«تحول الزمان إلى ساحةٍ هائلة فيها كل شيء؛ فيها الأرض والحياة والناس، ورأى كل هذا حتى النهاية تمامًا، حتى الجرف المُبهم.. حتى الموت. ولم يكن العذاب متأتيًا من رؤيته الموت، وإنما من رؤيته الحياة والموت في وقتٍ واحد.»
-ليونيد أندرييف، كتاب الجنون.
تحدثنا في المرة السابقة عن الموت؛ تناولنا ماهيته ودواعي حدوثه، كما تحدثنا عن سعينا إلى الخلود رمزًا ما دمنا لا نبلغه في الحقيقة، لكن تبقى لدينا الموضوع الأهم وهو الخوف من الموت. أهو خوفٌ منطقي؟ وإن كان كذلك فما أسبابه؟ هل ذِكر الموت يعرقل مسار الحياة حقًا، أم يحافظ على هذا المسار؟
لتبسيط الأمر، لنقسم طبيعة الخوف من الموت إلى جانبين:
- جانبٌ تطوري.
- جانبٌ نفسي.
أولًا: الجانب التطوري
في الحقيقة، يعطينا علم النفس التطوري دلائلًا كثيرةً على حيوية الخوف، فعلى عكس المتوقع فإن الخوف من الموت ليس بالشيء السيء -ما دام غير مَرَضيٍ بالطبع-، فهو بمثابة غريزة البقاء التي تبقينا على قيد الحياة؛ كيف ذلك؟
صاغ أيزاك ماركس (Isaac Marks) وظيفة الخوف التطورية كما يلي:
«يشكل الخوف تَرِكة تطورية تقود المتعضي إلى تجنب التهديد، وله قيمة واضحة في حفظ البقاء. إنه انفعال يتولد عن إدراك خطر راهن، أو وشيك، وهو انفعال سويّ في وضعيات معينة. القلة فقط يمكن أن تعيش طويلًا بدون الخوف في ظروفٍ طبيعية. يجعلنا الخوف نتأهب لفعلٍ سريع في وجه الخطر، ويهيئنا للتصرف جيدًا في الشدائد. إنه يساعدنا على قتال العدو، قيادة السيارة بحرص، الهبوط بالمظلة بأمان، التقدم للامتحان، التحدث بشكل جيد أمام جمهور مستمعين ناقد، وتثبيت أقدامنا في تسلق الجبال.»
من الجيد النظر إلى الأمر بهذه الطريقة، أليس كذلك؟ إذا يساعدنا الخوف من الموت على تجنب الموت. لكن كيف؟
يوفر الخوف الحماية عن طريق بعض الآليات الدفاعية وهي:
1- التجمد Freezing: تعني هذه الاستجابة السكون الكامل أمام مسبب الخوف، وهي في بعض الحالات تكون أفضل من الهجوم أو الهرب.
2-الهروب Fleeing: تفلح هذه الاستجابة مع بعض الأخطار، مثل رؤية ثعبان فيكون الهرب هو الحل الأمثل لتجنب اللدغ.
3-الرضوخ أو التهدئة: تكون هذه الاستجابة عادةً في حالة كان مصدر التهديد فرد من نفس النوع.
4-القتالFighting : عن طريق الهجوم على المتعدي وتدميره أو دفعه إلى الهروب. هذا يتوقف بالطبع على طبيعة المفترس، إذ يمكن سحق عنكبوت بسهولة بينما لا يمكن قتال دبٍ جائع.
5-اصطناع الموت: بأن يتظاهر الشخص بالموت برهة من الزمن، مما قد يصرف اهتمام المفترس عنه.
6-الإغماء Fainting: يمثل فقدان الوعي وسيلة لإخبار المهاجم بأننا لا نشكل تهديدًا، مما قد يدفعه إلى التجاهل.
لنبرز دور التطور بشكلٍ أكبر في تشكيل المخاوف الحالية، لنذكر بعضًا من أكثر هذه المخاوف شيوعًا: الخوف من الثعابين. إذا سألت أحدهم “ماذا يخيفك أكثر، الثعابين أم السيارات؟” سيكون جوابه الثعابين بالتأكيد، بالرغم من أن البيئة التي يعيش فيها الإنسان حاليًا تكاد تخلو منها، بينما تمثل السيارات خطرًا محتملًا أكبر بسبب حوادث الطرق. كذلك الأمر مع السجائر ومخارج التيار الكهربي، إذ لا يصاب أحد برهاب من مقبس الكهرباء لكن يصاب الكثيرون برهاب الحشرات والأفاعي.
كذلك يمكن تفسير رهاب الأماكن الواسعة أو المزدحمة، حيث يصعب فيها الهرب من أي عدوٍ محتمل. وخوف الأطفال من الغرباء، لخطر القتل أو الأذى، خاصةً الذكور منهم لطبيعتهم الفسيولوجية التي تجعلهم أكثر قوة وخطورة. من الطبيعي ظهور هذه المخاوف بصورةٍ بسيطة وسرعان ما تختفي مع النضج العقلي، لكن قد يصبح الأمر مَرَضيًا. فعلى سبيل المثال، يتطور الخوف من الأماكن الفسيحة إلى خوفٍ عند التواجد في محل البقالة ثم خوف من الخروج من المنزل! فسرت فرضية “المحافظة التكيفية في المخاوف” هذا التعميم على أن افتراض الأذى من كل شيء هو الضمان الأفضل لتجنب الأذى منه، وهذا يؤدي بالطبع إلى الخوف من أشياء بسيطة وغير مؤذية والابتعاد عنها.(1)
ثانيًا: الجانب النفسي
بطبيعة الحال فإن الجانب النفسي للخوف من الموت أكثر تعقيدًا من البيولوجية التطورية الجامدة.
ألم تتساءل قبلًا عن كيفية الموت؟ لا أعني الحوادث والقتل أو النوبات القلبية، أعني الموت ذاته. ربما الموت مؤلم كأن أحدهم ينتزع القلب من بين ضلوعك، وربما هو أشبه بالوقوع في النوم.. هادئ تمامًا ومسالم. ألا تلاحظ أمرًا غريبًا؟ نحن نخاف الموت إلى درجةٍ لا تُصدق، بالرغم من أننا في الحقيقة لا نعلم كيف سيكون. لمَ إذًا؟ تأمل المقطع الآتي:
«… فإن الكينونة البشرية، لأسبابٍ إدراكية، لا تستطيع أن تُدرك موتها هي، لا تستطيع أن تعيش موتها هي، لأن الموت موتٌ والعيش عيش، لأن الكينونة البشرية لا تدرك إلا ما تمر به من تجارب مُعاشة، والموت تجربة منقطعة تتوقف فيها الكينونة البشرية عن العمل من بعده. ليس خوف الإنسان غير المبرر من الموت قائمًا على تجربةٍ معاشة لشخصٍ عانى الموت وتغلب عليه، في الموت ثمة منتصرٌ أزلي وهو الموت، وخاسرٌ أزلي هو الإنسان، في الموت ثمة توقفٌ أزلي عن التواجد، لذا لا يمكن أن يكون الموت تجربة معاشة، ببساطة لأن الموت هو نقيض الحياة. لا أدرك في موت الآخر موت هذا الآخر فحسب، بل أدرك موتي أنا بالذات». (2)
إذًا، يستقي أحدنا خوفه من موته الخاص من تساقط الناس حوله الواحد تلو الآخر، فيكتسب الموت تدريجيًا طابع الفقد والوحدة والحزن، ومع الوقت قد تجعلنا كلمة الموت المجردة نقيم الحداد إذا ما قيلت عَرَضًا في وسط الحديث.
إذا فكّرنا قليلًا، نجد أن الخوف من الموت قد أنجب لدينا الفزع المستمر من فقد مَن نحب، حتى لا نُترك فرادى من بعدهم، حتى إن كان لخوفنا عليهم دافعٌ باطني وهو رؤية موتنا الخاص في رحيلهم -كما سبق وذكرنا-. لكن الخوف من الفقد أمر جيد، فعلى الأقل سيعطينا دافعًا لا يستهان به كي نُحسِن إلى من نحب ونصل جانبهم.. أليس كذلك؟ سيدهشك الأمر.
اقترحت أبحاثً أن العقل البشري يميل -بشكلٍ عام- إلى الحفاظ على الروابط العقلية أكثر من الروابط المادية، ربما يرجع هذا إلى كون الأشياء الغيرمنتهية هي الأكثر تأثيرًا.. أي أنك، على سبيل المثال، إذا لم تتمكن من قول الوداع لشخصٍ تحبه قبل أن يموت، فعلى الأرجح سيعمل شعورك بعدم الاكتمال على تعزيز هذه الذكرى، ومن ثمّ تتذكر هذا الشخص على الدوام.
هل تدرك ما أعنيه؟ هذا يعني أنه عندما يدرك العقل أنه سيفقد هذا الشيء عاجلًا أم آجلًا، يعمل تبعا لذلك على الاحتفاظ بقاعدةٍ قوية من الذكريات لأنها كل ما سيتبقى من هذا الشيء.. وبالطبع لا يحب المرء هذه الذكريات في ذاتها وإنما يحب الشيء المادي الذي تمثله، كما في ظاهرة وهم الأطراف (Phantom limb) يشعر المريض بقدمه المبتورة، لا بقدمٍ تخيلية. (3).
وبالرغم من كل هذا، ما زلنا خاضعين لهذا الخوف.. فبدلًا من قضاء الوقت مع من نحب، ننشغل بطريقةٍ نحافظ بها على وجودهم في ذاكرتنا بعد رحيلهم. لكن الآن ومع إدراكك للأمر، احرص على لقاء أحبتك، أخبرهم باستمرار عن مكانتهم لديك، هذا أن وقتكم سويًّا ضئيلٌ للغاية، وهو آخذٌ في التناقص ساعةً بعد ساعة.
إعداد: أمنية علاء
مراجعة علمية: ماريا عبد المسيح
تدقيق لغوي: أمنية أحمد عبد العليم
المصادر:
1-دايفيد باس. مشكلات البقاء. In: علم النفس التطوري [Internet]. Available from: https://docs.google.com/file/d/0BzpRT0XLr05kdTJob1p4MUVzblk/preview
2-لودفيغ فويرباخ. أفكارٌ حول الموت والأزلية.
3-Lonny D. Meinecke. The uncanny fear of loss. 2018 Abril; Available from: https://www.psychologytoday.com/ca/blog/theory-and-praxis/201804/the-uncanny-fear-loss-part-1