الحياة العامَّة الفرنسيَّة اليوم شديدة العداء للسِّياسات المعادية للاستعمار. هناك شخصيات مثل (باسكال بروكنر – Pascal Bruckner)، و(برنار هنري ليفي – Bernard-Henri Lévy) لها باع طويل في استنكار معارضة الحروب الأمريكيَّة في الشَّرق الأوسط ودعم الفلسطينيِّين؛ باعتبارها تجلِّيًا لـ(اليسار الإسلامي – Islamo-leftism) وخيانة للحضارة الغربيَّة.
استعدادًا للانتخابات الرئاسيَّة في العام القادم؛ استجابت الحكومة الفرنسيَّة لتلك الأصوات، بزعمها أنَّ اليسار الإسلامي مسيطر على الجامعات الفرنسيَّة، وبوعدها أن تضيِّق الخناق عليهم.
ربط ماكرون نفسه الهجمات الإرهابيَّة الواقعة في الأراضي الفرنسيَّة بـ«خطاب ما بعد الاستعمار أو الخطاب المعادي للاستعمار»، والذي يشجِّع المسلمين على فصل أنفسهم عن المجتمع التقليدي. بالنِّسبة لماكرون، تمَّ استيراد هذا الخطاب من الولايات المتَّحدة؛ لكن شخصيَّات كبروكنر وليفي -يشار إليهم عادةً بـ«الفلاسفة الجدد»، رغم أنَّهم على السَّاحة من سبعينيَّات القرن العشرين- تلوم أيضًا جيلًا سابقًا من المفكِّرين الرَّاديكاليِّين الفرنسيِّين.
يتصدَّر جان بول سارتر قائمة الأشرار الخاصَّة بهم، والذي كان في عصره واحدًا من المثقَّفين الأكثر تأثيرًا وتقديرًا في العالم. رغم ذلك، ومنذ وفاته، قدَّمه ناقدوه كمدافع عن الشّموليَّة، وقارنوه على نحو سلبي بمعاصريه؛ مثل (ألبير كامو – Albert Camus)، و(ريمون أرون – Raymond Aron). إنَّهم يرفضون كتاباته عن الاستعمار باعتبارها ساذجة في أفضل الأحوال، وضارَّة في أسوأها، وبالطَّبع لا ترتبط بالأوضاع الحاليَّة.
في الواقع، إنَّ تحليل سارتر للاستعمار وصراعه ضدَّه هو من أهمّ ما تركه. تزامنت كتاباته في هذا الموضوع مع فترة من الصِّراع الشَّديد ضدَّ السَّيطرة الاستعماريَّة، من فييتنام إلى الجزائر، وسخَّر سارتر نفوذه ومكانته لمن يعانون، معرِّضًا سلامته الشَّخصيَّة لخطر شديد.
الإمبراطورية في مأزق
بعد الحرب العالميَّة الأولى مباشرةً، أطلقت فرنسا المُستضعَفة -التي كان وضعها كأمَّة مستقلَّة موضع شكٍّ- العنان لمجموعة من محاولات مستميتة ودمويَّة؛ لإعادة السَّيطرة على المستعمرات، والتي نجحت بشكلٍ مؤقَّت. لم ينسَ النَّاس الواقعون تحت سيطرة الحكم الفرنسي الاستعماري التَّناقض في أنَّ فرنسا نفسها كانت مُحتلَّة من قبل ألمانيا، حتى وقتٍ قريب.
في يناير 1944، كسب شارل ديجول الأفارقة إلى صفِّه بوعدهم بالاستقلال خلال خطبة شهيرة في (برازافيل – Brazzaville)، عاصمة الكونغو المُستعمَرة. متشجِّعين ببلاغة التَّحرير تلك، وبهزائم فرنسا العسكريَّة في أوروبا؛ خرج العديد إلى الشَّوارع يطالبون بالاستقلال وبتحريرهم.
في يوم النَّصر في مايو 1945، في المدن الجزائريَّة في سطيف وقالمة، تظاهر المئات -منهم العديد من قدامى المحاربين الفرنسيِّين- تحت العلم الجزائري. تتابعت الاضطِّرابات، فقدت السُّلطات الفرنسيَّة السَّيطرة، وقُتِل بعض ضبَّاط الشرطة وبعض المستوطنين.
إنَّ القمع الذي تلا ذلك كان قاسيًا؛ إذ قامت الشّرطة الفرنسيَّة، وميليشيات المستوطنين بمجموعة من المذابح أودت بحياة آلاف المدنيِّين العرب، التي لم تُغطَّى بالشَّكل الكافي إلى هذا اليوم. حتى في التَّقديرات المعتدلة، هناك 10000 ضحيَّة جزائريَّة.
