تفاصيل جائزة نوبل في الاقتصاد 2018: دمج العوامل الطبيعية والمعرفية في التحليل الاقتصادي

جائزة-نوبل-للاقتصاد-2018

مُنحت جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2018 لعلماء ساهموا في صياغة حلول لواحد من أهم القضايا الأساسية والمُلحة في عصرنا: وهو النمو المستدام على المدى الطويل في الاقتصاد العالمي وتأثيره على رفاهية سكان العالم.

إن دراسة كيفية تعامل البشرية مع نُدرة الموارد تُشكل حجر الزاوية في علم الاقتصاد، وقد اعترف علم الاقتصاد مُنذ نشأته بأن الطبيعة والمعرفة يُشكلان معًا أهم العوائق أمام استغلال هذه الموارد المحدودة. فالطبيعة تُحدد الظروف التي نعيش فيها والمعرفة تُحدد مدى قُدرتنا على إدارة هذه الظروف. وعلى الرغم من هذه الأهمية، فإن الاقتصاديين لم يدرسوا بشكل عام كيف تتأثر الطبيعة والمعرفة بالأسواق والسلوك الاقتصادي. لقد قام كل من Paul M. Romer و William D. Nordhaus، الحائزان على جائزة نوبل هذا العام، بتوسيع نطاق التحليل الاقتصادي من خلال تقديم الأدوات الضرورية لمعرفة التأثير طويل المدى لاقتصاد السوق على الطبيعة والمعرفة.

المعرفة (Romer)

لأكثر من قرن من الزمان، نما الاقتصاد العالمي الإجمالي بوتيرة ملحوظة ومستقرة، وعندما يتراكم النمو الاقتصادي ولو بنسب بسيطة على مدار السنوات والقرون فإنه يُغير حياة الناس. وقد اختلفت نسب النمو باختلاف الزمن فقد كان النمو في الماضي أبطأ بكثير مما هو عليه الآن، كما اختلفت نسب النمو كذلك باختلاف الدول في ذات الزمن، فما هي عوامل تحفيز النمو الاقتصادي؟ والإجابة التقليدية للاقتصادين على هذا السؤال: هي التغيير التكنولوجي، حيث تتحول المعرفة المُتراكمة لدى الدول إلى تقنيات يُنشئها المخترعون والمهندسون والعلماء. وفي مطلع الثمانينات من القرن الماضي كان رومر هو أول من قدم هذه الإجابة عندما كان طالب للدكتوراه في جامعة شيكاغو، حيثُ عمل على تطوير نظرية النمو الداخلي، وقال بأن التطورات التكنولوجية لا تنشأ من مصادر خارجية، كما افترضت النماذج الاقتصادية السابقة، بل على العكس، فإن إنشاؤها  يكون داخليًا من خلال أنشطة هادفة لسد حاجات مُعينة في السوق. وتُقدم إسهامات رومر  في هذا المجال فهم أفضل لظروف السوق التي تؤدي لخلق أفكار تكنولوجية جديد القابلة للتطبيق، ويساعدنا عمله على تصميم المؤسسات والسياسات التي يمكن أن تعزز رخاء البشرية من خلال تهيئة الظروف المناسبة للتطور التكنولوجي.

قصور نظري في تفسير النمو (Empirical and theoretical shortcomings)

تؤدي الاختلافات طويلة الأجل في معدلات النمو لنتائج مذهلة، فإذا بدأ اقتصادان بنفس متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، لكن أحدهما ينمو بمعدل 4% أعلى من الآخر، فسوف يصبح الأول أكثر ثراءً بخمسة مرات خلال أربعين عامًا تقريبًا، بينما في ظل مُعدلات نمو متواضعة بنسبة 2% فقط سيصبح الأول أكثر ثراء بمُعدل الضعف خلال ذات الفترة. وقد قدم رومر في أواخر الثمانينات توقعًا لحالة اقتصادات الدول المُختلفة في وضعها في القرن الحالي اعتمادًا على البيانات المتاحة في الثمانينات، وقد كان نموذج سولو (Solow model) – النموذج السائد في ذلك الوقت-  الذي يعتمد على العوامل الخارجية لتفسير النمو قاصرًا عن تفسير النمو الاقتصادي بالشكل الذي اقترحه وتوقعه رومر، لأنه يعتمد في الأساس على العوامل الخارجية لتفسير النمو.

طفرة كبيرة (A major breakthrough)

كان أهم انجازات رومر هو الخروج من الإطار النظري السابق وتقديم إطار جديد لفهم التطور الاقتصادي فحواه التطورات التكنولوجية الداخلية، كيفية تأثير التكنولوجيا على اقتصاد السوق عن طريق خلق سلع وخدمات جديدة، مما يؤدي لتوسع السوق وبالتالي مزيدًا من النمو، كما اقترح سياسات اقتصادية لتحفيز هذه التطورات التكنولوجية وبالتالي الدفع في اتجاه مزيدًا من النمو، وقد كان لمساهمات رومر تأثير كبير على علم الاقتصاد، فقد وضع تفسيره النظري الأساس للبحث في نظرية النمو الداخلي، كما أثارت توقعاته للنمو الاقتصادي للدول نقاشات عديدة بحوثًا تجريبية جديدة وحيوية في هذا المجال.

الطبيعة (Nordhaus)

بدأ ويليام نوردهاوس عمله في سبعينيات القرن الماضي، بعد أن تنامى القلق بشأن ارتفاع درجة حرارة الأرض التي يتسبب بها احتراق الوقود الأحفوري في رفع كبير لدرجة حرارة الأرض، والتأثيرات الضارة للتغيرات المُناخية الناتجة عن ذلك. تولى نوردهاوس المهمة الشاقة المتمثلة في دراسة التأثير المُتبادل بين النشاط البشري والمناخ عن طريق الجمع بين النظريات الأساسية والنتائج التجريبية من الفيزياء والكيمياء والاقتصاد، وذلك باعتبار مُتغير يتأثر بالنشاط الاقتصادي، لا مُجرد قيد عليه. بالتالي أصبح نوردهاوس أول شخص يقدم نماذج بسيطة ديناميكية وكمية في ذات الوقت للنظام الاقتصادي العالمي للمناخ، وتسمى هذه النماذج الآن بنماذج التقييم المتكاملة (IAMs). وتسمح هذه النماذج بمحاكاة كيف سيتطور الاقتصاد والمناخ في المستقبل في ظل سيناريوهات بديلة لهذا التأثير المُتبادل، وفي ضوء نتائج هذه  السيناريوهات العالمية المختلفة تقدم هذه النماذج أفضل الحلول وسياسات التدخل على المستوى الدولي للحد من تأثير النشاط الاقتصادي على المناخ.

تغير المُناخ (Climate change)

ساهم النشاط البشري في زيادة سريعة في متوسط درجات الحرارة العالمية على مدار المائة عام الماضية، وفي ظل حالة عدم اليقين بشأن مدى الضرر الذي سيؤدي إليه هذه التغير في المستقبل، فإن علماء الطبيعة أجمعوا على أنه في جميع الأحوال فإن هذا التأثير سيكون شديد الوضوح، مما دفع نوردهاوس في أوائل سبعينيات القرن الماضي إلى توجيه اهتمامه نحو استنباط أدوات جديدة للمساعدة على فهم كيف يمكن للاقتصاد التسبب في تغيُر المناخ، والعواقب المجتمعية الناتجة عن هذا التغيُر. وقد أراد تطوير إطار يسمح بتحليل تغير المناخ من حيث التكاليف والفوائد، مما يسمح في النهاية بتطوير نظري لرصد التغير في المناخ من حيث التكاليف والفوائد.

وقد نجح نوردهاوس بالفعل في توسيع نموذج سولو للنمو بإضافة مجموعة مهمة من الآثار غير المباشرة الناتجة عن ارتفاع مُعدلات درجة الحرارة العالمية بفعل انبعاثات الكربون. وقد اسفر النموذج الجديد عن أن جميع الآثار الناتجة عن هذا الاحترار العالمي هي سلبية في الغالب. ولأن آليات تُغير المناخ الناتج عن النشاط البشري تتم دراستها في العلوم الطبيعية، فإن التحليل العالمي لتغير المناخ تتطلب داسته مقاربة متكاملة يتفاعل فيه المجتمع والطبيعة بشكل دائم. وقد كان نوردهاوس رائداً في تطوير المقاربة عن طريق تقديم نماذج التقييم المتكاملة (IAMs)، التي تحتوي ثلاث وحدات تفاعلية: هي وحدة تدوير الكربون (A carbon-circulation module)، وحدة المناخ (A climate module)، وحدة النمو الاقتصادي (An economic-growth module):

نظام ديناميكي مُتكامل (global dynamic system)

تُشكل الوحدات الثلاث السابقة نموذجًا بسيطًا، ولكنه متحرك يتفاعل مع العالم، وتوجد نسختان من نموذج نوردهاوس: النموذج الإقليمي المتكامل للاقتصاد المناخي (RICE)، حيث تضم وحدة النمو الاقتصادي ثمانية مناطق منفصلة، والنموذج الديناميكي المتكامل للاقتصاد المناخي (DICE) الذي يحتوي على منطقة واحدة. ويمكن استخدام نماذج نوردهاوس لمحاكاة نتائج سياسات الأعمال في وضعها العادي، وسياسات التي يُمكن تعديلها بإدخالها عليها. كذلك تُساعد النماذج أيضًا في تقييم كيفية توجيه اقتصاد السوق لمستوى الانبعاثات الكربونية التي توازن بشكل ملائم التكاليف البيئية والعوائد المجتمعية. وقد قدمت هذه النماذج لأول مرة اطار يتأثر فيه الإنسان – على غرار الواقع – بالمناخ في نفس الوقت الذي يتأثر فيه المناخ بالأنشطة الاقتصادية للإنسان.

ترجمة: محمد شادي

المصدر

https://www.nobelprize.org/uploads/2018/10/popular-economicsciencesprize2018.pdf

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي