تُعتبر جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية لهذا العام من أكثر جوائز نوبل تميزًا على الإطلاق، وذلك لعدة أسباب، ربّما أهمها الجدل الكبير الدائر منذ فترة حول آلية اختيار اللجنة الاقتصادية لأكاديمية نوبل للفائزين بجائزة نوبل للعلوم الاقتصادية، وكذلك عن عدم أحقية العديد ممن حصلوا عليها، بالإضافة إلى الأحداث العالمية التي عاصرت هذه الجوائز من حروب عالمية وتغيرات عظيمة في النظام الاقتصادي العالمي.
إلا أن السبب الرئيسي في كون هذه الجائزة استثنائية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى هو تعدد الإسهامات المهمة في عدة مجالات اقتصادية، لا يقل أيٌّ منها أهميةً عن الآخر، من أبرزها: اقتصاديات المناخ، والاقتصاد السلوكي، وإسهامات العديد من الاقتصاديين في نظريات التجارة الدولية، والاقتصاد الكلي.
ولكن بما أن الجائزة الآن أصبحت محسومةً وذهبت إلى إسهامات العلماء الثلاثة في العمل على المنهج التجريبي لمواجهة شبح الفقر العالمي، فدعونا نتناول التعريف إلى هؤلاء العلماء، وإسهاماتهم المهمة، وتأثير هذه الإسهامات على مستقبل العالم، وعلى ذلك، سنقسم مقالتنا إلى ثلاثة أجزاء، حيث ستتناول في الجزء الأول التعريف إلى هؤلاء العلماء وسيرتهم، وفي الجزء الثاني سنسلط الضوء على إسهاماتهم المهمة التي جعلت لهم الاستحقاق لأهم الجوائز العلمية على الإطلاق، وفي الجزء الثالث سنتحدث عن تأثير هذه الإسهامات في الحدِّ من شبح الفقر العالمي الذي يطيح يوميًّا بمئات الآلاف من البشر تحت خط الفقر.
مسيرة العلماء الثلاثة
أبهيجيت بانيرجي
العالم الأول لدينا هنا هو «أبهيجيت بانيرجي»، المولود في منطقة دهولي بالهند عام 1961، الذي يعمل أستاذًا للاقتصاد بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو كذلك أحد مؤسسي معمل عبداللطيف جميل للتطبيقات العملية لمحاربة الفقر عام 2003.
إستير دوفلو
العالمة الثانية لدينا هي «إستير دوفلو»، التي ولدت عام 1972 بالعاصمة الفرنسية باريس، مما يجعلها أصغر فائز بجائزة العلوم الاقتصادية، وهي كذلك زوجة العالم الأول أبيهجيت بانرجي، وشريكته في معظم أبحاثه التي تتناول سُبل مواجهة الفقر، كما أنها كانت من أحد مؤسسي معمل عبداللطيف جميل للتطبيقات العملية لمحاربة الفقر، وهي كذلك أستاذة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومن الجدير بالذكر أنها ثاني امرأة تحصل على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية بعد «ألينور أوستروم» التي حصلت على على نوبل عام 2009 لجهودها المنفصلة في توضيح أن الشركة وجمعيات المستخدمين لها فعالية أكبر من فعالية السوق.
مايكل كريمر
العالم الثالث والأخير هو دكتور «مايكل كريمر»، المولود عام 1964 بالولايات المتحدة الأمريكية، يعمل أستاذًا للاقتصاد بجامعة هارفارد، وزميل الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون، كما قد تم تعيينه كقائد عالمي شاب من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي. تتناول أبحاث كريمر الحديثة قضايا مجتمعية مثل التعليم والصحة والزراعة والمياه في البلدان النامية، ونتيجةً لذلك، حصل على جوائز عديدة لأعماله في اقتصاديات الصحة والاقتصاد الزراعي في أمريكا اللاتينية.
إسهامات العلماء
قالت الهيئة الأكاديمية إن الخبراء الثلاثة كوفئوا على إدخالِ مقاربةٍ جديدة للحصول على أجوبةٍ موثوقة حول أفضل الوسائل للحدِّ من شبح الفقر العالمي.
وهنا يلزم أن نوضح شيئًا مهمًّا للغاية، وهو أن مشكلة الفقر العالمي كانت تُتناول طوال العقود الماضية بشكلٍ كليٍّ مُجمل، حيث تتحدث كل برامج التنمية والمؤسسات التنموية العالمية عن حل مشكلة الفقر دون وضع أيِّ خططٍ عمليةٍ دقيقةٍ لذلك، كما كانت تمنح الكثير من المساعدات المادية دون وضع خططٍ عمليةٍ لتوظيف هذه المساعدات بشكلٍ مستدام، إلا أن العلماء الثلاثة الذين حصلوا على جائزة نوبل اليوم قد وضعوا سياساتٍ دقيقةٍ للغاية لتناول مشكلة الفقر العالمية من خلال العمل على المنهج التجريبي المستخدم لذلك.
حيث أثبت الاقتصادي مايكل كريمر في منتصف تسعينيات القرن الماضي إلى أيِّ حدٍّ يمكن أن تكون هذه المقاربة قويةً عبر استخدام تجارب ميدانية من أجل اختيار مختلف المبادرات التي من شأنها تحسين نتائج مواجهة الفقر على الأرض.
بعدها، أكمل وأبهيجيت بانيرجي وإيستر دوفلو دراساتٍ مماثلة حول مسائلَ أخرى في عدة دول مختلفة، إلى أن أصبحت طريقتهم الجديدة للأبحاث التجريبية تهيمن على الاقتصاد التنموي في كل الساحات البحثية في العالمية.
نتيجةً لجهود دوفلو الكبيرة والمُثمرة في مواجهة مشكلة الفقر وسبل التنمية، قَرَّرَ البيتُ الأبيض اختيار دوفلو لتكون مستشارة الرئيس أوباما بشأن مشاكل التنمية عبر انضمامها إلى اللجنة الجديدة من أجل التنمية العالمية.
يمكن تلخيص إسهامات العلماء الثلاثة بأن أصبح الأسلوب الأساسي المستخدم في مواجهة مشكلة الفقر من خلال المنهج التجريبي هو تقسيم المشكلات الكبيرة إلى تساؤلات أصغر قابلة للدراسة والإدارة بصورة أفضل وبنتائج أدق مثل التدخلات الأكثر فاعلية لتحسين صحة الأطفال أو زيادة معدلاتهم الدراسية.
ومن أبرز النتائج المباشرة لهذه الأبحاث والإسهامات، هي استفادة أكثر من خمسة ملايين طفلٍ هنديٍّ من الدروس العلاجية في المدارس، في حين قدَّمت العديد من الدول إعاناتٍ كثيفة للرعاية الصحية الوقائية.
التأثير المُرتقب لهذه الإسهامات على المُستقبل القريب
ربما من أكبر التمنيات التي تسود منظمات الإعانة والمؤسسات التنموية والمراكز البحثية الاقتصادية في العالم هي أن تساعد هذه الإسهامات في مواجهة مشكلة الفقر التي تفشَّت في كل دول العالم الثالث بالتحديد، وما يرتبط بها من ارتفاع معدلات الجهل والجريمة والتطرف وتهديد المجتمع الدولي، حيث سيزيد المنهج التجريبي المقترح من قوة مواجهة مشكلة الفقر من خلال اختيار أفضل الوسائل والمبادرات الميدانية لتقديم المساعدات اللازمة بشكلٍ مستدام.
كما سنتناول في المقالات المقبلة المجهودات السابقة في حل مشكلة الفقر في العقود السابقة وتسليط الضوء على منهجية هذه المحاولات ونتائجها لفهم مشكلة الفقر ونتيجة الإسهامات الجديدة عليها.
المصادر:
إعداد: محمد عبد الناصر