«دعوني أبْدأ باستحضار إسقاطٍ مُستخدِمًا إحدى القصص المميزة، تلك التي تدوم وتعبر حواجز الزمان، إنَّ الميدالية التي تلقيتها اليوم من جلالتِكم، التي صُممت بواسطة (إريك ليندبرج – Erik Lindberg) في عام 1902م، ومُثِّلت فيها الطبيعةُ في صورة الإلهة المصرية الأسطورية إيزيس -إلهة الأمومة في مصر القديمة- وقد انبثقت من وسط الغيوم حاملةً قرنَ الوفرة (cornucopia) بينَ ذراعيها، ومتوشحةً بحجابٍ يغطي وجهها البارد والقاسي، إن ذلك القرن إنما هو محمولٌ بعبقرية العلم؛ تلك العبقرية التي دفعتنا دومًا إلى سباقٍ ضدّ الزمن، منذ التقاويم الفلكية القديمة الممتدة من ستةِ آلاف سنة حتى عالم الفيمتوثانية الذي يُكرَّم بين أيدينا اليوم، والذي يُعتبر من أهم الإنجازات البشرية. وقد بدأتُ حياتي ودراستي في بلاد الإلهة إيزيس، وتحقق اكتشافي العلمي واقعًا في أرض أمريكا، وكُرِّمت على هذا الإنجاز هنا في السويد، وها أنا ذا أعودُ إلى نقطة البداية من جديد. ولعل عالَمية العلم تلك، هي ما كان نوبل ينشده منذ قرنٍ مضى».
بتلك الكلمات العذبة عبَّر (زويل) عن شعوره بالامتنان لاستلامه جائزة نوبل (Nobel prize) عن إنجازه الكميائيّ الشهير. ولسنا هنا بصدد الحديث عن إحدى الغرائب أو الظواهر التي يُفسرها لك علم الكيمياء، ولا للحديث عن كيفية تحضير هذه المادة أو تأثير تلك عليك، إنما سنسرد الحديث عن أحدِ القامات العلمية العربية، التي حفرت اسمها بحروفٍ من نور في تاريخ العرب، فمن هو أحمد زويل؟ وماذا فعل ليستحق هذا التقدير؟
بداية الطريق
على ضفاف الفرع النيليّ رشيد، في مدينة دسوق، حاضنة مسجد الإمام الصوفيّ الكبير (إبراهيم الدسوقي)، وُلِد العالم النابغ في فبراير من عام 1946م، حيثُ تمتع بطفولةٍ حالمةٍ في تلك المدينة الواقعة بين مدينة رشيد -المدينة التي بفضلها حُلَّت ألغاز الحضارة المصرية القديمة باكتشاف الحجر المُلقَّب باسمها- وبين مدينة الإسكندرية منارة العلم في العالم القديم. وفي مدرسة دسوق الإعدادية، تلقَّى الأخ الوحيد لثلاثِ أَخوات وابن أحد الموظفين الحكوميين المتمتعين بالتقدير والاحترام من الجميع، تعليمه. وحظى في بداياته المبكرة بأمٍ ودودةٍ كرَّست حياتها لتربية أطفالها واعتنت به هو على وجه الخصوص، وبعمِّه (رزق) الذي اهتم به هو الآخر؛ وواظب على إثراء حسه النقدي وتذوقه للموسيقى، فساعده على الانخراط في الأوساط الشعبية والثقافية على حدٍّ سواء. وتركزت اهتمامات الصبي منذ النشأة الأولى على القراءة والموسيقى والرياضة ولعب الطاولة.
أظهر (زويل) في وقتٍ مبكرٍ جدًا، ميلًا إلى العلوم الطبيعية، حيث كانت الكيمياء والرياضيات والميكانيكا من بين العلوم التي شعر معها بنوعٍ خاصٍ من الارتياح، على عكس العلوم الاجتماعية التي كانت -على حد وصفه- تتصف بالتلقين والحفظ لأسماء وتواريخ وما إلى ذلك، وهو ما تعارض مع الطريقة التي تناول بها عقله الأشياء من حوله، تلك الطريقة التي ارتكزت على السؤال ب(كيف) و(لماذا)، وهي الطريقة التي أشعرته بالنشوة كلما قام بحل أحد مسائل الميكانيكا الصعبة في أيامِ مراهقته.
مشوار تعليمه
بعدَ انتهائِه من الدراسة الثانوية، التحق بمكتب التنسيق بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية، وربما لعب مكتب التنسيق الدورَ الأهم في توجيهه دونَ إرادةٍ حقيقيةٍ منه. ولكنَّ شغفه بالعلوم توهج بمجرد دخوله الحرم الجامعي بمحرم بك مع عمه (رزق)، حيث دمعت عيناه وشعر برهبةِ وقداسة الموقف.
