حديث عن الموت (الجزء الأول)

عن-الموت-e1537360905209

||

«ذلك أننا في سباقٍ لا ينتهي مع الزمن، وفي خضم هذا السباق نغفل عن الحياة، فتتسرب كالماء من بين أصابعنا ولا يبقى محلها سوى وهم الحياة.. سرابٌ لا هوية له، يزول هو الآخر أمام ظل عملاقٍ قبيح الوجه، لا يليق به اسمٌ سوى الموت.. والموت كان بالفعل.»

الموت.. أمرٌ مقبض، أليس كذلك؟ هو نهاية كل شيء أحببته يومًا ثم نهايتك أنت أيضًا.
في هذا المقال سنتحدث قليلًا عن الموت، لنتمكن من فهم كينونته ولو بقدرٍ صغير للغاية. سنقوم أولًا بمناقشة أسباب الموت فسيولوجيًا، ثم نطرح بعض الأفكار حول أيديولوجية الموت، وكيف لعبت الآليات النفسية دورًا في تشكيلها.

لمَ نموت؟

في البداية؛ لنحاول أن نفهم الموت من الناحية الفسيولوجية:
لمَ نموت؛ يمكننا تفهّم أن طعنةً في القلب أو رصاصةً في الدماغ تودي بحياة المرء، ففي الأولى يتوقف القلب عن العمل مما يعني توقف الدورة الدموية وبالتالي موت الأنسجة بما فيها المخ، وإذا توقف المخ عن العمل -كما يحدث في الحالة الثانية أيضًا- مات الإنسان. ماذا عن شخصٍ صحته جيدة، لا يدخن السجائر ولا يُصاب بالطعنات ولم يتعرض لطلقٍ ناري في حياته، أليس بعيدًا تمامًا عن مسببات الموت؟ لكنه أيضا يموت جراء التقدم في السن، إذًا لمَ؟
لدينا بالطبع (نظرية الشيخوخة-Aging theory) والتي تنص ببساطة شديدة على أن التقدم في العمر يصحبه تدهور في الوظائف الحيوية والقدرات العقلية منتهيًا بالموت. هنا ينبغي أن نتساءل: ولمَ نكبر في الأساس؟ فسرت نظرية التطور الأمر في البداية بأن الشيخوخة هي وسيلة طبيعية للحد من التعداد السكاني وإتاحة المجال لأجيال جديدة، لها قدرة أكبر على التكيف مع التغيرات البيئية المحيطة.
فيما بعد ظهرت العديد من النظريات لتفسير الشيخوخة بشكلٍ أفضل، مثل: (نظرية تراكم الطفرات-Mutation accumulation theory) والتي ترى أن مع تقدم العمر، وضعف فرص الفرد في الانتقاء الطبيعي، تراكمت الطفرات في الحمض النووي الخاص بالخلايا الجنسية (Germ cell) ومع وجود عوامل التدهور الأخرى، نتجت الشيخوخة. بينما تنص نظرية (تعدد النمط الظاهري-Plieotropy) على أن الانتقاء سيفضل اختيار الجينات ذات التأثير الجيد على المدى القريب -مثل زيادة اللياقة البدنية للفرد- بالرغم من تأثيرها المدمر على المدى البعيد والذي قد يؤدي إلى الشيخوخة ومن ثم الموت.(1)

حسنًا، تحدثنا قليلًا عن الجانب التطوري للتقدم في السن، لكن ما زلنا لم نفهم لمَ تتدهور الوظائف الحيوية مع الشيخوخة، تهبط بنا نظرية (الجذور الحرة-Free radicals) إلى مستوى الخلية. لعلك تعلم أن المحرك الأساسي لكل وظيفةٍ يقوم بها جسدك هو عمليات الأيض، وبالأخص أكسدة الغذاء من أجل الحصول على الطاقة. تنتج عن هذه العمليات بعض المواد الضارة، تعرف بالعوامل المؤكسدة (free radicals) مثل مركب فوق أكسيد الهيدروجين (H2O2). بدون التطرق إلى تفاصيل كيميائية معقدة، فمن المفترض أن الجسم يحاول التخلص من هذه المركبات عن طريق إنزيمات تعرف ب (Catalases)، ما يحدث هو أنه مع تقدم العمر تتراكم هذه العوامل المؤكسدة، وتضعف قدرة الإنزيمات على مواجهتها، فتبدأ هذه المواد في مهاجمة الخلايا بصورةٍ كارثية، حيث تتدمر خلايا الدم الحمراء ويتفكك الهيموجلوبين الموجود بداخلها، كما قد تؤدي إلى الإصابة بأمراضٍ مثل السرطان، وبالتالي نستطيع الآن استيعاب التدهور الحتمي لوظائف الجسم مع تقدم العمر.(2)

أيديولوجية الموت

ربما يكون الموت هو الحقيقة الأكثر حتمية في هذه الحياة، وهذا يدعو للسخرية قليلًا، أليس كذلك؟ فالموت هو السكون الكامل والتوقف النهائي لكل المظاهر الحيوية في الكائن الحي. لكن، كيف يبدو؟ لا يمكن لأحدٍ أن يعلم. فكما هو بديهي لا يمكن للموت أن يكون تجربة مُعاشة، لأنَّه في الأساس توقفٌ أزلي عن العيش، الموت باختصار هو نقيض الحياة.
لكن هذا لا يكفي، ليس للإنسان على الأقل؛ لا يستطيع العقل البشري تقبل النهاية، بل ونهايته هو تحديدًا إلى غير رجعة، لذا اتجه إلى تشكيل عالمٍ آخر حيث لا وجود للموت ولا تتحقق «النهاية». أي أنه جعل من الموت معبرًا يعود به إلى الحياة.(5)

يظهر هذا واضحًا في التراجيديا والأديان القديمة، فعلى سبيل المثال:
– يؤمن الإغريق بوجود العالم السفلي -الذي يستقبل الإنسان بعد مماته- ويحكمه الإله هاديس (Hades). للوصول إلى هذا العالم من أرض الأحياء ما عليك إلا عبور نهر ستيكس (Styx)، لتجد نفسك بعدها أمام طريقين، إن كنتَ صالحًا فإلى أرض النعيم (Elysian fields) وإن كنت غير ذلك فإلى الجحيم الذي أطلقوا عليه اسم تارتاروس (Tarturus).
– نجد أمورًا مشابهةً عند قدماء المصريين، فلدينا كذلك إله العالم الآخر وهو أوزوريس (Osoris)، ويمر الموتى بهذا العالم قبل الخضوع لجلسة الحساب الأخيرة، وعليها يتحدد المصير الأبدي للميت.(3,4) لا مفر من ملاحظة بعض التشابه بين هذا التصور للموت وتصوره في الأديان التوحيدية الأكثر حداثة، باستثناء نقطة الآلهة بالطبع.

نظرية إدارة الرعب (TMT)

طبقًا لنظرية إدارة الرعب (Terror management theory) فإنَّ التصور الديني للموت -القائم بشكلٍ رئيسي على وجود حياةٍ أخرى- نابعٌ في الأساس من الخوف من الفناء، أي أنه وسيلة عبقرية للهروب.
تقوم هذه النظرية على الحقيقة المؤسفة بأن البشر كائناتٍ واعية، فعلى عكس أي كائن آخر يدرك الإنسان حقيقة الموت ويصطدم هذا الإدراك بغريزة البقاء خاصته فيحدث الكثير من الارتباك. إذًا، كيف يقوم العقل بإدارة الخوف من الموت:
يحفز الموت التفكير التلقائي عن طول الحياة وبُعد هذا الحدث، أي تتولد حالة من النكران (denial)، لكنها بالطبع لا تفلح في إزالة هذا الخوف. ومن هنا وجد البشر الحاجة الملّحة لإقناع أنفسهم بأنها ليست النهاية، سواء كان ذلك بصورةٍ رمزية، مثل تحقيق البطولات أو ترك أثر علمي أو أخلاقي، كما في البيت الشعري:
«فاحفظ لنفسك بعد موتك ذكرها ** فالذكر للإنسان عمرٌ ثانٍ»
أو بصورةٍ حرفية، كما ذكرنا من قبل متمثلًا في الحياة بعد الموت والعالم الآخر.(5)

تبعًا لبعض الأبحاث التي تدعم هذه النظرية، فإن التفكير في الموت أو التذكير به يدفع الناس إلى الآتي:

  • زيادة الحس الديني، والإيمان بالأمور الفوق طبيعية مثل الحياة الأخرى.
  • إظهار المزيد من الاهتمام للعلاقات الاجتماعية، وزيادة الرغبة في إنجاب الأبناء.
  • تفضيل البيئة الهادئة والمستقرة عقليًا وبدنيًا.
  • الابتعاد سيكولوجيًا عن أي مرجعٍ أو داعٍ يساوي بين البشر والحيوانات الأخرى، حيث يميل البشر عندها إلى تفضيل نوعهم الخاص عن الأنواع الأخرى، والمبالغة في تقدير تفرد الجنس البشري مع النظرة الدونية إلى الكائنات المتبقية، كونها أفل قدرة من الإنسان على التعبير عن الأفكار أو المشاعر.
  • نقص القدرة على التحكم بالنفس.
  • الدفاع عن المعتقدات والأفكار خاصةً تلك المتعلقة بالموت.(5)

لذا في المرة القادمة التي تلاحظ فيها أيا من هذه الأشياء، كن على وعيٍ أن هذه طريقة عقلك للهروب من الضغط الذي يسببه التفكير في الموت.

 

إعداد: أمنية علاء
مراجعة علمية: ماريا عبد المسيح 
مراجعة لغوية: أمنية أحمد عبد العليم

المصادر:

1.Thomas B. L. Kirkwood SNA. why do we age? 2000 Nov 9; Available from: https://www.nature.com/articles/35041682

  1. Harran D. AGING: A THEORY BASED ON FREE RADICAL AND RADIATION CHEMISTRY. 1995 Jul 14; Available from: https://cloudfront.escholarship.org/dist/prd/content/qt3w86c4g7/qt3w86c4g7.pdf
  2. Karen carr. the greek underworld. 2017 Jul 16; Available from: https://quatr.us/greeks/greek-underworld-hades.htm

4. the underworld and afterlife in ancient Egypt. 2015 Oct 30; Available from: https://australianmuseum.net.au/the-underworld-and-the-afterlife-in-ancient-egypt

  1. Nathan A Heflick. How we cope with death? 2012 Jun 10; Available from: https://www.psychologytoday.com/ca/blog/the-big-questions/201206/how-we-cope-death
شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي