البلاغة وأثرها على اللغة العربية
هذا المقال يناقش علم البلاغة وكيفية استخدامها في الأعمال الأدبية من قِبل الأدباء ويعكس ذلك جمال اللغةِ العربية وتفردها وقبل أن نتطرق إلى مناقشة جمال اللغة العربية في مجموعةٍ من القصائد المختارة للشاعر محمود درويش. ويجب أن نعرف ما هي البلاغة وأثرها على اللغة وتراكيبها. فكما يوضح لنا الخطيب القزويني في «كتابه الإيضاح في علوم البلاغة» فيقول:
«إن البلاغة هي مرتقى علوم اللغة وأشرفها، فالمرتبة الدنيا من الكلام هى التي تبدأ بألفاظٍ تدل على معانيها المحددة، ثم تتدرج حتى تصل إلى الكلمة الفصيحة والعبارة البليغة. وقد قيل: إذا تكلم المرء بلغة ما فهو يحدد هويته الحضارية والإنسانية وإذا امتلك لغته، حدد مركزه في المجتمع، فاللغة وإن كانت وسيلة للتعبير عن الفكر، فهي تمثل الفكر كلّه».
ويناقش أيضًا في كتابه أن اللغة ليست هدفًا نسعى إليه بل هي وسيلةٌ لنقل الأفكار والمعلومات بين البشر ووسيلة للتواصل الاجتماعي وأن من له قدرة على التأثير في الناس هو ذلك الذي يملك مهارة الكلام ويرى أن هذا يعتمد كليًا على البلاغة.
«فالبلاغة علم له قواعد، وفنٌ له أصوله وأدواته، كما لكل علمٍ وفن. وهو ينقسم إلى ثلاثةٍ أركان أساسية: علم المعاني، وعلم البيان وعلم البديع» [1].
يبدأ القزويني بتعريف علم المعاني ويقول أنه «علم يُعرف بأحوال اللفظ العربيّ التي بها يطابق مقتضى الحال، مع وفائه بغرضٍ بلاغيٍّ يُفهم ضمنًا من السياق أو هو علمٌ يبحث في الجملة بحيث تأتي معبرةً عن المعنى المقصود».
ويوضح القزويني لاحقًا أن علم المعاني يتألف من عدة مباحثٍ ألا وهي الخبر والإنشاء والإيجاز والإطناب وهكذا فيقول:
«لفظ الكلام البليغ إما مساوٍ لأصل المراد وهو المساواة، وإما ناقص عن المراد وهو الإيجاز أو زائد عن الأصل المراد وهو الإطناب».
ويبدأ بشرح علم البيان الذي يتألف من عدة مباحث: التشبيه والاستعارة والكناية وأيضًا علم البديع وأساليبُه هي الجِناس و الطِباق والتوريه وهكذا.
«الإيجاز هو أداء المقصود من الكلام بأقل من عباراتِ متعارفِ الأوساط [أي المعروف لدى جماعة من الناس] والإطناب هو أداؤه بأكثر من عبارته سواء كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل أو إلى غير الجمل.» [1]
البلاغة في شعر محمود درويش
اهتم الشاعر محمود درويش باللغة العربية وخلق منها سياقاتٍ جديدةً لم يعتد عليها القارئ باعتماده على البلاغة، وباستغلال الأساليب الحديثة التي أضافها محمود درويش إلى الشعر من استعاراتٍ وكناياتٍ ومجازاتٍ حتى يبنِي قصيدته وذلك باستغلاله للّغة العربية على طريقته الخاصة. فالشاعر يستخدم لغته ولكن يصنع لغته الخاصة باستخدامه للبلاغة بطرقٍ مختلفة تميّزه -كشاعر- عن الآخرين. ويتميز شعر درويش بأنه شعرُ مقاومةٍ نظرًا لأنه فلسطينيّ، فيعكس مشاعره عن الاحتلال و العودة إلى الوطن من خلال شعره. ومن أهم ما اعتمد عليه في رسم الصور في قصائده هو البحر لأنه ما يربطه بفلسطين. والطبيعة لدى درويش ليست بالشيءِ المنفصل عن وجوده ولكنها بالأحرى ما يربط درويش بوطنه المحتلّ وإن كان بعيدًا.