شكَّلت تلك المجزرة صدمة دائمة للجزائريِّين؛ونتيجة لذلك ظهرت حرب الاستقلال الجزائريَّة. رغم أنَّ القمع أخَّر الثَّورة الجزائريَّة لحوالي عشر سنوات، لكنَّه ثبَّت قناعة بين القوميِّين مفادها أنَّه الطريق الوحيد للتَّقدُّم.
في مارس 1947، قام الجيش الفرنسي بمذبحة أخرى في مدغشقر، موديًا بحياة آلاف الملغاشيين عندما حاولوا إعلان استقلالهم. مرَّ هذا دون اهتمام كبير في فرنسا، التي كانت لا تزال تترنَّح بسبب الاحتلال النَّازي.
كانت هناك محاولات أخرى لتحدِّي النِّظام الاستعماري في السنغال، والكاميرون، وسوريا، قابل كلٌّ منها قمعًا قاسيًا قامت به القوَّات المسلَّحة الفرنسية أو المستوطنون. في الهند الصِّينية التي تحكمها فرنسا، قصفت سفينة من البحريَّة الفرنسية مدينة (ها فونغ – Haiphong) في نوفمبر 1946، مُخلِّفة ستَّة آلاف قتيل، كبداية لحرب شاملة ضدّ حركات الاستقلال التي قادها (هو تشي منه – Ho Chi Minh).
في هذا العصر، لم يُدِن أيّ من المثقَّفين المعروفين تلك التَّصرُّفات التي تقوم بها الدولة الفرنسيَّة، باستثناء ملحوظ لِـ(السُّرياليِّين – the Surrealists)؛ حيث أدانوا حرب الهند الصِّينيَّة. كان لشخصيَّات مثل الشاعر (أندريه بريتون – Andre Breton) موقف معادٍ للاستعمار صادق وطويل العهد. في عشرينيَّات القرن العشرين -على سبيل المثال- دعم بريتون المتمرِّدين المغربيِّين بقيادة عبد الكريم خلال حرب الرِّيف.
سارتر والاستعمار
أوَّل ردّ فعل علني لجان بول سارتر على حرب فرنسا الاستعمارية في الهند الصِّينيَّة؛ كان في ديسمبر 1946، في افتتاحيَّة مجلَّة (الأزمنة الحديثة – Les Temps modernes) بعنوان «جلَّادون وضحايا – Both Executioners and Victims». كان ذلك ردًّا على سلسلة مقالات كامو «ليسوا ضحايا ولا جلَّادين»، التي أدان فيها العنف الثَّوري من وجهة نظر مسالمة. قطعت هذه الافتتاحيَّة علاقات سارتر مع كلّ الأحزاب البرلمانيَّة الفرنسيَّة، بما فيها الحزب الشِّيوعي -الذي كان جزءًا من الائتلاف الحاكم في هذا الوقت-. أدانت تلك الافتتاحيَّة الحرب في الهند الصِّينية، ودعت إلى سحب القوَّات الفرنسيَّة.
برَّرت افتتاحيَّة سارتر العنف الثَّوري، وقارنت الوجود الفرنسي في الهند الصينية بالاحتلال الألماني لفرنسا، ممَّا أثار حنق العديد من المعلِّقين. كتب الكاتب (فرنسوا مورياك -François Mauriac) مقالًا شديد القسوة على أثر ذلك، مهاجمًا فيه سارتر مباشرةً. كان تدخُّل مورياك شديد الأهميَّة؛ لأنَّه لم يكن روائيًّا مُعتبَرًا فقط؛ بل كان يكتب عمودًا أسبوعيًّا مؤثِّرًا في هذا الوقت، يعبِّر فيها عن الحركة الدِّيغوليَّة الليبراليَّة والإنسانيَّة.
وضَّح الشَّاعر المارتينيكي (إيمي سيزير – Aimé Césaire) مقارنة سارتر الجرائم الاستعمارية الفرنسية بتلك التي قامت بها ألمانيا النَّازيَّة، ونظر لها في عمله «خطاب عن الاستعمار – Discours sur le Colonialisme». انتقد سيزير الهرميَّة المضمَّرة التي صنعتها أوروبا من المذابح والغزوات، اعتمادًا على موقع وجنسيَّة الضَّحايا. سيتعدَّى نقد سارتر للاستعمار الفرنسي منظوره الإنسانوي الرَّاديكالي، وسيقترب أكثر من نقد سيزير.
في الفترة التي تلَت الحرب مباشرة، استمع سارتر لأصوات من خارج فرنسا، وأعطاها اهتمامًا قدر المستطاع. نصُّه الأوَّل الذي يتناول الإمبراطوريَّة الفرنسيَّة كنظام بشكل مباشر، كان عبارة عن مقال قصير بعنوان «الوجود الأسود – Présence Noire» في مجلَّة «الوجود الأفريقي – Présence Africaine»، في خريف 1947. أصدر الكاتب السِّنغالي (أليونا ديوب – Alioune Diop) مجلَّة الوجود الإفريقي، التي أصبحت سريعًا النَّاطق الرَّئيسي باسم «الحركة الزِّنجيَّة -Négritude Movement».
