وُجد الإنسان على وجه الأرض وتنوعت احتياجاته، خلقه الله على الفطرة، والحرية المطلقة والرغبة الجامحة، ولكن مقابل ذلك كانت مخاطر الحياة له بالمرصاد، فالحيوانات البرية والظواهر الطبيعية كانت دائمًا ما تهدد بقاءه، وكان بجانب ذلك ميوله الاجتماعية، مما دفعه للتجمع وتكوين العشائر والأُسر، وتطورت تلك الأُسر والعشائر والجماعات لتستقر وتسكن القرى، ثم تطورت القرى لمدن، وتوسعت لتكوّن الأقاليم، واتحدت الأقاليم لتكوّن الدول، وبظهور الدول المختلفة متعددة الموارد والمطامع؛ ظهرت السياسة وظهر الاقتصاد.
وهنا لزم الأمر لتعريف السياسة:
فالسياسة في اللغة من جذر (سوس) فمنها السياسي والسائس وتعني القائد المُسّير للأمور والشؤون، وتعني السياسة اصطلاحًا رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وتعرّف إجرائيًا حسب (هارولد لازول) بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا (المصادر المحدودة) متى وكيف، أي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة (ديفيد إيستون).
وعرفها بعض السياسيين بأنها دراسة العلاقات بين الطبقات، وما بينها من صراع وتفاعل حيوي، وعرّف البعض الآخر السياسة بأنها (فن الممكن) أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيًا وليس الخطأ الشائع وهو أن فن الممكن هو الخضوع للواقع السياسي وعدم تغييره بناءًا على حسابات القوة والمصلحة.
ونخلص من ذلك كله بأن السياسة ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني فهي فن الممكن في تسيير الأمور واستخدام القوة والموارد بما يحقق المصلحة الفُضلى للسياسي وجماعته، ونحن ها هنا لن نتطرق لتطور المجتمعات حتى وصلت لمفهوم الدولة الحديث؛ ولكننا سنستعرض بعض النظريات التي قامت على أساسها الدول، فلا سياسة بدون مؤسسات وجهات تتحرك على رقعتها، ويمكننا تلخيص تلك النظريات كالآتي:
1- النظرية الثيوقراطية: نظرية الحق الإلهي، وتتلخص في أن الحكم لبعض من يختصهم الإله بمباركتهم، ويكون الحكم فيها حكمًا دينيًا كهنوتيًا، مثل دولة المصريين القدماء وعصور أوروبا الوسطى.
2- نظرية التطور العائلي: التي تعتبر المجتمع امتدادًا للعشيرة والأسرة، وبالتالي تتركز السلطة في أيدي الحكماء من كبار السن كامتداد للسلطة الأبوية.
3 – نظرية الوراثة: نظرية توريث المُلك، التي تتبنى وجهة النظر الإقطاعية التي تنص على أن الأرض ملك دائم لحاكمها ويورثها لمن يخافه من أبنائه، وغالبًا ما يكون الحكم في يد رأس المال الذي يستطيع شراء الأرض والتحكم في ما تنتجه من خيرات.
4- النظرية العضوية: نظرية تقسيم جسم المجتمع لفئات، كأعضاء الجسد، كل يقوم بدوره، وكما وُجد أُناس عاديين، وُجد المتميزون الذين يسعون للصدارة والسيطرة وبالتالي يصلون للحكم.
تعتبر أول النظريات لنشأة الدول هي النظرية الثيوقراطية، فما هي الثيوقراطية؟
تلك النظرية ذات المدخل الديني، تلك النظرية تعتبر الدولة كيانًا مقدسًا والحاكم يستمد نظامه ووجهة نظره من رؤية إلهية مقدسة، فبالتالي لا يجوز سؤاله ومحاسبته إلا من خلال الإله، وقد كانت تستخدم تلك النظريات من خلال الكهنة لتوطيد الملك لبعض الأسر الحاكمة بفرض أن الحاكم هو الإله أو ابن الإله كما عهدنا في الدولة الفرعونية، ولكن مع تطور الوعي والتفكير النقدي لدى البشر تطورت لديهم المناعة ضد فكرة التأليه تلك، فلم ينصرف عنها رجال الدين ولكنهم حوروها لكي تلائم مصالحهم، فأوعزوا للناس بأن الإله يتدخل ببعض الظواهر وبعض العلامات خلال سير الأحداث ليظهر أحد الأسر على الأخريات، فبالتالي تعتبر تلك الأسرة هي الأجدر بالملك والحكم بسبب الاختيار الإلهي من خلال الصدف والمفارقات، ولكن الكنيسة لا يمكنها ترك شيء للصدفة، لذا كان البابا ورجاله يحبكون تلك المفارقات والصدف في نسيج محكم مما يسمح له بالتدخل في شؤون الحكم كما كان في الدولة الفرنسية في بعض فترات القرن السابع عشر. وقد تختلف الدولة الثيوقراطية، فلا يكون الحاكم دائمًا مُعين عن طريق الإله وكهنته، ولكنه يتولى الحكم على أساس تعهده بالالتزام بالحكم عن طريق تعاليم الدين وقوة تعاليمه وقوانينه، ويُعد أقوى مثال على ذلك هو الدولة الإسلامية منذ نشأتها وتطورها عبر عصر النبوة والخلافة إلى أن وصلت للدولة العثمانية.