يقول محمود درويش في قصيدة الخروج عن ساحل المتوسط «أنا قشّرتُ موج البحرِ زنبقةً لعزةٍ» (4)، يستخدم درويش هنا هذه الصورةَ المركّبة التي تحتوي على استعارةٍ مكنية وتشبيهٍ بليغ لكي يعكس المعنى المجازيّ لصورة البحر فقد كان البحر يرمز إلى فلسطين التي تستقبل أبنائها، أما هنا فبات البحر شيئًا يقود نحو المجهول ولم يصبح جزءًا جغرافيًا من البلد ولكن تحول إلى مؤرخٍ يشهد أحداثًا ووقائعَ وفواجعَ كانت تحدث لفلسطين. ويقول درويش في قصيدة «تأملاتٌ سريعة في مدينةٍ قديمة وجميلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط»:
…. وسلامًا أيها البحرُ المريض
أيها البحر الذي أَبْحَرَ من صور إلى إسبانيا
فوق السُفُن
أيها البحر الذي يسقط مِنَّا كالمُدُن!
ألفُ شُبَّاك على تابوتك الكحليِّ مفتوحٌ
ولا أبصر فيها شاعرًا تسندُهُ الفكرةُ،
أو ترفعُهُ المرأةُ….
يا بحر البدايات، إلى أين تعود
أيها البحر المحاصر
بين إسبانيا وصور
ها هي الأرض تدور
فلماذا لا تعود الآن من حيثُ أتيت؟
آه ،مَنْ يُنْقِذُ هذا البحر
دَقَّتْ ساعة البحر
تراخى البحر
يعتمد درويش في هذه الصورة على تكرار كلمة البحر التي تنتشر بين سطورِ القصيدة لتدل على الشعب الفلسطيني (أيها البحر المحاصر) و مرة أخرى على الرحيل (دقت ساعة البحر) وكأن هذا هو مصير الشعب الفلسطيني أن يرحل عن بلده ووصف درويشُ البحرَ بالإنسان المريض، وأنه ينهار كالمدن فاعتمد درويش على التشبيه وجاء بالبحر في سياق الحصار الذي يؤدي إلى الموت (أيها البحر المحاصر بين إسبانيا وصور) ويصفه أيضًا بأنه بحر البدايات، تتشابك التشبيهات هنا التي يعتمد عليها درويش لكي يصف فلسطين ومعاناة شعبه من خلال البحر حيثُ يمجّده مرةً و ينتقده مرةً وفي نهاية الأمر يصفه محمود درويش بالضعف والخذلان (تراخى البحر) وأنه صار علامة الموت ويقول درويش في قصيدة «يكتب الراوي: يموت»:
ليس لي وجه على هذا الزجاج
الشظايا جسدي
وخريفي نائمٌ على البحر
والبحرٌ زواج
يتفاعل هنا عنصري التشبيه البحر والخريف في هذه الاستعارة حيثُ إن الخريف يُعرف أنه رمزٌ للمساء والشيخوخة وهو هنا رمز الانتهاء من دورة الحياة، وهو ما نجده في الاستعارة المكنية (خريفي نائم) المعطوفةِ على التشبيه البليغ (الشظايا جسدي) وبعدها تشبيهٌ بليغ آخر (البحر زواج) ليوحي باستمرار دورة الحياة. وعلى عكس المتوقع درويش يستخدم اللغة العربية وبلاغتها ليصنع منها لغته الخاصة، فيعكس عظمته كشاعرٍ وعظمةَ لغته العربية أيضًا في وصف حياة الشعب الفلسطينيّ المشروط بالتضحية، فهو يصف جسد الفلسطيني بـ«الشظايا» وأن هذا هو المصير المحتّم على الفلسطيني. واعتمد درويش أيضًا في بعض قصائده على تصوير الفراشة بشكل غير مسبوقٍ من قِبل الشعراء، «فالفراشة نوع من الحشرات يقترن اسمها دائمًا بالجمال والرقة والتخبّط وكانت أيضًا رمزًا للخلود عند أفلاطون» [4]. وقد استثمر درويش رمزيتها في شعره فيقول في قصيدة «مقعدٌ في قطار»:
كلُ أهل القطار يعودون للأهل، لكنا لا نعود
إلى أيّ بيتٍ، نُسافر بحثًا عن الصفر،
كي نستعيد صواب الفراش.
