اكسبت الأديبة العمانية جوخة الحارثي وضعًا أدبيًا مميزًا، إذ وضعتها على منصّة التتويج العالميّ حين أصبحت أول عربيّ يفوز بجائزة المان بوكر (International Man Booker) العالميّة عن روايتها «سيدات القمر» التي تُرجِمت بالإنجليزية تحت عنوان (celestial bodies) في عام 2019. وقد لا يعرف القارئ العاديّ الكثير عن الأدب العُمانيّ أو الثقافة العُمانية وهو ما نجحت الروائية والكاتبة د.جوخة الحارثي في نقله لقرّاء العالم العربيّ أولًا، ثم القراء في العالم كله ثانيًا. وجوخة الحارثيّ كاتبة وأكاديمية ولدت في عام 1978 وحصلت على ماجستير اللغة العربية ثم الدكتوراه في الأدب العربي بجامعة أدنبرة بأسكتلندا، وتعمل حاليًا أستاذة للأدب العربي في جامعة السلطان قابوس بسلطنة عُمان. وكتبت د.جوخة الحارثي روايتها الأشهر سيدات القمر في عام 2010 ولكنها لم تُتَرْجَم إلى الإنجليزيّة إلا في عام 2019.
طفولة جوخة الحارثي.. البئر الأولى
شبت خوجة الحارثي في عائلة تتنفس الكلمات والأدب العربي، إذ وجدت نفسها محاطة باللغة منذ الصغر وكان أول ما وقعَت عليه عينيها في الحياة هي المكتبة. هكذا قضت طفولتها بين أحضان الكتب، والأشعار، والقصص العربية الأصليّة، فأمها كانت تتغنى بأشعار المتنبي، وعمر بن أبي ربيعة، ونزار قباني، وجدها يردد أبيّات المتنبيّ للتعبير عن حاله وفي الرد عن الأسئلة المختلفة، إذ كان خالها وجدها شاعرين معروفين على الساحة العمانية. وكان القدر حليفًا لها فإلى جانب كل ذلك كان أخوها الأكبر يطلعها وهي صغيرة السن على الأعمال الكاملة لعدد من الكتاب الكبار مثل طه حسين، وتشكلت بهذا جوخة الحارثيّ وتربت على كتب كلاسيكية وتراثية منذ سنٍ مبكرٍ للغاية.
وفي طفولتها كانت جوخة «طفلة محظوظة» كما تصف نفسها، إذ أُتيح لها أن تستمع لكثير من حكايات النساء والرجال في وطنها وتتعرف على التاريخ الجمعي لأهل بلدها وخَبُرت الكثير من نوعيات النساء المختلفات اللواتي مررنّ عليها، وهو ما ساعدها فيما بعد حين بدأت في كتابة الروايات والقصص.
وآمنت جوخة الطفلة بالقوة السحريّة، فحاولت في صغَرِها أن تقنع صديقتها بأن هناك حديقة سرية تحت منزلها وأخبرتها بأن تلك الحديقة مليئة بالمباهج السريَّة واقتنعت بأن صديقتها الخيالية قد تكون واقعية. ومن سحر الطفولة تحوّلت جوخة فيما بعد لتكتشف سحر اللغة هذا السحر الذي تقول عنه «السحر الوحيد الذي آمنتُ به» ففي اللغة كانت تجد الملاذ بعد التيّه، وتعيد خلق بيئتها ومجتمعها العمانيّ الذي يمتاز بتعدده الجغرافيّد والديموغرافيّ، والعرقيّ، وأيضًا اللغويّ حيثُ أثرى الحياة الثقافية والاهتمامات الخاصة بها وأغنى دورها الروائيّ.
الكتابة.. تخليد ما يبتلعه العدم
ارتأت جوخة بروحها المُرهفة وملاحظتها العميقة المجتمع يتغير من حولها، المباني، والأشخاص، والأرض وأصحابها، والبيوت، والبيئة، وحاولت أن تنقل هذا التحوّل على الصفحات بقلمها، لا كمؤرخة أو تاريخية تسرد الوقائع ولكن كأديبة وكاتبة ترسم صورًا للتحوّل ولشخوص الجيل القديم والحديث. وسعت جوخة الحارثيّ للقبض على ما يتلاشى حولها شيئًا فشيئًا قبل ذهابه بعيدًا عن طريق الكتابة أو كما تذكر على لسانها «فهل ظنت الطفلة أن الكتابة ستخلد ما يبتلعه العدم؟». وبهذا ركزَّت جوخة الحارثي على كتابة الزمن والوقت المُتلاشي في محاولة للقبض على الماضيّ وأحداثِه وشخوصِه واستبقاء الراحلين وإعادة المكان الذي دمره الزمن وجرفته السنوات وحَرَّفته عجلة التطور شاء أم أبى الإنسان.
وترتكز جوخة الحارثيّ في رواياتها على «عُمَانيّة المشهد»، إذ ترى أن المحليّة هي التي تُميّز وتمنح الخصوصيّة للكاتب وتميز صوت الروائيّ عن غيره. حيثُ تنطلق من المحليّ، وهو شيء حميميّ وخاص، فحين شعرت بأن العالم حولها يتهاوى أردات أن «أقبض على هذا العالم المسيس الصلة بيّ.»
وكانت الروايّةُ مأوى جوخة الحارثي للعودة إلى رحم اللغة العربية حين كانت تكتب أطروحة الدكتوراة بالإنجليزيّة في أسكتلندا البلد البعيد عن الوطن. فصارت اللغة مرفأ الأمن الذي اتجهت إليه كيّ تعود لهويتها وبلدها التي افتقدتها في الخارج. ولهذا راحتْ تكتب روايتها سيدات القمر وهي متعطشة لعمان ولغتها العربيّة التي تشربتها منذ طفولتها وعشقتها. واحتمت في الغربة والبرد باللغة العربية والكتابة بها، واجترّت اللغة ودفء بلدها عن طريق الكتابة والحكيّ.
وعلى خِلاف كثير من الكُتاب الآخرين الذين يهتمون بوجود كتاب أو رواية جديدة لهم كل عام على الأقل، فجوخة لا تلتفت لهذه السباقات. فهي تكتبُ في تريث وهدوء رواياتها ولا تكترث لإن تصدر عملًا جديدًا كل فترة قريبة، بل تبحث عن كتابة ما يرضيها. فعلى سبيل المثال استغرقت في كتابة روايتها سيدات القمر نحو خمس سنوات، وقضت ثلاث سنوات في روايتها التي تلتها «نارنجة» حتى صدرت في 2016.
وفي عينيّ جوخة الحارثيّ فالأدب الجيد هو ما يُعلِّم القُرَّاء، ليس بالضرورة بشكل مباشر ولا يُقدِم وعظًا، ولكنه يعلمنا كبشرٍ عن أنفسنا وعلاقتنا المعقدة ونظرتنا المُركَّبة عن الحياة والقيم وغيرها، ولهذا يجب أن يكون الأدب صادقًا مع وجود الخيال، فعلى حد قولِها «الأدب عالم خيالي ولكنه يتسم بالصدق أيضًا.»
ولا تُحَاول جوخة أن تجيب على الأسْئِلة التي تمُررها في رواياتها إلى القراء، بل تتوجه في كتاباتها إلى القارئ الذي يفكر في ملئ الفراغات لتُشْرِكه وتجعل له دور في الرواية أو كما يجيء على لسانها «يركب فيها قطع البازل والأحداث التي لم تقل ويبحث عن إشارات.»
فكيف إذًا تُنهي جوخة الحارثي رواياتها؟
تقول جوخة:
أنا لا أُنْهِي الرواية ولكني أتخلى عنها، فبالنسبة لي أظل أفكر فيها وتظل مفتوحة على الاحتمالات.
سيدات الأقمار، نافذة على عمان الماضي والحاضر
ميا التي استغرقت في ماكينة خياطتها السوداء ماركة الفراشة، استغرقت في العشق.
افتتاحية رواية سيدات القمر.
