«آدي البشر أوراق…»
تخيَّل معي أن الدنيا ما هي إلا شجرةٌ عملاقةٌ كثّة، وما أنت إلا ورقةٌ فيها، وبانقشاع ظُلمة الليل، يأتي الفجر، ومن ثَمّ الصباح، فتطرح على أغصانِ الدنيا، كعودٍ أخضر يافع، وبمرور الوقت، يشتدُ عودُك، ويزهى خضارك، فيلتفّ حولُك مَن يلتف، وتظن وكأنما حيزت لك الدنيا بأسرِها، وبمجيء المغرِب، تصفَرّ الورقةُ وتنكمش، وفور أن يسدلَ المساءُ ستائره، تذبل الورقة، وتتساقط من فوق الشجرة، وما بين كل صباحٍ ومساء، حديث.. وكل ميلادٍ ووداع.. حكايةٌ.. حكايةٌ خُطَّت في بضعة أسطر، وعُرِضَت في بضع حلقات، ورُغم اختلاف تفاصيل الحكاية، فإن بدايتها ونهايتها لا يختلفان أبدًا.
حكايات، كتبَها الملكُ المتوَّجُ على عرشِ الحكايات، في واحدة من جواهر مشواره، وقمم أهرام إبداعه، حكايات، أوجَدها لنا عمّ نجيب، وترك من بعده يتيهون فيها، في دوّامةٍ من أسماءٍ وشخوصٍ ببشاواتها ودراويشها، مشايخها ومجاذيبها.. ملأت شجرة الدنيا.. في تشابُكٍ لم ينجح في فكّه سوى السيناريست المُبدِع مُحسن زايد، والمُخرِج الكبير أحمد صقر، في رائعة من روائع الدراما المصريّة، جُسِّدت لنا فيها حكايات محفوظ، حكايات البشر بعِبرِها، وكأنما عبّئت الحكمة بين دفتيّ كتاب، بمصر وحداثة تاريخها، بحرافيش محفوظ وناس المحروسة، في حكايات، مهما مرَّ الزمن وعُدت لتُروى عليك، لن يأتي على بالك سوى سؤال واحد فقط: «كيف تسنَّى له ذلك؟»
عن حديث الصباح والمساء
قيل عنها رواية كل كائن وإنسان على وجه الأرض.. نفس البداية والنهاية.. لا يختلف فيها صبيّ عن رجلٍ عن امرأة عن فتاة، مهما اختلفت وتباينت الأحداث بل والأشخاص ممن استعرض حياتهم في هذا الكتاب العبقري نجيب محفوظ، الذي كان من خلال تصويره لهم يصوّر حياة البشر أجمعين، ويُعلنها عالية واضحة لا فرار منها.. يُعلن أن الحياة كما تبدأ بصرخة وليد.. تنتهى بشهقة الموت.. فهذه القصص جمعت من الآباء والأبناء ما يترجم هذه الفكرة ويُجسِّدها أمام قارئ الراوية.. وفي بساطة الفكرة وتكرار أحداثها مع شخوصها كان يكمُن عُمق الفلسفة وإصرارها التى أرادها محفوظ.. إنها ليست قصة بعض الأشخاص، وإنما هى قصة فلسفة الموت والحياة التي تصدر منها، والبلاغة التي تصيغ حبّات الحدثِ ودُررَ الكَلِمِ في مزيجٍ أخرجَ من المُعتادِ شرابًا جديدًا، لن نمل الاستمتاع به رشفةً برشفة.
تدور الأحداث بدايةً من الاحتلال الفرنسيّ وثورة 1919 وصولًا بالنكسة مرورًا بعصرِ السادات وحتى حرب أكتوبر. شخصيات عديدة، ولكلِّ شخصيةٍ رأي وفِكر مُختلف، سياسيًّا، ودينيًّا وحتى اجتماعيًّا.
في حديث الصباح والمساء، تجد المصريين، بتفاوُت أشكالهم وأفكارهم وطبقاتهم، وكأنما لخَّص لنا محفوظ تاريخ مائتي سنة من مصر في مائتي صفحة، في تتابع بين الزمان والمكان والأحداث لا ينجح في سردِها سوى عقل بحجم أديب نوبل، محفوظ الذي فُتِنَ بروايات الأجيال وفتننا بها معه، فتنةٌ تجلَّت في روايات عِدّة، جاءت أهمّها الحرافيش والثلاثيّة، وروايتنا تلك، تلك التي قام فيها محفوظ بصُنع رواية أجيال من نوعٍ خاص، حوَت أجيالًا مُتعاقِبة شهدت مصر بتحوّلاتها منذ القرن الثامن عشر وحتى عهد الانفتاح الاقتصادي وقت حُكم السادات. وبخفّة محفوظ السرديّة استطاع حبْك الرواية بتداخُل الأحداث لأسرتين رئيستين نشأت منهما فروع عديدة ضمَّت أغلب الصفات الإنسانية، وحملت في طيّاتها ما يمر بالبشر، من أفراح وأتراح، لحظات نشوةٍ مُداعبةٍ تارة.. ومآسٍ مُوجِعةٍ تارات.. هُنا كانت الحكاية.
«دى حكايه متكرّرة من يوم ولادة الضيّ»
ما بين العمل الأدبي والدراما التليفزيونية
رؤية كلّ من نجيب محفوظ ومحسن زايد
كتب محفوظ الرواية بشكلٍ مختلف عن الروايات المعتادة، فالرواية ليست مُقسَّمة إلى فصول وفقًا للترتيب الزمنيّ للأحداث، وإنما كتبها على هيئة سِجلّ لشجرة العائلة وفقًا للترتيب الأبجديّ بأسماء شخصيات العائلة «عائلة النقشبندي»، على النقيض، جاء تتابع حلقات المسلسل الثمانية والعشرين في ترتيبه الزمنيّ العادي، الذي يبدأ ببحث الحفيد الأصغر -ويُدعى النقشبندي- عن عائلته وأهله الذي غابَ عنهم سنين اضطرارًا للبحث عن العمل وهجرة مصر نهائيًا والاستقرار نهائيًا في ألمانيا رُغم مُعارضة والديه، وبعد عِنادٍ منه رضخ أبوه، وودّعه قائلًا: «الله معك إني أودعك بلا دموع»، لكن المفاجأة إن تلك هي الشخصية الوحيدة التي لم يُكتَب اسمها في فهرس الرواية، رُغم أن ما من شخصيةٍ في الرواية ذُكِر اسمها من قريبٍ أو من بعيد إلا ولها في خانةِ الفهرسِ مكان، فهل عاقبه محفوظ بحذف اسمه من الرواية بسبب عصيانه لأبويه؟
ثم يأتي مُحسن زايد فيغزل السيناريو بعبقرية فريدة قلّما تُضيف للعمل الأدبي ولم تنتقص منه؛ فيلتقط محسن خيط النقشبندي ويجعل منه مفتاحًا للمسلسل كلّه، فنرى النقشبندي في أول لقطة من المسلسل يشقّ الظلام وكأنه آتٍ من عالم آخر خياليّ، يعلو صوته مُرتدًّا صداه مرّات ومرّات، يقول: «يا جدي.. يا يزيد يا مصري.. يا ناس.. افتحوولي.. قطعت الدنيا طولها وعرضها وجيت.. افتحولي يا ناس!»، يدّق الباب متوجّسًا، فيفتح له رجلٌ غطّاه الشيب من أولّه لآخره، بلحيةٍ بيضاء طويلة وشعرٍ أبيضٍ مُنسدل حتى منتصف ظهرِه مُرتديًا عباءةً بيضاء، مُمسِكًا بمصباحٍ، وفي يدِه الأخرى كتابٌ كبير، ويدور بينهما الحوار التالي:
_نقشبندي.. اسمك مكتوب؟
_لأ يا جدى!
_إذن لا تتدخل فيما تراه.. حدودك حدود الضيف.
في مشهد النهاية لم يحتمل النقشبندي، وحاول التدخُّل لحلّ مشكلةٍ ما، فضاعَ الكتابُ من يده، فعاقبه الجدّ بالطرد، في قِسمٍ من المُسلسل لم يتم استكماله حتى اليوم. ولكن يظلّ السؤال حائرًا، هل كان تأثُّر محفوظ بشخصيّة الجبلاوي مُسيطرًا على أعماله كما أعتبر النُقّاد؟ أم أنها الصُدفة؟ هل استولت فكرة الجدّ المُهيمن على أفكار كاتبنا فوجد فيها أساسَ كل شيء وأصلَ كلّ إنسان؟ أكان العقاب الأمثل بالنسبةِ له هو الطرد من «البيت الكبير»؟ أكان يزيد المصري هو جبلاوي حديث الصباح والمساء؟ أم أن أولاد الحارة ليسوا كأولاد عطا المراكيبي ويزيد المصري؟ هذا ما لم يجب عليه محفوظ أبدًا، وتظل إشكالية الرمز في أدبِ محفوظ محلّ تساؤلاتٍ لا تنتهي.
«الصبح طفل بريء ومِساه يبان تجاعيد…»
مَن حدّثونا صباحًا ومساءً
يزيد، عطا، والقليوبي: أصل الحكاية
ثلاثة أصدقاء، ربطتهم علاقة نسب ومُصاهرة، هُم أصل الحكاية، ومن نسلِهم تسلسلت الأحاديث والحواديت؛ فكان في كل حلقة يولد طفلٌ يُنسَب للمراكيبي، أو للمصري أو للشيخ القليوبي، ويموت رجل أو سيدة. جيلٌ خلف جيل، لم يتناول منهم زايد غير جيلين فقط، الآباء والأبناء، زادَ عليهم محفوظ جيلًا من الحفدة، كان أبرزهم شخصية «قاسم» الذي كان الابن المُدلَّل لـ«جليلة»، ولكن المُدّة الزمنيّة للمُسلسل لم تسع تناوله.
يزيد المصري وفلسفة الموت والحياة
تجاورَ يزيد المصري وعطا المراكيبي المنزل ذاته، ورُغم الجيرة والصداقة والنسب، حظي كلٌّ منهما بنصيبٍ مُختلف تمامًا من قلمِ محفوظ، فشتّان بين مواجهة الخطيئة.. ومواجهة القدر..
وفقًا للتكوين السردي الذي شيّده محفوظ داخل الرواية، كانت شخصية يزيد المصري هي حجر الأساس داخل البناء الفني، رغم أن ما كُتب عنه لا يتعدى 15 سطرًا فقط، ودوره في المسلسل الذي لم يتجاوز الأربع حلقات.
هذه المساحة الضئيلة، لم ترسم بروازًا متكاملًا للشخصية رغم ما تحظى به من مكانه، كونها الجد المؤسس لهذا النهر البشري المنحدر، ففي البداية نجد الحفيد وفي الختام نصل إلى الجد «يزيد»، بدا هذا النهر وكأنه يبحث في مدلوله العام عن أصلهم الأول.
إن غموض بداية يزيد ومجيئه من عدم الرواية والمُسلسل هو ما جسَّد لنا ملامح شخصيّة قدريّة من صباحِها حتى مسائها، فها هو السكندريّ المُهاجر إلى القاهرة بعد أن فتك الوباءَ بأهله عقب الحملة الفرنسية، يتشائم منه عطا المراكيبي في أول الأمر، ثم يصبح له أقرب الأقربين، يتزوَّج يزيد من بائعة سمك، ويُنجِب منها أولادًا كُثٌرًا لم يعش منهم غير «عزيز» و«داوود»، وفي إحدى الليالي، يتجلَّى ليزيد في منامه الوليّ الصالح «سيدي نجم الدين» الذي دأبَ على الصلاة في ضريحه طويلًا، آمرًا إيّاه: «شيّد قبرك جنب ضريحي لنتلاقى كما يتلاقى المُحبِّون».
عاشَ يزيد برزخًا دُنيويًا قبل برزخه الحقيقيّ، فليس هو وحده من بُشِّر بتلك الرؤية، بل رواها له آخرون، تملَّك التيه من يزيد، أصبحَ هائمًا على وجهه في أيامه القلائل الأخيرة، باعَ كلّ ما يملك، وأتى بعُمَّالٍ يحفروا له قبره في المكان المقصود، في واحدٍ من أقوى مشاهد الفنان «أحمد ماهر» في كلِّ تاريخه الفني مُجسِّدًا فلسفة الموت والحياة.. «بس المهم تبيع إيه وتشتري إيه»؟
«واحنا البشر كلنا أعمار ورق بيطير…»
عطا المراكيبي، بين خطيئة الطمع وحُلم الوصول
هل اقتصرت الأحلام على المُمكنة منها وفقط؟ إذن كيف تُسمَّى أحلامًا؟ تلك كانت فلسفة عطا صانع الأحذية الذي لم ينظر يومًا تحت قدمٍ مما يصنع لها حذاءً، بل تجاوزت أحلامه كل سقفٍ علاها، أحلامه التي تأرجحت طوال حكايته بين الطموح والوصوليّة حينًا، وبين الحُبِّ الخالص أحيانًا.. هكذا أحبَّ عطا «هدى هانم» سليلة الشراكسة، وبجراءةِ الشاطر حسن، صارحها بهذا الحٌبِّ غير خاشٍ أي تبعات قد يكون أقلَّها طرده بعد توبيخه، لكنّك أمام شخصية رأس مالِها كُلّه هو سلسلة من الأحلام التي لا تنتهي..
-أنت اِزاي حبيتني يا عطا؟ اِزاي دخل في دماغك إن أحنا ممكن نتجوّز؟
=حلمت! والحلم للفقير ونَس يا سِت…
هُدى هانم، غايةٌ أم وسيلة؟
تحقَّق حُلم عطا، وظفَرَ بالهانم المُدلَّلة، لا يُمكننا القول أن عطا كان ينوي استغلالها من البداية كي يرتقي اجتماعيًّا وماديًّا، أو حتى يُمكننا الطعن في حقيقة حُبّه لها، رُغم شخصية عطا الوصولية لأبعد مدى يُمكنك تخيّله؛ إلا أن ذلك لم ينفي حُبّه لهدى، وذكاؤه التام في التأرجح بين الكفتين دون أن يختلّ الميزان، ذلك التوازن ساعده عليه امرأةٌ كهدى، تخفي خلف الوداعة دهاءً أُنثويّ جاءَ في صالح علاقتها بعطا، في إدراكٍ تام لحقيقة النفس البشريّة التي قد سوَّلت له أمرًا؛ فأصبح يتعمَّد إذلال هُدى بعد أن كان يومًا ما طوع أمرها.
تُنفِّذ هدى أوامره بكلِّ رحبٍ وسعة؛ فهي تُدرِك تمامًا كيف تُرضي حاجةً في نفسِ عطا تُلِّحُ عليه دائمًا بأنه ليس كفاية لهانم مثل هدى؛ فتُقيم له حفلًا ضخمًا، ملؤه الخدم والحشم والجواري، وتجعل منه سلطانًا لا ينفاسه أحدًا قط، يزهو عطا بنفسِه من جديد، ويعود راضيًا عن نفسه وعنها.
ليس هذا الموقف الوحيد الذي تجلَّت فيه حكمة هدى بوضوح، بل أيضًا تبلورت في مشهد «Masterscene» في المسلسل وهو موت عطا، عطا الذي شاء القدر أن تغيب شمسه في فرح أحد أبنائه، لتأخذه هدى بكرسيه المُتحرِّك وتُدخله غرفة النوم، وتخرج لاستقبال المعازيم في مشهدٍ مهيب ينقسم لنهاية حياة وبداية أخرى داخل البيت ذاته، في مشهدٍ كهذا ترى حديث الصباح والمساء مُتجسِّدًا داخل نفسِ هُدى، بما فيه من عبيرِ العِبَر..
«وفوق طريق الأيام تجري الحياة مشاوير…»
حديث الجيل الثاني
عزيز وداوود، وسلسلة من الصراعات
«ونشوف ملامح الزمن متعادة في المواليد…»
حظي جيل الأبناء بالعديدِ من التناقضات الملحوظة، وما بين خُطى القدر و«الشبل الذي من ذاك الأسد» تكوَّنت لنا شخصيتين لا تشابه بينهما سوى في حملِ لقب «يزيد المصري»، فهذا عزيز المصري الموظَّف العاديّ الذي لم يسرِ يومًا جانب الحائط، بل كان يسري فيه! هو الرّجل المُسالم الذي تربَّى في أحضان أهله ووطنه، وكان يدعم الحُكَّام والزعماء ولا يفهم الغرض من مُعارضتهم، حتى أنه إذا جلسَ في مجلسٍ تُوجَّه في الاتهامات لعُرابي، يترك المجلس وينصرف في عفوية مُطلقة.
وهذا «داوود المصري»، الطفل الذي اُختُطِفَ عشوائيًّا من قِبَل عساكر الوالي لإرسالهم إلى الخارج في بعثةٍ لاستكمال تعليمهم ضمن الحملة التي قادها «محمد علي» لتطوير المنظومة التعليمية في الدولة الحديثة.. يذهب داوود وهو طفلٌ يلهو في الشارع بعد الكُتَّاب، ليعود من فرنسا طبيبًا قضى سنواتٍ بين الأجانب في أحضانِ الترف والرقيّ.
كان الفارق بين عزيز وداوود واضحًا للأعمى، لكن الجوهر المُتأصّل في كُلٍّ منهما ظلَّ راسخًا لم تشوبه شائبة، كان ذلك على عزيزِ يسيرًا؛ فهو لم يعش في سلسلة الصراعات التي تمكَّنت من داوود مُنذ عودته إلى مصر من جديد. داوود الذي عاشَ مُتأرجحًا بين «سنيّة الورَّاق» الهانم الارستقراطية التي تليق بحمل اسم داوود باشا أمام المجتمع، و«جوهر» الجاريّة التي فرَّ إليها في النهاية لأنه وجدَ فيها أخيرًا ما عاش يحلُم، مَن تُناديه «سيدي وتاج راسي» كما كان يُنادى أبوه.
-صدقني يا سيدي أنا ما مصدقة روحي، أقول ايه ع النعيم اللي مغرقني فيه دا؟ ويا ترى أستاهله؟ ولا الشيطان مزيّن لي دنيتي قبل ما يلعب بيا لعبته؟ حدوتة أنا من حواديت القدام؟ ولا علم ووعد كتبهولي ربنا؟
=الله.. الله.. الله.. أحلى كلام سمعته وداني من يوم ما اتولدت، إيه اللي قولتيه ده يا جوهر؟
-لساني نطق ع اللي في قلبي يا سيدي
=بتحبّي فيا ايه يا جوهر؟
-إن قلت حنيتك أقول ايه عن طيبة قلبك؟ ولا أقول إيه عن شهامتك ولا نفسك اللي مابتعلاش ع الفقير؟ ربنا ينفخ في صورتك ويديك على قد نيتك.. يا سيدي وتاج راسي..
يتجسَّد ذلك التناقض في مشهدٍ جمعَ الأخين على القهوة، يُخبر فيه داوود عزيزًا بابنه الذي تزوَّج دون عزيمته؛ فهو لا يتشرَّف بأبيه الذي تزوَّج من جارية تاركًا أمّه الهانم، يبكي عزيز بينما يضحك داوود، مشهدٍ عبقريّ غزلَ خيوطه مُحسن زايد وجسّدته عبقريّة فنيّة بحجم «خالد النبويّ»، لتخرج من المشهد تتساءل: أكان ضحك داوود ألمًا؟ أم أنه قد اكتسى ببرودة أوروبا التي تربَّى في أحضانها؟
«بان في عيون العصر لما زغللت.. الليل يجيها يحني ضهر الزين…»
معاوية وجليلة، ما بين الروح والمادّة
بما أننا نتحدّث عن عملٍ لمحفوظ الذي هوى الرمز واستخدمه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، فكان المُحتمل جدًا أن يُقدّم لنا محفوظ شخصيّتين كـ «جليلة الطرابيشي» و«مُعاوية القليوبي» بما جاءَ ورائهما من رموزٍ وفلسفةٍ دينية ودُنيوية غمرت العمل بحالةٍ لا يُخطئها قارئ أو مٌشاهد قط، تدور الأحداث حول جليلة التي كانت «مخاوية» جنّ يُدعى أبو الحسن، فسَّر بعض النُقّاد هذا بأنه إسقاط على الصراع الذي دارَ بين عليّ بن أبي طالب -وكُنيته أبو الحسن- ومعاوية بن أبي سفيان، الصراع نفسه الذي عاشه معاوية العالم الأزهري الذي يحيا بمُعتقدات الأزهر الذي نشأ فيه، وبين زوجته جليلة الهائمة في عالمٍ من الروحانيات التي لا تكفّ عن الإيمانِ بها أشدّ الإيمان..
كان هذا الإسقاط بمثابة احتواء العلم اللدني للعلم الشّرعي كما فسّره الكثيرون، تجسَّد هذا الاحتواء في المشهد الذي تلى خروج معاوية من السجن إثر تستّره على «عبد الله النديم» في بيته، تجلس جليلة عند قدمي معاوية تغسلهما له وهي التي ظهرت طوال الحكاية بشخصيةٍ تفوقه قوّةً وجأشًا، لكنّها الآن الخلاص الوحيد لزوجِها بعد أن عادَ لها مُعذَّبًا مكسورًا..
«يا اللي أنت عايش حياة بُصلها تلقاها.. سِبحتها لو تنفرط بالعمر منشوفهاش…»
تُرى، هل ينتهى الحديث؟
لا يكتب هذه الرواية سوى نجيب محفوظ، وحده ولا أحد سواه كان بإمكانه أن أن يُقدِّم فلسفةٍ كتلك على طبقٍ من ذهبٍ للعامّةـ يتناولوها قراءةً ومُشاهدةً حتى يومنا هذا دون كللٍ، بالشّغفِ ذاته وبنفسِ التأثُّر. محفوظ الذي رُغم إتيان مسائه، لا تزال أحاديثه قائمة لم تنته، لم يعف عليها زمنٌ، ولم يزهدها جيلٌ، بل أن هُناك أجيالٌ لم يخطّها قلمه بعد جيل عمرو، وسرور، وقاسم، وراضية، جيلٌ لا يزال يعيش صباحه على الشجرة، ستضعف أوراقه، ويحلّ عليه المساء، وتأتي أجيالٌ جديدة لا تعلم عنها شيئًا، لكنها ستعلمٌ عن محفوظِ كلّ شيٍء.. وستعيش صباحها تروي حديثه.. قبل أن يأتيها المساء.
«ولا شئ يعطّر حياتنا يمد فى مداها.. غير سيرة عاشت هنا أكتر صاحبها ما عاش!»
One Response
من اجمل المقالات اللي قريتها
شابو بجد ❤❤❤❤❤