نظرية التطور العائلي
ثاني تلك النظريات كانت نظرية التطور العائلي وكان رائد هذه النظرية الفيلسوف اليوناني أرسطو، فهو يرى أن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش منعزلًا، فهو يشعر بمَيلٍ غريزيٍّ للاجتماع، فيلتقي الذكر بالأنثى مكونَين بذلك وحدةً اجتماعيةً صغيرةً وهي الأسرة، وتتفرَّع الأسرة وتتشعَّب مكونةً العائلة، فالعشيرة، فالقبيلة، فالمدينة التي تكون نواة الدولة.
وتُعتبر هذه النظرية بحق أول محاولة فكرية لتفسير نشأة الدولة، والقائلون بها لا يرون الدولة إلا مرحلةً متقدمةً ومتطورةً من الأسرة، وأن أساس السلطة فيها يعتمد على سلطة رب الأسرة وشيخ القبيلة.
أمّا السلطة السياسية في هذه النظرية ما هي إلا امتداد لتلك السلطة الأبوية، لذلك قد يطلق على هذه النظرية باسم نظرية السلطة الأبوية. ويلاحظ تأييدًا لهذه النظرية، أن الأديان جميعها تقر أن العالم البشري يرجع الى زواج آدم بحواء أي إلى الأسرة، هذا فضلًا عن وجود أوجه تشابه عديدة بين الدولة والعائلة من حيث الروح والنظام والتضامن الجماعي، لهذا كان من الصعب قديمًا تجاهل وجود هذه الرابطة العائلية التي تقيم فيما بعد الوحدة السياسية وبعض الشواهد التاريخية تؤيد هذه النظرة.
لكن وُجّهت لهذه النظرية العديد من الانتقادات أهمها المغالطة الاجتماعية التاريخية، حيث أكد علماء الاجتماع أن الأسرة لم تكن الخلية الأولى للمجتمع، بل أن الناس جمعتهم المصالح المشتركة والرغبة في التعاون على مكافحة أحداث الطبيعة قبل أن توجد الأسرة، لذا كانوا يلتفون حول العشيرة التوأمية، فأساس الصلة في هذه ليس الدم ولكن التوأم.
نظرية الوراثة
أما نظرية الوراثة، حيث نشأت في ظل الإقطاعية وهي ترى أن حق ملكية الأرض وهو حق طبيعي، يعطي لمالكي الأرض حق ملكية كل ما عليها وحكم الناس الذين يعيشون عليها والذين عليهم طاعة المُلّاك والرضوخ لسلطتهم، فالدولة إذن وجدت نتيجة حق ملكية الأرض ومن أجل خدمة الإقطاعيين، لذا كانت تهدف إلى تبرير النظام الإقطاعي.
النظرية العضوية
وكانت هناك أيضًا النظرية العضوية، وهي من النظريات الحديثة، حيث ظهرت في القرن التاسع عشر، وهي لا تنتمي إلى مدارس القانون الطبيعي، لكن ترى أن قوانين الظواهر الطبيعية يمكن تطبيقها على الظواهر الاجتماعية مثل الدولة. فهي تشبه جسم الإنسان المكون من عدة أعضاء، يؤدي كل عضو منها وظيفة معينة وضرورية لبقاء الجسم ككل.
وينطبق الأمر ذاته على الأشخاص في الدولة، حيث تؤدي كل مجموعة منهم وظيفة معينة وضرورية لبقاء كل المجتمع الذي يعمل وينشط كجسم الإنسان، ولذا لابد من وجود مجموعة من الناس تحكم، ومجموعة من المحكومين تؤدي وظائف أخرى مختلفة، فالدولة وجدت إذن كظاهرة مثلها مثل الظواهر الطبيعية وهي ضرورية لبقاء المجتمع.
ولم يغفل علماء النفس تلك الفرصة، فأدلوا بدلوهم، وفسروا نشأة الدول على أسس نفسية، فالنظرية النفسية هي أيضًا نظرية حديثة، وترى أن الأفراد لم يُخلقوا متساوين، بل هناك فئتين وهما: فئة تحب السلطة والزعامة، ولها جميع المزايا التي تمكنها وتأهلها لذلك بطبيعتها، وفئة تميل إلى الخضوع والانصياع بطبيعتها أيضًا، ولذا فإن العوامل النفسية الطبيعية هي التي تتحكم في ذلك، ولهذه الأسباب نشأت الدولة، غير أن النظرية كانت تميل للعنصرية في الأساس، وقد وظفتها النازية للتمييز بين الأجناس، خاصة بين الآريين المؤهلين لحكم الأجناس الأخرى.
وأود أن آخذكم في هذا الجزء من المقال إلى نظريات جديدة تبرر نجاح وصول بعض الأشخاص للسلطة وإحكام سيطرتهم على الآخرين، نختم بها رحلتنا في أدغال نشأة الدوّل وتطوّرها.
تنشأ أول نظرية في هذا المقال من علم الاجتماع، وتُسمى نظرية (التغلُّب والقوة)، حيث تتخذ مبدأ من أعرق مبادئ البيولوجيا كركيزة أساسية لها، وهذا المبدأ هو مبدأ (البقاء للأقوى)، حيث إن القوى البشرية في صراعٍ دائمٍ، وهذا الصراع يُسفر دائمًا عن منتصر ومهزوم، والمنتصر يفرض إرادته على المهزوم، والمنتصر النهائي يفرض إرادته على الجميع، فيتولى بذلك الأمر والنهي في الجماعة، ويكون بمثابة السلطة الحاكمة، فتنشأ بذلك الدولة مكتملة الأركان، من حاكم ومحكوم.
وكل من الفقهاء فسَّر النظرية حسب واقعه المعيشي، فابن خلدون دافع عن فروضه الثلاثة الذي استخلصها من تفسيره الذي سماه العقلاني للتحول من الحكم بالشريعة إلى الحكم الاستبدادي المطلق.
أما النظرة الماركسية، فتنظر للتاريخ من الزاوية المادية، فالصراع عبر التاريخ كان على أساس طبقي، وبناءًا على هذا ظهرت ثلاث أنماط من الدول عبر التاريخ، في تقسيم سياسي اقتصادي، تخدم مصالح طبقات معينة وبذلك نصل إلى المجتمع المنشود.
أما مفهوم القوة عند أصحاب نظرية التضامن الاجتماعي لا تقتصر على القوة المادية؛ وإنما أشمل من ذلك، كقوة النفوذ الأدبي، والقوة الاقتصادية، والحنكة السياسية، وتوغل الأتباع في داخل المجتمع وقدرتهم على التأثير في طبقاته…إلخ
ولكن كل هذه النظريات منفردة لم تكن تؤدي غرضها المنشود، فنشأة الدوّل الحديثة أكثر تعقيدًا من أن تتولى نظرية منفرده تفسيره، ولذلك طفت نظرية جديدة على سطح علم السياسة، تُسمى (نظرية التطوّر التاريخي).
ويرى أنصار نظرية التطوّر التاريخي، أن الظواهر الاجتماعية ومن بينها الدولة لا يمكن رد نشأتها إلى عاملٍ واحد، فالدولة عندهم هي نتاج للتطور التاريخي وتأثيرات متعددة كان نتيجتها ظهور عدة دوّل تحت أشكال مختلفة ومتعددة تعبّر عن الظروف التي نشأت فيها، لذلك فإن السلطة في تلك الدول لا تستند في قيامها هي الأخرى على عامل واحد؛ بل على عدة عوامل منها القوة، والدهاء، والحكمة، والدين، والمال، والشعور بالمصالح المشتركة التي تربط أفراد الجماعة بعضهم ببعض، فالدولة إذن وفقًا لأنصار هذه النظرية هي ظاهرة اجتماعية نشأت بدافع تحقيق احتياجات الأفراد شأنها شأن الظواهر الأخرى، وبالتالي فإنّ هذه النظرية تعد رغم تشعبها أقرب النظريات إلى الصواب.
إعداد: أحمد عصام روّاي
مراجعة: Matalgah Hamzeh
تصميم:
المصادر:
1- مقدمة ابن خلدون
2- قصة الحضارة
3- نشأة الدين – فراس السواح
4- أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ – خزعل الماجدي
5- الأساس في العلوم السياسية – قحطان الحمداني
6- موسوعة علم السياسة – ناظم عبد الواحد الجاسور
7- قاموس ومعجم المعاني