تحكي رواية سيدات القمر عن عدّة أجيال لأفراد تجمعهم بيئة جغرافية واحدة وهي قرية العوافي الصغيرة القريبة من مسقط، التي تصفها الكاتبة في جلسة حوارية لها بأنه قد يصعب إيجادها على الخريطة، في سنوات يمر فيها المجتمع العمانيّ بتحوّلات قويّة على مستويات كثيرة. وتُرِكز الرواية في جانبها الأكبر على ثلاث شقيقات هنّ ميا، وأسماء، وخولة، ومسار حياتهنّ إلى جانب عدد من الشخصيات الأخرى لسكان القرية وأهلها الذين تتفاوت في تفصيل حكاياتهم خلال الرواية.
وتُسرَد الرواية بصوتين؛ الصوت الأول هو الرواي العليم وراوٍ آخر هو أحد شخصيات العمل «عبدالله» ويُنتقَل بينهما في فصول الرواية المختلفة.
حين ستكبر طفلتها ويأتي سالم ومحمد أيضًا ستكتشف شيئًا آخر النوم..النوم. ستنام وتنام ولا شيء سيؤذيها في النوم ستكتشف أن النوم معجزة أكثر من الصمت حيث لا تسمع كلام الآخرين. لن تقول ولن يُقال لها شيء.
ولا تلتزم الكاتبة في الرواية بتسلسل زمنيّ مُحدد ومُرتب لفصول الرواية، إذ تتنقل الفصول بين مددٍ زمنية وفترات مختلفة تأخذنا بين الماضي والحاضر وتقفز بنا بين الأجيال القديمة، والحديثة، والأكثر حداثة لشخصيات الرواية. وترصد الرواية التحولات الزمنية التي فُرِضت على أهل القرية، إذْ تتشابك فيها حياة أهل القرية ومن خلال الأحداث والسرد نتعرف فيها على صنوف كثيرة من المجتمع العُمانيّ وطبائعهم البشريّة المتباينة. وفي حين تركز الرواية على سرديّة النساء وصوتهن، فهي لا تغفل الرجال أيضًا، إذ توجد في الرواية الكثير من الشخصيات الرجاليّة بداية من الأب عزان وحتى التاجر سليمان والابن عبدالله وغيرهم.
كله منك يا حبيب، كله منك، ومن كلامك الذي كنت تردده أمام سنجر وهو ما يزال في قماطه.
ضحكتم الوحشية في قلب الليل ما زالت تشرخ فؤادي: بلادك وبلاد جدودك؟ أي جدود يا ظريفة؟ جدودك ليسوا من هنا، جدودك سود مثلك، من إفريقيا، من البلد التي سرقوكم منها وباعوكم…
لكن حبيبًا يا ظريفة كان يبصق في وجهك حين تقولين له هذا الكلام، لا يريد أن ينسى الرحلة المرعبة التي أنهت حياته اللاهية الوادعة في مكران حيث كان الصبي الثاني لأمه ذات الخمسة صبيان.
وكان للعبودية نصيبها في رواية البوكر العالميّ، ففي الرواية تظهر شخصيات مثل «ظريفة» العبدة القويّة رغم ظروفها واسترقاقها، وزوجها «حبيب» الناقم على وضعه والطامح للحريّة، وابنهما «سنجر». وتصف الرواية أحوال العبيد في عُمان، والتي كانت من أواخر الدول التي حظرت العبوديّة رسميًا في عام 1970، ومحنة الحرية والتطلع إليها. كما تطلعنا الكاتبة على التغييرات الاجتماعية المختلفة التي طرأت على المكان منعكسة على الشخصيات وتصرفاتها واختياراتها.
ويشير بعض النقاد إلى ظهور الشخصيات النسائيّة بمظهر الشخصية القويّة وهي الشخصيات الأكثر تحكمًا في مصائرها، والقادرة على اتخاذ القرار كما تتحلى الشخصيات النسائية، في غالبيتها، بذكائها وتحديدها لهدفها ومعنى الحياة لديها. على جانبٍ آخر فإن الرجال في العمل كانوا باهتين بعضهم مشتت أو حائر أو يتسم بالسلطوية الشديدة كما في شخصية التاجر سليمان.
ويذكر الناقد الفلسطيني والكاتب د.خالد الحروب في مراجعته عن الرواية إن التحرر هي السِمة الرئيسيّة التي تجمع أبطال العمل في رواية «سيدات الأقمار»، وأن الرواية تسجل تحولات العمانيين نحو المجتمع الحديث، ويقول إن الرواية تبرز حكايا الناس العاديين وهم ينتقلون من عوالم سريعة التحول عكس زمنهم البطيء، ويشمل السرد تلاحق ثلاثة أجيال بهدوء مع تنقل التقاليد بثقة وعناد من أجيال تموت إلى أجيال تولد.
وتتجلى في الروايّة الروح العربيّة الأصلية التي تنضخ من بين سطورها، فتحيط بالقارئ البيئة العربيّة الخالصة للقرية والمجتمع العمانيّ وعاداته، إلى جانب اللغة الفصيحة المستخدمة في السرد والأبيات الشعرية المتناثرة على مدار الروايّة لكبّار الشعراء العرب كمجنون ليلى وابن الرومي وغيرهما. ولعلّ هذه الروح مستقاة من نشأة الكاتبة وثقافتها العربية مما جعلها تظهر في الروايّة، فهي تستمع باللغة وهي تكتب كما ذكرت في أحد لقاءاتها السابقة.
ورغم إن الرواية كُتبت في عام 2010 فلم تصدر بترجمتها الإنجليزية إلا بعد تسعٍ سنوات. إذ تذكر الكاتبة جوخة الحارثيّ أن الناشرين في بريطانيا في البداية ترددوا في نشر روايتها، حيثُ نظروا للرواية باعتبارها غير مثيرة لجذب القارئ الغربيّ فأحداثها هادئة لا يوجد بها حرب أو نساء مقهورات طوال الوقت. وخرجت الطبعة الإنجليزيّة إلى النور حين تحمست للرواية إحدى دور النشر الاسكتلندية وأصبحت روايتها الأولى التي تُنشر مترجمة من الشرق الأوسط وعن اللغة العربية.
بعيدًا عن سيدات القمر
ربما لا يعرف القارئ العربي العادي كثيرًا عن أعمال جوخة الحارثيّ السابقة والتالية لروايتها «سيدات الأقمار»، ولكن الكاتبة العمانية وأستاذة الأدب العربي لديها في رصيدها ثلاث روايات أخرى، إلى جانب عدد من الكتب الأكاديمية. وهذه الروايات هي:
- منامات: هي أولى روايات الكاتبة العمانية جوخة الحارثي، وأصدرت قبل أربع سنوات من روايتها الأشهر «سيدات الأقمار» في عام 2006 وصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر
- نارنجة: وهي الرواية الثالثة للكاتبة، وصدرت عام 2016 وفيها تحكي الكاتبة عن زهور المغتربة خارج بلدها في «بلاد الثلج» والتي تطاردها أحلام جدتها التي عجزت عن تحقيقها. وفي بلاد الغربة تجتمع مع كحل وزوجها «عمران» الهارب من حقله في باكستان، ومن مثلث العلاقة التي تجمعهم سويًا يدور السؤال الأزلي: هل من علاج للحزن؟
- حرير الغزالة: وهي رواية الكاتبة الرابعة وأصدرتها هذا العام، وتقصّ الرواية قصة غزالة التي تهرب بعد صدمة الاختفاء المباغت لاختها بالرضاعة آسية من قريتها المندسة بين جبال عمان إلى عشق عازف الكمان صاحب الحس المرهف والطبع الحالم.. ولكن الظلال تبتلع العازف لتجد غزالة نفسها وسط تقاطع المصائر العجيبة.
ومن أهم أعمالها غير الروائية، كتاب «صبي على السطح»، مجموعة قصصية صدرت عام 2007، وكتاب للأطفال باسم «السحابة تتمنى» الذي صدر عام 2015.
ولم تكن جائزة البوكر العالمي هي الجائزة الأولى التي حصلت عليها جوخة الحارثي، حيثُ حصلت روايتها «نارنجة» على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب عام 2016.