يعكس درويش هنا حياة المواطن الفلسطيني وسفره الدائم بلا عودةٍ إلى وطنه والصِفر هنا يوحي بمدى تأثير هذا السفر الذي هو بلا هدف أو جهةٍ معينةٍ على المسافر ويستخدم هنا الاستعارة المزدوجة (نسافر بحثًا عن الصِفر كي نستعيد صواب الفراش) جمع بين استعارتين ليصف أثر فقدان الهوية التي يحاول أن يتجاوزها الشاعر من خلال بحثه عن الصفر وهي البداية والأصل وبهذا سوف يبحث عن هويته الضائعة. وأستخدم درويش في قصيده أخرى رمز الفراشة ليصور بها الأرض (فلسطين) فيقول في قصيدة «أعراس»:
غنائي خَناجرُ ورد
وصمتي طفولةٌ رعد
وزنبقة من دماءِ فؤادي
يبدأ النص بالغناء ورغم أن الغناء مقترن بالسعادة إلا أنه اقترن هنا بالخناجر وهذا وصفٌ غير عاديّ بالنسبة للغناء وأيضًا اقتران الخناجر بالورد التي من المفترض أنها أداةٌ للقتل وسفك الدماء، والورد يوحي بالجمال والحياة. فيرى الشاعر هنا أن الغناء هو وسيلته للدفاع عن نفسه.
وعلى سقف الزغاريد تجئ الطائرات
طائرات
طائرات
تختطف العاشق من حضن الفراشة، ومناديل الحِداد
فهنا الاستعارة المكنية حضن الفراشة يشير إلى فلسطين التي يتركها الإنسان مُجبرًا بفعل قوات الاحتلال ويضيف للمعنى من خلال التكرار في (طائرات، طائرات) وهنا الجملةُ كاملةً مجازٌ مرسل دالٌّ على المرأه (تخطف العاشق من حضن الفراشة، ومناديل الحداد) وجعل لها معنًى رمزيّ وهو الأرض ويذكر هنا مناديل الحداد ليعكس كيف يكون مستقبل الفلسطينيّ هو الموت والاستشهاد في سبيل الأرض.
وفي قصيدة «البئر» يستخدم درويش عدة صور منها القمر ليصف أرض فلسطين:
أَختارُ يوماً غائماً لأَمُرَّ بالبئر القديمة
رُبّما امتلأتْ سماءً، رُبَّما فاضَتْ عن المعنى وَعَنْ أُمْثُولةِ الراعي، سأشربُ حفنةً من مائها
وأَقولُ للموتى حوالَيْها: سلاماً، أَيُّها البَاقونَ حول البئر في ماء الفراشةِ!
