يُعرَف الرّوائيّ، والكاتب الإنجليزيّ «جورج أورويل» بأسلوبه السَّاخر؛ إذ يستخدم السُّخرية للإشارة إلى الأخطاء والحماقات، وأشهر أعماله روايتَي: «مزرعة الحيوانات»، و«1984». في المقال التَّالي نعرف أكثر عن هذا الكاتب، صاحب القلم السِّياسيّ، والرّوائيِّ المختلف، ونتوقَّف مع أهمّ المحطَّات في حياته.
السَّنوات المبكِّرة
وُلد جورج أورويل في يونيو من عام 1903، باسمٍ مختلف عمّا عُرف به، وهو «إريك آرثر بلير». كان مولده في موتيهاري بالبنغال في الهند، لأبٍ يُدعى ريتشارد، وأمٍّ اسمها إيدا، وكان لدى أورويل أخت كبرى، وأخرى أصغر منه، وعمل أبوه كموظَّف جمركيّ ثانوي في الخدمة المدنيَّة الهنديَّة. وحين بلغ أورويل الرَّابعة من عمره، عادت عائلته إلى إنجلترا، واستقرُّوا في قرية هيلني القريبة من العاصمة الإنجليزيَّة لندن، ثم عاد والده مجدَّدًا إلى الهند.
في طفولته وُصِف أورويل بكونه خجولًا، يفتقد للثِّقة بالنَّفْس، وعانى من التهاب القصبات والشُّعَب الهوائيَّة طوال حياته. كان يقضي ساعات طويلة في القراءة، وأثار اهتمامه خاصَّة قصص الأشباح، والخيال العلميِّ، إلى جانب مسرحيَّات (ويليام شكسبير)، وقصص (إدجار آلان بو)، و(تشارلز ديكنز)، و(روديارد كيلبينج).[1]
جورج أورويل في طفولته
وحين بلغ جورج أورويل الثَّامنة من عمره، التحق بمدرسة إعداديَّة خاصَّة في ساسكس، بإنجلترا. وذكر أورويل فيما بعد أن خبرته في هذه المدرسة هي ما كوَّنت آرائه عن نظام صفوف اللغة الإنجليزيَّة. فيما بعد، انتسب جورج أورويل إلى منحة دراسيَّة باثنين من المدارس الثَّانويَّة الخاصَّة، وهما مدرسة (ويلنتون) لفصل دراسي واحد، ومدرسة (إيتون) لمدَّة أربع سنوات ونصف.[1]
وبعد انتهاء المرحلة الثَّانويَّة، التحق أورويل بالشُّرطة الإمبراطوريَّة الهنديَّة، وكان تدريبه في بورما -التي تُعرَف أيضًا بميانمار- حيث قضى فترة خدمته منذ عام 1922 حتى 1926. وفي أثناء عودته إلى إنجلترا، اتَّخذ جورج أورويل قراره بالامتناع عن العودة إلى بورما مجدَّدًا، والبدء في الكتابة. وأصبحت استقالته سارية المفعول في الأوَّل من يناير عام 1928.
