هل شاهدتم ذئبًا في البراري يأكل أخاه
هل شاهدتم يومًا كلبًا عضَّ يدًا ترعاه
هل شاهدتم فيلًا يكذب يسرق يشهد زورًا ينكر حقًا يفشي سرًا يمشي مغرورًا بأذاه
من لم يتذكر الكلمات؟ بالتأكيد لم تنس اللحن الذي رقصت عليه صغيرًا فرحًا ببداية مسلسل الرسوم المتحركة للأسد سيمبا.
وبالعودة إلى مرحلة الطفولة، من منا لم يتذكر أمه تحكي قصة الأرنب والسلحفاة؟ أو انتظاره بفارغ الصبر حلقات الفيل بابار لكي يتعلم منه درسًا جديدًا؟ وكأن الحيوانات هي المنبع الأصلي لتعلم الأخلاق والقيم وحفظ المبادئ.
ليأتي البلوغ، وندرك التوبيخ الخفي للبشرية تحت السؤال المبطن في شارة سيمبا، وأن ما تعلمناه على يد الحيوانات في صغرنا خاص بالإنسان دون الحيوان. فالإنسان وحده على وجه البسيطة هو الجامع بين الغرائز الحيوانية من التصارع الدامي لإثبات القوة وفرض السيادة مع العقل الذي يمنعه من انتهاج مناهج الحيوانات المنافية لإنسانيته.
وعلى العموم، فالعادة جرت بتصوير الإنسان في شكلِ حيوانٍ راقٍ نتعلم منه. لكن ماذا لو صُوِّرَ الإنسان بحيوانٍ يظل على سجيته الحيوانية؟!
«مزرعة الحيوان» هي رواية قصيرة كتبها جورج أورويل، نجد فيها صورةً مُغايرةً وموازينَ مقلوبة! رواية في هيئتها كباقي الأعمال الأدبية المذكورة أعلاه، معدة للأطفال لكنها لا تُعلِّم، بل تسرد واقعًا أليمًا يلمس قلبَ كل بالغٍ احترق بجذوته.
كاتب رواية مزرعة الحيوان
«إيريك آرثر بلاير» (١٩٠٣ -١٩٥٠) هو روائي وناقد وكاتب مقالات بريطاني، اتخَّذ من الاسم المستعار «جورج أورويل» ستارًا لأعماله الأدبية المندرجة تحت أدب (المدينة الفاسدة – Dystopia). وُلِدَ لأسرةٍ إنجليزية متوسطة الحال في الهند حيث كان يعمل والده. وبعد عودته إلى موطنه الأصلي إنجلترا، ألحقه والداه بمدرسة إعدادية في ساحل سسكس، وهناك، لاحظ الفرق بين طبقات المجتمع، ورغم فقره الظاهر وسط الأغنياء إلا أنه عوض ذلك بعقليةٍ فذة. ورغم أن أورويل كان شغوفًا بالكتابة منذ صباه إلا أنه لم يكمل تعليمه الجامعي بكلية إيتون بسبب افتقاره المال، لذلك قرر انتهاج منهج أبيه في العمل لدى الجالية البريطانية في الهند، فعمل كموظفٍ ضمن الشرطة البريطانية في بورما، إلا أنه أدرك نقم سكانها على البريطانيين الذين احتلوا أراضيهم، وكره ذلك مما أدى إلى استقالته عام ١٩٢٨.
بعدها بدأ أورويل مسيرته ككاتب، وعاش في الأحياء الفقيرة من لندن مشاركًا فئة العمال حياتهم القاسية. فجاءت كتاباته معادية للأنظمة الشمولية الاستبدادية، ونادى بتطبيق الديموقراطية الاشتراكية. تُوفِّيَ أورويل عام ١٩٥٠ إثر معاناته بمرض السل. (1)
رمزية رواية مزرعة الحيوان
الرواية إسقاطٌ على أحداث الثورة الروسية التي أطاحت بآخر الأباطرة الروس نيقولا الثاني، ورُمِزَ لنيقولا في الرواية بالسيد جونز مالك المزرعة، الذي ثارت الحيوانات ضده بسبب إهماله لهم وغرقه في ملذاته الشخصية كاحتساء الخمر، ناسيًا أبسط واجباته تجاههم من تقديم الطعام تعويضًا عما يبذلونه من جهد في مزرعته والإنتاج الذي لا يستفيد من ثمنه غيره!
