابة ساعةٍ ونصف السّاعة. ولكن بمجرّد حصول الكيميائيّ الاصطناعيّ على المعلومات بشكلٍ مسبقٍ -بمعنى أنّه عالج بالفعل طلبًا واحدًا أو أكثر من طلبات الموادّ المستهدفة- يمكنه تحديد المادّة المثاليّة للخصائص الجديدة في غضون من 10 إلى 15 دقيقةً»
ويضيف أبو الحسانيّ:
«وجدنا أنّ الكيميائيّ الاصطناعيّ يمكنه أيضًا تحديد حدود خصائص الموادّ لمجموعةٍ معيّنة من المركّبات الطّليعيّة البادئة، بشكلٍ سريعٍ، بحيث لا يضطرّ الكيميائيّون وعلماء الموادّ إلى إضاعة أوقاتهم في استكشاف ظروف عمليّة التّخليق المختلفة. وأنا أومن أنّ عمليّات البحث والتّطوير ذاتيّة التّشغيل الّتي يقدّمها الكيميائيّ الاصطناعيّ يمكن أن تعيد تشكيل مستقبل تصنيع الموادّ وتطويرها. لذلك أبحث، في الوقت الحاليّ، عن شركاء لمساعدتنا على نقل هذه التّقنيّة من المعمل إلى القطاع الصّناعيّ»