تشير التَّكهُّنات المقبلة أنَّه استوعب فيما بعد أنَّ عمله في الشّرطة الإمبراطوريَّة يخدم الاستعمار؛ وهذا ما جعله يرفضها.[1]
البدء في المسار الكتابي
بعد اتِّخاذ جورج أورويل لقراره بالاستقالة من الشّرطة الإمبراطوريَّة بوقتٍ قصير، قرَّر الاستقرار في نوتينج هيل (Notting Hill) -وهي منطقة في لندن-، وفي إيست إيند (East End) -وهي مقاطعة للطَّبقة العاملة بباريس، في فرنسا-. وكتب أورويل روايتين أثناء إقامته في باريس، وكلاهما فُقِد، ثمَّ نشر عددًا من الموضوعات باللُّغتين: الفرنسيَّة، والإنجليزيَّة.[1]
وبعد عمله مُنظِّفًا للمطابخ وفي غسل الأطباق، عانى أورويل من الالتهاب الرِّئوي؛ فعاد مجدَّدًا إلى منزل والديه في سوفولك بإنجلترا، وكان ذلك في نهاية عام 1929 تقريبًا.[1]
جورج أورويل أثناء إقامته في لندن وباريس
وبالعودة إلى إنجلترا، تكسَّب جورج أورويل رزقه من التَّدريس وكتابة المقالات الموسميَّة، بينما عَمِل في الوقت ذاته على إكمال عدد من النّسخ لأوَّل أعماله «متشرِّدًا في باريس ولندن»، وسجَّلت أولى رواياته خبراتَه في العيش بمقاطعة إيست إند في باريس. ولأنَّه كان يعمل في وقت نشر الرِّواية بمجال التَّدريس؛ فقد فضَّل نشرها باسم مستعار. وبين قائمة من الأسماء المحتمَلة وقع اختياره على الاسم الذي سيظلّ يلاحقه في حياته، وبعد رحيله، وهو «جورج أورويل»؛ المأخوذ من نهر أورويل.[1]
الرّوايات الأولى
صدرت الرُّواية الأولى لأورويل في عام 1933، وعلى مدار السَّنوات الثَّلاث التي تلت ذلك كان جورج أورويل يدعم نفسه ماديًّا من خلال التَّدريس، وكتابة المراجعات، والعمل كمحاسب في محلٍّ لبيع الكتب. وفي عام 1934، صدر كتابه الثَّاني وهو «أيَّام بورميَّة -Burmese Days»، والذي كانت حبكته ترتبط بدسيسة شخصيَّة بين مجموعة منعزلة من الأوروبِّيِّين في بورما. وتلَت هذه الرّواية روايتين هما: «ابنة القسّ -A Clergyman’s Daughter» في عام 1935، و«دع الزَّنبقة تطير -Keep the Aspidistra Flying» في عام 1936.[1]
وفي ربيع عام 1936، انتقل أورويل إلى (والينجتون بيهرتفوردشاير) بشرق إنجلترا، وبعد عدّة أشهر تزوَّج من إيلين أوشاوجيسي (Eileen O’Shaughnessy) المعلِّمة والصَّحفيَّة. وكلَّف نادي الكتاب اليساريّ أورويل بكتابة تحقيقٍ عن حياة الفقراء والعاطلين. وكان كتابه «الطَّريق إلى رصيف ويغان -The Road to Wigan Pier» -الصَّادر في عام 1937- يتضمَّن مقالًا عن الطَّبقات والاشتراكيَّة، واعتُبِر الكتاب ولادة أورويل ككاتب سياسي، وهي الهويَّة التي التصقت به طوال حياته.[1]
ثمَّ في يوليو عام 1936، ومع اندلاع الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة وفي خريف نهاية العام، وصل أورويل إلى برشلونة بإسبانيا، وانضمَّ إلى صفوف الميلشيا المنخرِطة في الحرب، ثمَّ تعرَّض للإصابة في منتصف مايو من عام 1937. وخلال فترة تعافيه، أُعلِن عن عدم شرعيَّة الميلشيا؛ ممَّا جعله يهرب إلى فرنسا في يونيو. وقد تسبَّبت تجاربه في إسبانيا بتحوُّله إلى اشتراكيٍّ ثوريٍّ، يدعم التَّحوُّل إلى الاشتراكيَّة من خلال تمرُّد الشَّعب.[1]
كتاب الحنين إلى كتالونيا
وعقب عودته إلى إنجلترا، بدأ جورج أورويل في كتابه «الحنين إلى كتالونيا -Homage to Catalonia» الذي صدر في عام 1938، ووصف فيه خيبة أمله من فصيلة الجمهوريِّين المشتركة في الحرب الإسبانيَّة. وفيما بعد تمنَّى العودة إلى الهند لكتابة كتاب، إلَّا أنَّه مَرِضَ بالسّلّ، وكان يتلقّى العلاج في مشفى حتى أواخر صيف عام 1938. وقضى الصيف الذي تلاه في المغرب؛ حيث كتب روايته «الصّعود إلى الهواء -Coming Up for Air» الصادرة عام 1939. وعقب عودته إلى إنجلترا، كتب أورويل عدد من أشهر مقالاته وتضمَّنت مقالات عن ديكنز، وبويز ويكليز (boys’ weeklies)، وسلسلة مقالات بعنوان «بداخل الحوت».[1]
ومع نشوب الحرب العالميَّة الثَّانية أراد أورويل التَّطوّع في الجيش، لكن القوَّات العسكريَّة رفضته؛ باعتباره غير لائق جسديًّا. وفيما بعد خدم جورج أورويل في الحرس المنزلي وقوَّات الإطفاء.