في هذا النَّص، هاجم سارتر نفاق الفرنسيِّين، الذين يعتبرون أنفسهم متسامحين ومتعاطفين لأنَّهم يختلطون مع السُّود في فرنسا. يتساءل سارتر، لكن ماذا عمَّن هم في المستعمرات؟ وماذا عن الاستغلال والبؤس المنتشرين فيها؟
كان سارتر مركِّزًا على القمع المادِّي الواقع خارج فرنسا، متحدِّثًا عن المرتَّبات البائسة، التي تعادل شهريًَّا كيلوين من اللَّحم. يبيِّن هذا أنه كان مهتمًّا بظروف المعيشة عند الطَّبقات، كما عند الأعراق. في تلك المرحلة المبكِّرة من حياة سارتر، لم تكن العنصريَّة المظهر الوحيد للاستعمار؛ كانت هناك الطَّبقيَّة أيضًا. المشكلة النَّظريَّة المهمَّة التي حاول سارتر معالجتها هي: أيٌّ منهما ظهر أولًا؟
ناقش سارتر أيضًا كيف قد يستولي المضطَّهَدون على ثقافة البيض، واللُّغة الفرنسيَّة، وشِعرِها. رأى سارتر أنَّ كتابات المؤلِّفين الذين أُجبِروا على تعلُّم الفرنسية قد حوَّلت تلك اللغة، عن طريق إدخال ما هو سياسي في الشِّعر، وبإبداع كلمات جديدة؛ إذ جعلوا الشِّعر حيًّا، ومناسباً للعصر مرَّة أخرى.
بدلًا من أن يُصنَّف أولئك المؤلِّفين كفرانكفونيِّين -الذي كان ليدخلهم بالفعل في الهرميَّة الاستعماريَّة-؛ بيَّن سارتر أنَّهم اتَّخذوا اللغة الفرنسية كوسيلة، وأعطوها بُعدًا عالميًّا. تنبَّأ سارتر بظهور أدب فرنسي عالمي، الحركة التي برزت فعلًا في بدايات القرن الحادي والعشرين كمعارضة مباشرة للتَّصنيفات الاستعمارية، كالأدب الفرانكفوني. طوَّر هذه الأفكار في مقاله «أورفيوس الأسود – Black Orpheus» في 1948.
أورفيوس الأسود
كتب سارتر «أورفيوس الأسود» في الأصل كمقدِّمة لكتاب «مختارات من الشعر الجديد الزنجي والملغاشي باللغة الفرنسية – Anthologie de la nouvelle poésie nègre et malgache de langue française» للكاتب السنغالي (ليوبولد سنجور – Léopold Senghor)، وقد كان هناك سياق خاص لكتابة هذا المقال.
لم تكن حروب التَّحرير الوطنيَّة في المستعمرات الفرنسيَّة لها تلك الأهمِّيَّة -بالنَّظر إلى عددها وقوَّتها- التي ستحوزها لاحقًا. كان سارتر حديث العهد نسبيًّا بالسِّياسة، يحاول في ذلك الوقت أن يؤسِّس (حركة طريق ثالث – third-way movement) ثوريَّة في فرنسا، بين الحزب الشِّيوعي والدِّيغوليِّين. كانت تلك كتابات سارتر الأدبيَّة في الوقت الذي كان استقلال المستعمرات الإفريقيَّة فيه لا يزال أملًا، ولم يصل إلى مرحلة النِّضال المُسلَّح المتَّصل.
بدأ سارتر مقاله متحدِّيًا التَّوقُّعات الأبويَّة للقُرَّاء البيض في (الغرائبيَّة – exoticism). ثمَّ واجه سارتر القُرَّاء -بما فيهم نفسه؛ حيث بدَّل بين كلمتي «أنتم» و«نحن»- بانزعاجهم من إدراك أنَّهم الآن هم موضع الحملقة التي يقوم بها السُّود:
هنا يقف رجال سود، ينظرون إلينا، وأتمنَّى أن تشعر -مثلي- بصدمة أن تُرى. لثلاثة آلاف عام، تمتَّع البيض بامتياز أن يَرَوا، دون أن يُروا.
قارن أورفيوس الأسود وضع الأوروبِّيِّين في العالم، بوضع الارستقراطيِّين الفرنسيِّين تحت حكم (النِّظام القديم – ancien régime)، مشيرًا إليهم بـ «الأوروبِّيُّون ذوو الحقّ الإلهي – européens de droit divin». تنبَّأ سارتر بأنَّ الحركة الزِّنجيَّة ستتَّسع قريبًا، وتتشكَّل لتصبح قوَّة سياسيَّة ستُسقِط النِّظام الاستعماري العالمي القديم، كما سقطت الهيئات الملكيَّة في أوروبا.
على السَّاحة العالميَّة، تَبِع بروز الحركة الزِّنجيَّة -كقوَّة ثقافيَّة- ثورة سياسيَّة ستهدم النِّظام الاستعماري. العديد من شعراء مختارات سنجور -بما فيهم سيزير، وديوب، وسنجور نفسه- كانوا جزءًا من تلك اللحظة، بكلّ أوجه القوَّة والضَّعف فيها. باستهلاله بوصفٍ لاذعٍ لأبويَّة القُرَّاء اللِّيبراليِّين البيض، أعطى «أورفيوس الأسود» لمحة لما كانت الحركة الزِّنجيَّة تحاربه. تعدَّى المقال الوصف المباشر والتَّنديد بالعنصريَّة، إلى إدراج العِرق في الاستعمار، والاستعمار في التَّاريخ.
بعد تحذيره جمهور القُرَّاء البيض -خاصَّة مَن اقتنَوا المختارات لتقديمه لها- استمرَّ سارتر باستشهاده بأربع وأربعين فقرة من القصائد التي احتوَتها؛ ليعرض قضيَّته وليعبِّر عن منطقه الجدلي. تضمَّنت مقتطفات من القصائد التي تقوِّض المعاني المنحطَّة المُرتبِطة عادة باللون الأسود، بربط السَّواد عوضًا عن ذلك بالجمال، والرَّغبة، والقوَّة؛ وربط البياض بالإنهاك، والنِّفاق، والجمود.
رغم ذلك، تؤكِّد تلك القصائد على عبء الفاقة المرتبطة بالسَّواد: «السَّواد كالبؤس». بالنِّسبة لسيزير، السَّلبي والإيجابي في الحركة الزِّنجيَّة يعادلان بعضهما: «وجوهنا الجميلة، كالقوَّة الحقيقيَّة المشغلة للعدم». أبطلت الحركة الزنجية أثر اللون الأبيض، وأصبحت مصدرًا للحريَّة؛ تحرُّرًا من (التَّمييز اللَّوني -chromatism).
نشر سيزير تلك الجدليَّة بشكل متميِّز، التي أدمجت عنف السُّود التَّحرُّري في عملية عتق كونيَّة للإنسانيَّة، بعدها بخمسة عشر عامًا في مسرحيَّته «وكانت الكلاب صامتة – And the Dogs Were Silent»، عندما تحدَّث عن ذريَّة عبيد تمرَّدوا على القوَّات الاستعماريَّة. شكل الكونية الخاص عند سيزير كان حاضرًا بقوَّة في أورفيوس الأسود. في الواقع، لعب سيزير دور الوسيط بين سارتر، وبين مُحاوِر مهم آخر وهو (فرانز فانون – Frantz Fanon).
سارتر وفانون
قد يبدو الرَّابط بين سارتر وفانون لأوَّل وهلة معضلًا؛ لأنَّ فانون أورد نقدًا بشكل متكرِّر في كتابه الأول «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء – Black Skin, White Masks» لأورفيوس الأسود. انتقد فانون تضمين الحركة الزِّنجيَّة في (جدل كوني – universal dialectic). بفعله ذلك -كما يجادل- قلَّل الكاتب الفرنسي من تجارب ومعاناة العديد في المستعمرات الفرنسية، إلى كونها مرحلة مُقدَّر لها أن تخفت سريعًا لتفسح المجال لمرحلة أخرى:
راقنا صديق للملوَّنين، ولم يجد هذا الصديق شيئًا يفعله أفضل من أن يبرهن على نسبيَّة أفعالهم (الملوَّنين). نسي هذا الصديق -الهيجلي بالفطرة- أنَّ هذا الوعي بحاجة إلى أن يفنى في ليل المطلق، وتلك هي الطَّريقة الوحيدة للوصول إلى الوعي بالذَّات.
ادَّعى فانون أن تخطيط سارتر الهيجلي أهمل ودمَّر التَّجربة والفرديَّة لصالح الكونيَّة: «وهكذا، أنا لم أخلق معنًى لنفسي؛ بل كان المعنى هناك، ينتظر». رغم ذلك، لم يغلق فانون الباب بشكل كامل أمام المستقبل الكوني، حتى في نقده لأورفيوس الأسود، ووافق على هدف سارتر في النِّهاية. احتوت الفقرة الختاميَّة في الكتاب على تلك الجمل:
يقول الجندي المُقعَد من حرب المحيط الهادئ لأخي: «اعتد على لونك كما اعتدت أنا على إعاقتي، كلانا ضحايا». رغم هذا -بكل وجداني- أرفض أن أقبل هذا البتر، أشعر أن روحي مديدة كالعالم، روحًا عميقة بحقّ، عمق أعمق الأنهار، لصدري القدرة على أن يتَّسع إلى ما لا نهاية.
بالتَّأكيد تشارك فانون وسارتر أكثر من الهدف النهائي للوصول إلى الكونيَّة. كلاهما كان مشغولًا بالطَّريقة التي تتحوَّل بها المظالم الحياتيَّة إلى نضال عالمي، وكان حوراهم منشغلًا بالطريقة الفُضلى للانتقال إلى تلك المرحلة.
القوة والعنف
في «معذَّبو الأرض – The Wretched of the Earth»، كتب فانون أنَّه لا يوجد أدنى شكّ في أنَّ المُستعمَر يتحدَّى المُستعمِر: «يريدون أن يستولوا على أماكنهم». وصف الاستعمار بأنَّه «عنف صارخ» يستسلم «فقط عندما يواجَه بعنف أكبر».
بالنَّسبة لفانون، كان لهذا العنف قيمة علاجيَّة أيضًا؛ لأنه ساعد المستعمَرين على التغلُّب على (العُصاب – neuroses) هكذا أنتج تأهيلًا عقليًا. يجب ألَّا ننسى أن فانون كان طبيبًا نفسيًّا ممارسًا، وكانت له نظريَّة في (العُصاب الاستعماري – colonial neurosis)، أي أنَّ الاستعمار أنتج عصابًا مختلفًا. إنَّ التَّحرُّر من الاستعمار لم يكن أمرًا سياسيًّا فقط؛ بل كان تحرُّرًا عقليًّا.
لذا فبالنِّسبة لفانون، كان هذا العنف مُخلِّصًا؛ لأنَّه جعل الاعتراف بالعبد المعتوق كإنسان ينبثق من خوف سيِّده. لم يقصد بهذا الدَّعوة إلى مذبحة هوجاء، بل إلى اعتراف هيجلي أكثر تعقيدًا؛ حيث يحصل العبد المعتوق على هذا الاعتراف عن طريق المقاومة المسلَّحة. كان جدل فانون معمِّقًا ومعقِّدًا للمرحلة الثَّانية في أورفيوس الاسود عند سارتر.
كتب سارتر نفسه هذا بصياغة استفزازيَّة في مقدِّمته لمعذَّبو الأرض:
أن تطلق النَّار على أوروبِّي، كأن تقتل عصفورين بحجر، تقتل الظَّالم والمظلوم في نفس الوقت: ما يتبقَّى هو رجل ميت ورجل رحل؛ النَّاجي يشعر لأوَّل مرَّة بأرض وطنه تحت قدميه.
هاجمه نُقَّاده بعنف بسبب هذا الادِّعاء في وقته، ولا يزال النَّقد مستمرًّا إلى الآن. الخلاف يستند إلى التَّفريق بين «القوَّة» و«العنف». بهذا الفهم، القوَّة هي ما يحقّ للدّولة أن تستخدمه؛ بينما العنف -والذي هو غير قانوني في تعريفه- فمتروك للطَّبقة الدُّنيا؛ للمستعمَرين.
في ستِّينيات القرن العشرين، بدأت حروب التَّحرُّر في الكشف عن العنف الواقع في قلب الدولة، والتَّشكيك في شرعيَّته. الهجوم المستمرّ على مقدِّمة سارتر كان في حقيقته محاولة من قِبَل الدَّولة عن طريق مثقَّفيها؛ لاسترداد احتكار العنف المشروع.
في «معذَّبو الأرض»، جادل فانون بأنَّ الاستقلال الرَّسمي وحده ليس كافيًا؛ حيث أنَّ الاستقلال الذي تمنحه القوَّة الاستعماريَّة لا يمكن أن يكون تحرُّرًا حقيقيًّا. اقتبس ملاحظة من رئيس الجابون: «الجابون الآن مستقلَّة، لكن في ما بين الجابون وفرنسا، لم يتغيَّر شيء، كلّ شيء كما هو عليه»، وأشار إلى بزوغ طبقة برجوازيَّة وطنيَّة حريصة على القيام بعمل المستعمِرين لصالحهم.
رأى القائد الفرنسي (شارل ديجول) هذا التَّعاقُد على القيام بالمهام الاستعماريَّة كأفضل تسوية، واقترح وضع جميع البلاد الإفريقيَّة التي تحكمها فرنسا في كومُنوِلث خلال حرب استقلال الجزائر. كان نضال الجزائر المُسلَّح، والتَّهديد الذي قد تشعل شرارته في الدُّول الأخرى، مسؤولًا بشكل مباشر عن هذه التَّسوية التي أقرَّتها الدَّولة الفرنسيَّة. تراجع سارتر عن التَّركيز على الكونيَّة، وانشغال فانون بالتَّوترات بين الحركة الزّنجيَّة والحركات المعادية للاستعمار، كانتا محاولتين للتَّجاوب النَّظري مع هذا التَّطوُّر.
«أطلِقوا النار على سارتر»
انتهت المرحلة الأولى من صراع فرنسا مع مستعمراتها بين 1945 و1954، بالهزيمة في الهند الصِّينيَّة. بدأت المرحلة الثَّانية في نوفمبر 1954 بالحرب في الجزائر. كانت الجزائر تمثِّل خطًّا أحمر وضعته فرنسا، كانت جزءًا من امبراطوريَّتهم، والتي لم يرد أيّ من حكَّامها أن يدعوها حتى بالمستعمَرة. كانت أهمّ ممتلكاتهم، ولم يكونوا ليتركوها بإرادتهم.
كان سارتر قد تدخَّل خلال النِّزاع الواقع في الهند الصِّينية، مؤيِّدًا (هنري مارتن – Henri Martin) -ذلك البحَّار الذي رفض أن يخدم في هذا النَّزاع-. وفيما يتعلَّق بالجزائر، كان شخصيَّة رئيسيَّة في معارضة الحرب. كان سارتر مُتأهِّبًا لدخول السِّجن، وكان على علم بأنَّه يواجه خطر انتقام مجموعة إرهابية أسَّسها مستوطنون أوروبِّيون (منظَّمة الجيش السِّرَّي – the Secret Army Organization or OAS).
سارتر الذي كتب عن الاستعمار والعِرق في «نقد العقل الجدلي – Critique of Dialectical Reason»، والذي كتب بعدها بفترة وجيزة مقدِّمة «معذَّبو الأرض»، كان مُسيَّسًا بشكل أكبر ممَّا كان عليه عندما كتب «أورفيوس الأسود». لم يكن يقدِّم القصائد؛ بل صرخة جماعيَّة، تنظير لتمرُّد كوني وللطُّرُق (العنيفة) الضَّرورية لتحقيقه.
كان الوضع السِّياسي متوتِّرًا، كانت فرنسا كما يبدو على عتبة حرب أهليَّة بعد فشل الانقلاب العسكري في أبريل 1961، الذي قام به الضُّبَّاط المعارضون لخطَّة ديجول للانسحاب من فرنسا. أثَّر هذا في موقف سارتر بشكل كبير في نقد العقل الجدلي. كتبه في الأساس بينما كان مختبئًا، يرسل ما يكتبه بشكل أسبوعيّ، بقليل من المراجعة والتَّدقيق، قدر ما يسعفه الوقت.
كتب سارتر على عجلة في الوقت الذي كانت حياته في خطر. فجَّرت منظَّمة الجيش السِّرِّي شقَّته في باريس مرَّتين -كادت إحداهما أن تقتل أمَّه- ورفعت المظاهرات الدَّاعمة للاستعمار شعار “fusillez Sartre” (الذي لا يعني «أطلِقوا النَّار على سارتر» بالضَّبط، بل «أرسلوا سارتر لفرقة الإعدام بالرَّصاص»). في خِضمّ كلّ هذا التوتُّر والعنف، قدَّم تنظيرًا للعنصريَّة شكّل أساسًا لمقدِّمته لعمل فانون والتزاماته المستقبليَّة.
التسلسليَّة والعنصريَّة
في حاشية شهيرة بطول ثلاث صفحات في نقد العقل الجدلي، كتب سارتر أنَّ العنصريَّة لا يمكن فهمها كما هي؛ حيث رأى أنَّها مظهر من مظاهر التسلسليَّة -في تصوُّر رئيسي طوَّره في نقد العقل الجدلي-. وصف سارتر التسلسليَّة كصورة جماعية من الاغتراب، تحدث عندما يعيش النَّاس حيواتهم كأشياء، يقومون بنفس المهام، بينما يتصوَّرون أنَّهم أفراد متفرِّدون. ببساطة، يعيشون معًا، لكن منفصلين.
يمكن رؤية التسلسليَّة -على سبيل المثال- في الإحصائيَّات التي تضغط على النَّاخبين ذوي العقليَّة الليبراليَّة لانتخاب مَن يتصدَّر الاستطلاعات بشكل آلي، وفي التَّعويل على بعضهم البعض في القيام بنفس الأمر، بغض النَّظر عما يشعرون به تجاه متصدِّر هذا السِّباق. فهم سارتر التسلسليَّة كتعبير داخلي عن قوَّة النظام الاجتماعي، كقوَّة تفرض نفسها على أعضاء المجموعة، وتنتج سلوكيَّات يمكن التَّنبُّؤ بها، مبنيَّة على معايير جماعيَّة متَخَيَّلة.
تبنَّى هذه الفكرة عن التسلسليَّة ليفسِّر الطريقة التي تعمل بها العنصريَّة. في السِّياق الاستعماري، كانت العنصريَّة تعبيرًا عن وضع المستعمِر في الهرميَّة الاجتماعيَّة؛ إذ عبَّر المستعمِر عن تفوُّقه بعبارات عنصريَّة ودعمها قدر ما يستطيع. هنا، أدخل سارتر العنصريَّة في نظرة ماركسيَّة شموليَّة للتَّاريخ الإنساني، حيث تتأرجح بين درجات مختلفة من درجات الوعي الجمعي؛ بين التَّسلسل الاجتماعي وبين المجموعة التي يتمُّ دمجها، بين فترات القمع أو السُّكون الاجتماعي، وبين لحظات التَّمرُّد والثَّورة.
بهذه العلاقة، رأى أنَّ العنصريَّة تخدم البنية الاقتصاديَّة، حيث تعطي خطابًا مشرعنًا لنظام اجتماعي جائر. في مقاله «الاستعمار كمنظومة – Le colonialisme est un système» -والذي كان في الأصل مداخلة لسارتر في اجتماع للسَّلام في الجزائر- كتب سارتر أن العنصريَّة قدَّمت مخرجًا للإنسانويَّة البرجوازيَّة. تبعًا لهذا المنطق الملتوي: «بما أنَّ جميع البشر لهم نفس الحقوق؛ سنجعل الجزائريِّين في مستوًى أدنى من البشر».
بغضِّ النَّظر عن قدر النَّجاح الذي حقَّقته محاولته في الرَّبط النظري بين الماركسيَّة والاستعمار، كان هجوم سارتر على العنصريَّة رئيسيًّا في مشروعه بشكل واضح. بالنِّسبة له، كانت العنصريَّة محاولة سياسيَّة واقتصاديَّة راسخة للتَّحكُّم في شعب جديد، دون المساس بالقيم الأساسية للجمهوريَّة الفرنسيَّة (حريَّة، مساواة، إخاء) في الظَّاهر.
أشار سارتر إلى نظريَّة (لينين) في الإمبرياليَّة؛ ليفسِّر وجود فرنسا في الجزائر. في «الاستعمار كمنظومة»، يصف بإسهاب الحاجات الاقتصادية التي حفَّزت تحويل الجزائر من ثكنة عسكريَّة إلى مُستعمَرة في القرن التاسع عشر. اقتبس من السِّياسي الفرنسي (جول فيري – Jules Ferry)، واصفًا إيَّاه -ساخرًا- بأنَّه سبق لينين في استنتاجه:
إنَّه لفي صالح فرنسا -التي كانت غارقة في رؤوس الأموال وقامت بتصديرها للدُّول الأجنبيَّة بكميَّات مُعتبَرة- أن تعالج المساءلة الاستعماريَّة من تلك الزَّاوية. بالنِّسبة للدُّول التي تشبهنا بطبيعة صناعتهم تلك، فمُقدَّر لها أن تصبح عظيمة التَّصدير، فتلك المسألة (الاستعمار) يجب أن تكون منفذًا إضافيًّا بلا شكّ… أينما يوجد هيمنة سياسيَّة؛ فهناك أيضًا هيمنة في الإنتاج، وهيمنة اقتصادية.
سارتر والاستعمار الجديد
في سلسلة محاضرات ألقاها في أكتوبر 1965، تحدَّث سارتر عن دور المثقَّف في المجال العام. بدأ بالتَّفريق بين المثقَّف الزَّائف والمثقَّف الحقيقي. المختصُّون الذين يعملون لصالح الطَّبقة الحاكمة يمثِّلون النَّوع الأوَّل.
بالنِّسبة لسارتر، يمكن للمختصِّين أن يكونوا مثقَّفين إذا كانوا قادرين على الإدلاء بتصريحات خارج نطاق تخصُّصهم؛ لكنَّهم يصبحون مثقَّفين زائفين إذا عجزوا عن رؤية ما وراء مصالح طبقتهم. لنستعر إحدى العبارات من الرِّوائي (بول نيزان – Paul Nizan)، أولئك المثقَّفون الزائفون هم «كلاب حراسة النظام – chiens de gardes du systèm».
أعطى سارتر مثالًا للمثقَّفين الزَّائفين بمن رفضوا أن يتَّخذوا موقفًا معاديًا للاستعمار بشكل واضح في حروب الجزائر وفييتنام، مختبئين وراء قيَم كونيَّة شامخة ومبهمة. قال أولئك المثقَّفون الزَّائفون، بصياغة سارتر:
طرقنا الاستعماريَّة ليست كما ينبغي أن تكون، هناك العديد من المظالم الواقعة في أقاليم ما وراء البحار؛ لكنِّي ضدَّ أيِّ عنف، من أيِّ طرف كان، لا أريد أن أكون ضحيَّة، ولا أن أكون جلَّادًا، لهذا أعارض تمرُّد الشُّعوب الأصليَّة ضدَّ المستعمِرين.
لكنَّه قد لاحظ سريعًا أنَّ هذا «التوجُّه الكونيّ المخادِع» يعني بالفعل الموافقة على العنف الواقع على المستعمَرين من حكَّامهم: «الفرط في الاستغلال، والبطالة وسوء التِّغذية، باقية كما هي بسبب التَّرهيب». على النَّقيض، آمن سارتر بأنَّ المثقَّف الحقيقي ليس «مفكِّرًا أخلاقيًّا ولا مثاليًّا».
إنَّه يعلم أن السَّلام الحقيقي الوحيد في فييتنام سيستنزف دمًا ودموعًا، يعلم أنه يبدأ بسحب قوَّات الولايات المتَّحدة ووقْف التَّفجيرات، أي بهزيمة الولايات المتَّحدة. بعبارات أخرى، طبيعة تناقضاته تجبره على أن يكرِّس نفسه ويشركها في كلِّ صراعات عصره لأنَّها -الصَّراعات النَّاتجة عن الطَّبقة، أو القوميَّة، أو العِرق- تبعات لاضطِّهاد الطَّبقة المسيطِرة للمعدومين.
بالنِّسبة لسارتر، يعني هذا الالتزام الوقوف «في صفِّ المظلومين». تتناقض التزاماته مع مثقَّفي التَّوجُّه السَّائد للفرنسيِّين اليوم، الذين ينحُّون سارتر جانبًا، ليس هذا لعدم أهميَّته اليوم؛ لكن بسبب الأوضاع التي انتقدها، والتي يمكن أن تجدها اليوم أيضًا.
في العديد من البلاد الإفريقيَّة التي حصلت على الاستقلال الرَّسمي من فرنسا في ستِّينيَّات القرن العشرين، تعمل القيادة مع الشركات الفرنسيَّة ولصالحها، الشَّركات التي تستمرّ في استغلال شعوبهم ومواردهم؛ إذ أنَّ مصالحهم الاقتصاديَّة الرَّئيسيَّة خاضعة لأصحاب المجموعات الصِّناعيَّة الضخمة في فرنسا.
يفتقر العديد منهم أيضًا إلى السِّيادة الإقليميَّة. توجد لفرنسا قواعد عسكريَّة دائمة في الجابون، والسنغال، وجيبوتي. ونشرت فرنسا جيشها في مالي، والتشاد، وجمهورية إفريقيا الوسطى، والصومال، وساحل العاج.
إنَّ غالبيَّة المستعمرات الفرنسيَّة السابقة في إفريقيا تستعمل «الإيكو – ECO»؛ وهي عملة تابعة لسيطرة البنك المركزي الفرنسي وقد تمَّ ربطها باليورو، كشكل معتاد من «الاستعمار الاستخلاصي – extractive colonialism»، متنكِّراً بشكل تبادل بين دول مستقلَّة. عادة ما يُعرَف وضع الاستعمار الجديد الراهن الآن بـ«إفريقيا الفرنسيَّة – Françafrique»، رغم إنكار الحكومة الفرنسيَّة ومثقَّفيها لذلك.
كلاب حراسة النظام
في التَّوجُّه السَّائد في مجالَي السِّياسة والثَّقافة في فرنسا اليوم، هناك رفض لإدانة الاستعمار بشكل مباشر، وإنكار تامّ تقريبًا للاستعمار الجديد. في سياق هذا الوضع الأيديولوجي، لا يمكن الاحتفاء بكتابات سارتر السِّياسيَّة والفلسفيَّة في القرن العشرين بشكل واسع؛ لكن لا يمكن تجاهله بشكل كامل أيضًا. وقتما يناقش الإعلام الفرنسي سارتر، تتباين التَّوجُّهات بين الاحتفاء المشروط، وبين الإدانة القاسية.
إنَّ محاولات سارتر النَّاجحة في ربط العِرق والاستعمار بالرَّأسمالية، تجعل من المستحيل الاعتراف به مع التملُّص من موقفه من التَّغيير الاجتماعي الرَّاديكالي، والذي قامت به الطَّبقة المثقَّفة الفرنسيَّة وسياسيُّو الحزب الاشتراكي الفرنسي منذ 1968. يجب على «كلاب حراسة النظام» الملتزمين بنظام عالمي نيوليبرالي، أن يرفضوا عمله.
كانت كتابات سارتر في الإمبرياليَّة محاولة لنزع الغموض. عوضًا عن التَّفكير في الظلم -وهو منظور أخلاقي وإنساني بالأساس يمكن أن يتبنَّاه النِّظام بسهولة-؛ يركِّز سارتر على الضَّروريَّات الاقتصاديَّة التي تحرِّك النِّزاعات العالميَّة والاستغلال، والتي لا هدف لها إلَّا تبديل نمط الإنتاج على النِّطاق العالمي.