بينما يرمز الخنزير الكهل ماجور إلى كلٍّ من كارل ماركس وفلاديمير لينين مؤسِّسَي الحركة الشيوعية. ويرمز الخنزير سنوبول إلى ليون تروتسكي، الذي رغم عقليته وقدراته الفذة، فشل في استئثار الحكم لنفسه أمام منافسه جوزيف ستالين. عُرف ستالين بحكمه الشمولي الديكتاتوري، الذي عانى فيه الروس من الاستبداد وسياسات التطهير والمجاعات، ويمثله في الرواية الخنزير نابليون. أما الخنزير سكويلر فيمثل الدعاية القوية التي اعتمد عليها ستالين لتوطيد حكمه وتبرير أخطائه الواضحة.
كما تنقل الرواية أحداثًا خيالية موازية للأحداث التاريخية إبان الثورة الروسية منها: معركة بين رجال السيد فريديك والسيد فلكنجتون مالكي مزرعتين من المزارع المجاورة لمزرعة الحيوان والتي توازي التدخل العسكري من القوى الغربية في محاولة لقمع الثورة وإفشالها خوفًا من وصولها لشعوبهم.
ومع ذلك، فالرواية ترمز لكل مجتمع إنساني مستبد، تحكمه المصلحة الشخصية، ويأكل القوي فيه الضعيف، مهما اختلفت مسمياته وتعددت. (2)
قصة مزرعة الحيوان
نام السيد جونز مالك مزرعة مانور إثر سُكره، ناسيًا غلق أبواب الحظائر على حيوانات المزرعة، ليجتمع الحيوانات في الحظيرة الكبيرة حيث وقف خنزيرٌ كهل يُدعى ماجور يخطب فيهم ويحثهم على القيام بثورة. أتى خطابه نتيجةً لحلمٍ غريبٍ عن دنيا بلا إنسان، يعيش فيها الحيوانات بسلامٍ وهناء! بعدها، أنشدهم أغنيةً أسماها (وحوش إنجلترا) ليدب الحماس فيهم ويرددوا كلماتها حتى حفظها بعضهم.
بعد ذلك بثلاثة أيام، تُوفِّي ماجور ودُفِنَ تحت شجرة تفاح في المزرعة. وعلى مدار الثلاثة أشهر التي تلت، قامت حركاتٌ سرية تحت قيادة خنزيرين شابين هما سنوبول ونابليون بالتخطيط للقيام بثورة، كما أسسا مذهبًا فكريًّا متكاملًا قائمًا على ما خلفه ماجور في نفوسهم، والذي عُرف بالحيوانية.
وفي ليلة، انشغل السيد جونز بشرب الخمر بينما انشغل عماله بالصيد، ونسوا تمامًا إطعام الحيوانات، ودون سابق تدبير، ثارت الأبقار وكسرت باب حظيرتها، فقابل جونز وعماله الثورة بالعنف، وانهالوا ضربًا على الأبقار الجائعة، لتهب جميع الحيوانات في المزرعة لنصرة الأبقار. انتهت المعركة لصالح الحيوانات، بعد أن جعلوا جونز وعمال المزرعة يفرون خارج أسوارها. وقبل أن تخمد الثورة في نفوسهم، أضرمت الحيوانات النار في المعدات المستخدمة لتعذيبهم وتقييد حرياتهم في عصر جونز، كما غيروا اسم المزرعة من مانور إلى مزرعة الحيوان.
أعلن سنوبول ونابليون عن مذهب الحيوانية الجديد الذي سيمنع عودة الأنظمة الفاسدة للإنسان، فيُحرِّم عاداته وينزه الحيوانات عنها. واشتمل المذهب على سبع وصايا:
أولًا: كل من يمشي على رجلين عدو.
ثانيًا: كل من يمشي على أربع أو له جناحان حليف.
ثالثًا: غير مسموح للحيوانات بالنوم على الأسِرَّة.
رابعًا: غير مسموح للحيوانات بشرب الخمر.
سادسًا: لا يقتل حيوانٌ آخر.
سابعًا: كل الحيوانات سواسية.
كُتبت الوصايا السبع على جدار بجوار حظيرة الخنازير، واحتفلت الحيوانات بنصرها مرددين أغنية ماجور (وحوش إنجلترا).