في مايو 1940، انتقل أورويل إلى لندن، وبدأ في أوائل 1941 في كتابة «خطابات لندن» لمجلة بارتيسان ريفيو (Partisan Review)، ثم انضمَّ في أغسطس من نفس العام إلى هيئة الإذاعة البريطانيَّة (BBC) كمنتِج في القسم الهندي، وبقي في نفس الوظيفة حتى عام 1943.[1]
أوَّل تحفة أدبيَّة
في أثناء الحرب العالميَّة الثَّانية وفي عام 1943، توفِّيت إيدا والدة جورج أورويل، وغادر بعدها الكاتب البريطاني هيئة الإذاعة البريطانيَّة، ليصبح محرِّرًا أدبيًّا في مجلَّة تريبوني (tribune)، وبدأ في مراجعة الكتب بشكل منتظم.
وفي فبراير عام 1944، أكمل أورويل كتابه مزرعة الحيوانات، لكن الكثير من النَّاشرين رفضوا الرواية؛ لأسباب سياسية. لكن في النِّهاية خرجت الرِّواية للنُّور في أغسطس 1945؛ حيث كان مضمونها يهدف لإقرار حقيقة مفيدة وهي فشل الشّيوعيَّة، وذلك من خلال حيوانات تتحدَّث وتتصرَّف مثل البشر.[1]
وخلال نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية سافر أورويل إلى فرنسا، وألمانيا، والنمسا كمراسل، ثم توفِّيت زوجته في مارس 1945. وفي العام الذي تلاه، استقرَّ أورويل في جورا على السَّاحل الاسكتلندي، مع أخته الصَّغيرة وعاملته المنزليَّة.[1]
درَّة إنجازات جورج أورويل الأدبيَّة
على الرّغم من تراجع الوضع الصّحِّي لأورويل في هذه الفترة، بدأ العمل على روايته «1984» التي نُشِرت في عام 1949. وكان الكتاب عبارة عن عرض مُفصَّل عن القيم الفاسدة للبشر في السِّياسات الحديثة، كما تحكي عن عالم تكون فيه قيمة البشر دُنيا، ويقع المواطنون فيها تحت رحمة الحكومة وسيطرتها الكليَّة. وفي سبتمبر عام 1949، دخل أورويل إلى مشفى في لندن، وفي الشَّهر الذي تلاه تزوَّج من صوفيا برويل، ثم توفِّي في الحادي والعشرين من يناير عام 1950 بلندن، وهو يبلغ من العمر 46 عامًا.[1]
عُرِفت غالبيَّة أعمال أورويل بكونها معتمدة على سيرته الذَّاتيَّة بقوَّة، وتجمع بين عناصر من خبرته بالطَّبقة المتوسِّطة، ورغبته في إحداث إصلاحات اجتماعيَّة.[1]
كواليس الرِّواية الأخيرة
«إنَّ كتابة كتابٍ أمرٌ مروِّع، ومعضلة متعبة، مثل قتال طويل مع مرضٍ مؤلم. ولا يمكن للشَّخص أن يتحمَّل مثل هذا الشَّيء مالم يقوده شيطانه الذي لا يمكنه مقاومته أو فهمه. والجميع يعلمون أنَّ الشَّيطان هو نفس الغريزة التي تجعل الرَّضيع يصرخ طلبًا للانتباه. وأيضًا فإنَّ المرء لا يمكنه كتابة أيّ شيء مقروء مالم يكافح من أجل طمس شخصيَّته، فالنَّثر الجيِّد يشبه لوح زجاجيّ».
من مقال لماذا أكتب، جورج أورويل.[2]
كانت الظُّروف التي أحاطت بكتابة رواية 1984 موائمة لبناء الرّواية الكابوسيَّة التي كتبها أورويل. فالكاتب الإنجليزيّ كان يعاني في فترة كتابة الرواية من اشتداد المرض، وصار وحيدًا تتصيَّده شياطين مخيِّلته في أثناء مكوثه بالسَّاحل الاسكتلندي بعد انتهاء الحرب العالميَّة الثانية. وقد راودت فكرة الرّواية أورويل منذ الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة، ثم بدأت الفكرة تتشكَّل في رأس الكاتب الإنجليزي خلال عامي 1943- 1944، وخلال نفس الوقت تبنَّى هو وزوجته إيلين ابنهم الوحيد ريتشارد. بينما أشار جورج أورويل نفسه أنَّ الرِّواية وفكرتها استُلْهِمت من لقاء الحلفاء في طهران بعام 1944. وظلّت الرّواية في البداية تحمل اسم «الرَّجل الأخير في أوروبا».[2]
وتعرَّض أورويل خلال عزلته في تلك الفترة إلى أزمة مع روايته؛ إذ كتب إلى وكيله الأدبي قائلًا: «أنا أعاني مع هذا الكتاب». ومع قدوم أخته للعيش معه وابنه، كتب أورويل إلى النَّاشر في مايو 1947: «أظنُّ أنَّه كان ينبغي عليَّ كتابة ما يقرب من ثلث المسودَّة للرِّواية، ولكنَّني لم أصل إلى ما كنت أطمح له حتى الآن؛ لأنَّني في حالة صحِّيَّة سيِّئة».[2]
وبعد الانتهاء من مسودّة الرِّواية لم يشعر أورويل بالرِّضا عنها؛ حيث قال لوكيله الأدبي: «الرِّواية طويلة للغاية تزيد عن 125 ألف كلمة، أنا لست سعيدًا بالرواية، ولكنَّني أيضًا لست مستاءً منها.. بل في ظنِّي أنَّ فكرتها جيِّدة، ولكن تنفيذها كان ليكون أفضل؛ لو لم اكتبها تحت تأثير السِّلّ». حتى أواخر عام 1947 كان أورويل في حيرة بشأن اسم الرّواية، فلم يعرف أيَّهما يختار: «الرَّجل الأخير في أوروبا» أو «1984».[2]
ولكن ظلَّ سبب اختيار اسم الرواية 1984 لغزًا. يقول البعض أنَّ الاسم جاء على اسم الذِّكرى المئويَّة لجمعيَّة (فابيان) -وهي جمعيَّة إنجليزيَّة أُنشئِت لنشر مبادئ الاشتراكيَّة- تأسَّست عام 1884؛ فيما يُرجِّح آخرون أنَّها كانت إشارة إلى رواية «العُقَب الحديديَّة -Iron Heel» للكاتب الأمريكي (جاك لندن)، التي تسيطر فيها حركة سياسيَّة على الحكم في عام 1984. كما يوجد تخمينات أخرى تشير إلى مجيء الاسم من قصَّة كاتب أورويل المفضَّل (جي كي شيسترتون) بعنوان: «نابليون نوتينج هيل -The Napoleon of Notting Hill»، التي تدور أحداثها في عام 1984.[2]