أَرفَعُ الطَيُّونَ عن حَجَرٍ: سلامًا أيها الحَجَرُ الصغيرُ! لعلَّنا
كُنَّا جناحَيْ طائرٍ ما زال يوجعُنا
سلامًا أَيها القَمَرُ المُحَلِّقُ حَوْلَ صُورَتِهِ التي لن يلتقي أَبداً بها
يرمز درويش هنا بالبئر القديم لأرض فلسطين باعتباره جزءًا من الأرض ولكنه يستخدم البئر كنايةً عن الأرض فهنا يستخدم الاستعارة (وأقول للموتى حواليها: سلامًا، أيها الباقون حول البئر في ماء الفراشة) فالماء هنا يوحي بالحياة والفراشة بالحرية وهنا تمسك بالهوية الفلسطينيّة التي تتبع الشاعر أينما كان. ويشبه أيضًا الشاعر نفسه والحَجَر بجناحي طائر واقتران الشاعر بالحجر والتعامل معه كأنه شيءٌ ذو ذاكرةٍ وماضٍ وتاريخٍ ومن خلاله يستعيد الشاعر تاريخه وذكرياته في فلسطين. وهناك صورةٌ استعارية أخرى (سلامًا أيها القمر المحلّق حول صورته التي لن يلتقي أبدا بها) يشبّه القمر بطائرٍ يحلق حول صورته المنطبعة على الماء والقمر هنا صورة أخرى للأرض البعيدة بُعد السماء عن الأرض وهي فلسطين بالنسبة للشاعر.
الأساطير في شعر محمود درويش
ويستلهم أيضًا محمود درويش صوَره الشعرية من خلال الأساطير، ففي «الجدارية» يعتمد على أسطورة طائر الفينيق الذي يحترق كل ليلةٍ ويعود يُبعث من الرماد مرةً أخرى ويستمد درويش من هذه الأسطورة فكرة التجدّد وخلق الوجود من العدم وخلق الشيء من اللاشيء فيقول:
سأصير يوما طائرًا
وأَسُلُّ من عدمي وجودي
كلما احترق الجناحان اقتربت من الحقيقة، وانبعثتُ من الرماد
«والرمز ذو تقنيةٍ مزدوجةٍ من حيثُ التلميح والاستمرارية والإيحاء، فعبْر الإيحاء يخلُق الرمز كونًا شعريًا يتميز بفاعليّة صوره، ذلك ما نسميه بالنصِ المفتوح، أو الإشارةٍ الحرة، يصبح الشعر هنا حركةَ خلقِ العالم وليس للتعبير عنه» [2]. وهذا ما حققه درويش من استخدامه الخاصّ للغته العربية وخلقه لعالمه الخاصّ برؤيته الخاصّة. واستطاع درويش أن يخلق جمالية لغة الإبداع من الأعمال اليومية البسيطة من خلال المعادلة بين الحقيقة والمجاز فيقول أيضًا في «الجدارية»:
ﺭﺃﻳﺖ ﺑﻼﺩًﺍ ﺗﻌﺎﻧﻘﻨﻲ ﺑﺄﻳﺪٍ ﺻﺒﺎﺣﻴﺔ
ﻛﻦْ ﺟﺪﻳﺮًﺍ ﺑﺮﺍﺋﺤﺔ ﺍﻟﺨﺒﺰ، ﻛﻦْ ﻻﺋﻘًﺎ ﺑﺰﻫﻮﺭ ﺍﻟﺮﺻﻴﻒ
ﻓﻤﺎ ﺯﺍﻝ ﺗﻨُﻮﺭُ ﺃﻣﻚ ﻣﺸﺘﻌﻼً
ﻭﺍﻟﺘﺤﻴﺔ ﺳﺎﺧﻨﺔٌ ﻛﺎﻟﺮﻏﻴﻒ
فيحاول محمود درويش هنا بناء لغة مدهشة وإيجاد علاقةٍ غير مسبوقةٍ تحمل المشاعر للماضي والوطنِ الذي ينهض بأبناءه للعمل صباحًا والوحدةِ بين أفراد الأمة وأيضًا رائحة الخبز تعكس ارتباطه بالبيت والأم والحنين الأول إلى وطنه.
ولم تعكس قصائد درويش جمال اللغة العربية وبلاغتها فقط، وإنما عكست كيف بإمكان الشعراء إظهار موهبتهم في استخدام البلاغة وإضافة جمالٍ له أبعادٌ أخرى على جمال اللغة العربية الأصليّ.