درس (زويل) في السنة الأولى له بالكلية، الدورات الأساسية: (الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والجيولوجيا،) وحقق في تلك السنة تقدير عام (جيد جدًا). وفي العامِ التالي، التحق بقسم الكيمياء الخاصة والذي أظهر فيه نبوغًا مكَّنه من الحصول على تقدير (امتياز) بتلك السنة، واستمر على هذا النحو حتى تخرّج عام 1967م بتقدير امتياز، وبمجموع درجاتٍ يتجاوز التسعين بالمئة.
وبعد حصوله على درجة الماجستير من جامعة الإسكندرية عام 1969م، التحق (زويل) بجامعة بنسلفانيا (University of Pennsylvania) حيث حصل على الدكتوراة هناك عام 1974 م. وبعدها بعامين، التحق بمعهد كاليفورنيا للتقنيات (California Caltech institute of technology)، وفي عام 1990م اُختير أستاذًا رئيسًا لعلم الكيمياء الفيزيائية خلفًا لـ (لينَس كارل باولينغ Linus Carl Pauling).
إنجاز زويل العلمي
بالرغمِ من غنى محتوى علم الكيمياء الممتد تاريخيًّا لأكثر من ألفي عام، وسعة آفاقه العديدة، فإن حركة الذرات أثناء التفاعلات الكيميائية كانت من الأشياء المستحيل رصدها حتى وقتٍ قريبٍ، إذ إنّ الروابطَ الكيميائية سرعان ما تتفككُ وتتكون فتتشكل الذراتُ في الفراغِ أثناءَ التفاعل الكيميائي بسرعاتٍ مذهلة؛ سواءً أكانت في أنظمةٍ معزولةٍ أو في أي مكانٍ آخر. إنَّ التفاعل الكيميائي نفسَه عبارةٌ عن حركةٍ ديناميكيةٍ تتألفُ من الحركة الميكانيكية لكلٍّ من الإلكترون ونواة الذرة، وتصل سرعة تلك الحركة إلى (1كم/ث)، بالإضافة إلى صعوبة رصدِ ذرات تقاس أحجامها بالأنجستروم (وحدة تساوي 10-10 م)؛ وبذلك تحتاج إلى آلةٍ تستطيع الرصد والتصوير في زمنٍ لا يتجاوز ال (100 فيمتو ثانية).
مع أكثر من قرن من التطورِ التكنولوجيّ في تقنيات رصد التفاعلات الكيميائية، لم يكن بإمكاننا باستخدام العديد من الأجهزة سوى معرفة القليل عنها، مثل أجهزة التحليل الطيفي والمطياف الكتلي وغيرها، ولكن مع جهاز مثل ليزر الفيمتو ثانية النبضي فائق السرعة (femtosecond laser probe pulse) والمبتكر بواسطة (زويل) أصبح بإمكاننا تجميد الزمن الخاص بتلك التفاعلات الكيميائية، وذلك عن طريق تسريع عملية الغلق الإلكتروني للمطياف، وأمكن فعل ذلك بالدقة الميكانيكية المطلوبة، فنبضات الليزر المنطلقة من هذا المطياف، تسجل جميع حركات الذرة أثناء التفاعل الكيميائيّ، وبتسلسلٍ كامل للحركة، باستخدام المؤقِت الخاص بالليزر، مما فتح لنا آفاقًا جديدةً من الاستكشافات العلمية.
تخليد زويل
طُرِحَت فكرة إنشاء “مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا” لتكون مؤسسةً تعليميةً بحثيةً ابتكاريةً مستقلةً وغير هادفةٍ للربح. وقد نشأ مفهوم هذه المدينة عام 1999 م، وتم وضع حجر الأساس في الأول من يناير لعام 2000 م. وبعد العديد من المعوِّقات في سبيل تأسيسها، قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 م ببث روحٍ جديدةٍ بالمشروع، من خلال قرارٍ وزاريٍّ لإعادة إحيائه يوم 11 مايو من عام 2011 م. قامت رئاسة الوزراء بتسمية المشروع “مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا” ووصفته بـ “مشروع مصر القومي للنهضة العلمية”.
وفي العشرين من ديسمبر عام 2012 م، مُنِحَت المدينة قانونًا خاصًا يسمح للطلاب بالتقديم للدراسة بجامعة العلوم والتكنولوجيا بمدينة زويل؛ لتبدأ مصر عهدًا جديدًا من التنمية الحديثة والتقدم في مجالي البحثِ العلمي والتكنولوجيا.
إعداد: أحمد فهمي
تدقيق لغوي: أحمد أبو المعارف/ هدى بلشقر
المصادر:
1-
Ahmed Zewail – Facts [Internet]. NobelPrize.org [cited 2018 Sep 22]. Available from: https://www.nobelprize.org/prizes/chemistry/1999/zewail/25813-ahmed-zewail-banquet-speech-1999/
2-
3-
4-
Authors.library.caltech.edu. (2018). [online] Available at: https://authors.library.caltech.edu/69788/1/%5BPure%20and%20Applied%20Chemistry%5D%20Femtochemistry.%20Past,%20present,%20and%20future.pdf [Accessed 25 Sep. 2018].
5-