حينئذٍ أعلن الخنازير أفضليتهم على باقي الحيوانات، واعتبروا أنفسهم الأذكى، فتمتعوا بالراحة والرفاهية كأكل التفاح وشرب اللبن، وحكموا على الآخرين بالعمل الشاق في المزرعة بحجة واهية ابتدعوها، إذ ادعوا أنهم الأصلح للقيادة لأنهم الأذكى وذكائهم يتطلب تمتعهم بالراحة! والحق أنهم كذلك، لكن كم من المؤسف اقتصار ذكائهم على تحقيق المنافع الشخصية واستغلال الآخرين وهضم حقوقهم.
تنافس كلٌّ من سنوبول ونابليون على الانفراد بالحكم. كان سنوبول يحاول جاهدًا تعليم الحيوانات القراءة والكتابة لكنه فشل لبَلَادَة بعضهم وغياب عزيمتهم، كما أحسن استخدام إجادته لفن الخطابة لحشد تأييد الحيوانات، وفي تلك الأثناء كان نابليون يربي الجراء لتصير كلابًا مفترسة عاقدًا العزم على استخدامها في الاستئثار بالحكم وتوطيده. وبالفعل أطلقها على سنوبول طاردًا إياه خارج المزرعة، ومعلنًا حكمه عليها.
ابتدأت الحيوانات عصرًا جديدًا من الديكتاتورية، فعانوا الجوع والتعب وتقديم التضحيات دون مقابل. من يعترض منهم يكون مصيره الموت كما حدث وماتت بعض الفراخ التي نادت بحقها في الاحتفاظ بالبيض، حتى أن المتفاني منهم كالحصان بوكسر الذي عمل جاهدًا مصدقًا بصلاح قيادته، لمَّا وهن، بِيعَ لجزارٍ بثمن بخس، ألا وهو بعض آنية الخمر للسلطة الفاسدة وحاشيتها.
وما أسكت الحيوانات عن ذلك هو الخوف من الكلاب المفترسة، مقرين بضعفهم، وبسبب ضعف قدراتهم العقلية عانوا النسيان، فاستغل ذلك الإعلام الفاسد المؤيد للسلطة دائمًا على لسان الخنزير سكويلر.
أخذ الخنازير في انتهاك الوصايا السبع وسكويلر ورائهم يبرر ويتلاعب بالنصوص، فمثلًا: يضيف تارةً «بألواح» لنص البند القائل بمنع نوم الحيوانات في الأسرة ليُبرِّئ الخنازير من التهمة! وتارة يضيف «بلا سبب» لنص البند المانع لقتل الحيوان أخاه الحيوان! وفي أخرى يقول: «أربعة أرجل جيدة، لكن اثنتان أفضل» ليبرر مشي الخنازير على قدمين كما الإنسان. والتلاعب عنده لا ينفذ، فوصل للوصية الأخيرة وحولها إلى: «كل الحيوانات سواسية، لكن البعض أكثر سواسية من البعض الآخر!».
وذات يومٍ، وقفت الحيوانات خارج منزل المزرعة ينظرون من أحد الشرف إلى نابليون والخنازير يلعبون الورق مع السيد فلكنجتون وعماله دون القدرة على التمييز من منهم هو الحيوان؟! (3)
وبعد معرفة كيف كان أورويل يكتب من عمق معاناته كأحد أفراد الفئة العاملة في ذلك الزمان، وبمعرفة الرمزية والملابسات التاريخية التي تعكس حقيقةً عاشتها البشرية في قصة خيالية، وبعد معرفة أن الحصان بوكسر المخدوع ما هو إلا فئة من الناس عاشوا حلمًا كاذبًا وانتهى بذبحهم، لكن الفرق أنهم ذُبحوا مجازًا وذابحهم هو معرفة حقيقة الخديعة التي أفنوا حياتهم لإنجاحها، وبمعرفة كيف يمكن لحب السلطة أن يحيل الحلم بالحرية والعدالة والمساواة جحيمًا تتلظَّى فيه الشعوب، ربما قد يقف القارئ الآن لثوانٍ، ينظر -كما فعلت الحيوانات- إلى شرفة يلتقي داخلها الخيال بالواقع، ويتساءَل: من هو الحيوان؟!
المصادر: