عن الكاتب وبداية معاناته:
(جان دومينيك بوبي -Jean-Dominique Bauby) هو صحفي وكاتب فرنسي مشهور، ومحرِّر مجلة أزياء «ELLE» الفرنسية.[1] حتى السابع من ديسمبر 2015 كان بوبي يمارس حياته الروتينية المعتادة ككاتب ومحرر؛ إلى أن أتى اليوم التالي ليقلب حياته رأسًا على عقب.
8 ديسمبر/كانون الأول 1995 اليوم الذي قلبَ موازين حياة جان دومينيك بوبي رأسًا على عقب. بدأت الحادثة باصطحاب بوبي لابنه (ثيوفيل) للعشاء، ومشاهدة عرض جديد للكاتب المسرحي (ألفريدو آرياس -Alfredo Arias). ولكن فجأةً في أثناء نزهتهما، تنحرف السيارة على الجبال وتنزلق لتثير الفزع والخوف لدى الطفل، وتودي بحياة والده ليصبح ضحية لـ”متلازمة المنحبس”. [2]
في هذه المتلازمة يكون المريض -برغم وعيه التَّام- مشلولًا من كل عضلات جسمه، من الفم واليد والأرجل عدا عضلات العين، وبذلك يكون غير قادرًا على التواصل الشفهي مع الآخرين[3]، ولدى بوبي نتجت هذه الحالة عن سكتة دماغية إثر الحادث الذي تعرض له.
حبيس الجسد، طليق الروح:
بالرغم من تلك المأساة التي تعرض لها بوبي، لم يمنعه جسده المقيَّد من إطلاق أفكاره، وقد قرر أن يتعايش مع تلك الهزيمة الساحقة ويحولها إلى أعظم انتصاراته وذلك باستخدام سلاحه الأقوى، ألا وهو الكتابة. وبالفعل، من رحم تلك المُعاناة ترك لنا بوبي روايته الفرنسية “بذلة الغوص والفراشة – Le scaphandre et le papillon”، والتي سرد فيها ما عاناه من ألم وحزن، والتي لا تخلو أيضًا من الوعظ والإرشاد عن الحياة وماهيَّتها. ويعود سبب تسميتها بذلك الاسم هو أن بوبي رأى نفسه أسير جسده والذي شبهه ببذلة غوص تقيده، إلَّا أنَّ ذهنه كان ما يزال مثل فراشة بكامل حريتها تحلِّق في الآفاق.
ولكن ربما يدور في ذهنك كيف استطاع الكتابة وهو مقيَّد جسديَّاً، لكنه تمكَّن من خلال تلك الطريقة المبتكرة أن ينقل الرسالة التي أراد أن يرسلها إلى قارئه، بل وإلى كل البشرية.
هزيمة المرض بمساعدة ملاكه الحارس:
كُتبت صفحات روايته بمساعدة (كلود مانديبل -Claude Mendibil)، أو ملاكه الحارس -كما أسماها في كتابه-، وهي أخصائية النطق التي ساعدت بوبي أن يُفضي بكل ما يدور في ذهنه. كان رمش عينه اليسرى هو حلقة الوصل بينه وبين الناشر، فقد كانت تُنثر عليه الأبجدية وفق نظام (ESA) والذي تُرتب فيه الأحرف الأبجدية الفرنسية حسب الأكثر استخدامًا إلى أن يستوقف بوبي مُحدِّثه برمشة عين واحدة للحرف المتوجب عليه تسجيله ليتم تكرار ذلك الأمر حتى تكتمل حروف الكلمة المراد كتابتها، ومن ثم يُعيد تلك الطريقة عليه ليسجل الكلمة التالية وهكذا حتى تكوين الجملة كاملة.[4]
لاشك أن هذه الطريقة كانت تتطلب وقتًا ومجهودًا عظيمًا؛ إذ كان على بوبي أن يؤلف الصفحات داخل رأسه كي يكون جاهزًا ليمليه عندما يأتي الناشر.[5] وبتلك الطريقة تواصل بوبي مع العالم المحيط، واستطاع أن ينقل للعالم بأسره صورة المقاتل الشجاع والعنيد الذي يأبى أن يستسلم في وجه المرض.
جان دومينيك بوبي وملاكه الحارس كلود مانديبل
بعض من اقتباسات الكتاب:
“هل كنتُ أعمىً وأصمًا؟ أم نور المأساة كان ضروريًّا لينير لرجل نهاره الحقيقي؟”
“بعيدًا عن هذة الجلبة، وفي الصمت الذي استعدت يمكنني الاستماع لفراشات طائرة عبر رأسي. يتطلب الأمر الكثير من الانتباه والتأمل، لأن خفقات أجنحتها تكاد لا تُدرك. يكفي تنفُّسٌ قويٌّ ليغطيها، وإنَّه لأمرٌ مذهلٌ أنه برغم عدم تحسن سمعي؛ إلَّا أنِّي أسمعها أفضل فأفضل، لا بدَّ أن لدي أذن فَراشٍ.”
“أصبحت بذلة الغوص أقّل ضيقًا، ويمكن للروح أن تتسكع مثل فراشة.”
“بقدر الحاجة للتنفس، أنا أحتاج أن أتأثر، أن أحبَّ وأُعجَبَ، برسالة صديق، بلوحة لبالتوس على بطاقة بريدية، بصفحة لـِ سان سيمون تعطي معنى للساعات وهي تمضي. لكن حتى أبقى مستنفرًا ولا أغرق في إذعان سمج، أحافظ على جرعة من التبرُّم. كصمَّام أمان في طنجرة ضغط، يحول دون انفجارها.”
كتاب بذلة الغوص والفراشة لـ جان دومينيك بوبي
وفاة الكاتب، وتخليد ذكراه:
من المؤسف أن جان دومينيك بوبي توفي في 9 مارس/ آذار 1997 –عن عمر يناهز 44 عامًا-، وذلك بعد ثلاثة أيام فقط من صدور كتابه، تاركًا لنا نموذجًا حيًّا عن معنى الإرادة والمقاومة وعدم الانغماس في مستنقع اليأس. دعا بوبي في مذكراته إلى ضرورة كسر القيود وتحرير الروح والأفكار، وبذلك أنهى مهمته على أكمل وجه. في سنة 2007 قام (جوليان شنابل – Julian Schnabel) بإخراج فيلم “بذلة الغوص والفراشة -The Diving Bell and the Butterfly” المقتبس من الكتاب والذي يحمل نفس الاسم. وقام بدور بوبي الممثل (ماثيو أمالريك -Mathieu Amalric). وحاز الفيلم على العديد من الجوائز والترشيحات، من ضمنها جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان، وجائزة السعفة الذهبية لأفضل فيلم بلغة أجنبية، وأفضل مخرج، وترشح لأربعة جوائز أخرى ايضًا.