من مركز كنيدي الفضائي بولاية فلوريدا الأمريكية إلى محطة الفضاء الدولية (ISS)، أعلنت وكالة الفضاء الأمريكية منذ ساعات إتمام المهمة الفضائية (Crew Dragon Demo-2). بعد أن نجحت شركة سبيس إكس (SpaceX) في الإقلاع باثنين من رواد الفضاء من الأراضي الأمريكية لأول مرة وإيصالهم بأمان إلى محطة الفضاء الدولية في مدارها حول الأرض، وذلك ضمن تعاونها المشترك مع وكالة ناسا. لتؤكد الأخيرة عودتها وبقوة لسباق الصعود إلى الفضاء، مستعيدًة الأمل في استكمال اطلاق رحلاتها البشرية إلى الفضاء من أراضيها. بعد أن كافحت بشدة طوال التسعة أعوام الماضية من أجل إبقاء قدمها في الفضاء، لتنهي مرحلة كبيرة من الركود الفضائي الأمريكي، وتفتتح صفحة جديدة في تاريخها لاستكشاف الفضاء.
تفاصيل المهمة
في عام 2014، تم اختيار شركة سبيس إكس كأحد الشركتين الخاصتين التي تعاقدت معهم وكالة ناسا الفضائية من أجل ايصال رواد الفضاء إلى محطة الفضاء الدولية. منذ ذلك الوقت، بدأت شركة سبيس إكس تطوير كبسولات طراز (Cargo Deagon) -المخصصة لنقل البضائع إلى الوكالة التي بدأت العمل لصالح وكالة ناسا منذ 2012- إلى كبسولات جديدة من طراز (Crew Dragon) المزودة بأحدث وسائل التكنولوجيا لضمان سلامة الرواد والتي ستقوم بنقل 4 رواد في المرة الواحدة رغم سعتها الكبيرة التي تكفي 7 أفراد. وبنفس مميزات صواريخ من النوع فالكون-9 المخصصة لاقلاع الكبسولات إلى الفضاء، فكلاهما قابل للاستخدام عدة مرات، مما سيوفر الكثير من تكاليف الاطلاق.
نظرًا لمكانته الكبيرة، تم اختيار مركز كنيدي بولاية فلوريدا ليكون مركز اقلاع المهمة. وهو المركز الذي تم من خلاله اطلاق الرحلة أبولو-11 أول رحلة أمريكية إلى القمر. لذلك تم اختياره لاطلاق هذه المهمة الجديدة باعتبارها بداية عصر جديد من الاستكشاف الفضائي. وتم تحديد يوم الخميس الموافق 28 من مايو لاطلاق الرحلة (Demo-2) كمهمة تجريبية لقياس كفاءة المركبات، حيث سيتم تحليل بيانات الرحلة من قبل كلاً من ناسا وسبيس إكس والاستفادة منها في المهمات القادمة، والتي سيتعاقد عليها الطرفان بعد نجاح المهمة. ولكن نظرًا لسوء الأحوال الجوية، فقد تم تأجيل الرحلة إلى يوم السبت الموافق30 من مايو.
استغرقت الرحلة حوالي 19 ساعة للوصول إلى المحطة الدولية. حيث استغرق الصاروخ (فالكون-9) 12 دقيقة للوصول إلى المدار الأولي حول الأرض، لتنفصل بعدها المرحلة الأولى من الصاروخ عائدة إلى الأرض كي يتم استخدامه لاحقًا. فيما استغرقت المرحلة الثانية حاملة الكبسولة للاقتراب من المحطة الدولية، والارتفاع بشكل تدريجي إلى مستوى مدارها حوالي 400 كيلومتر.
في اليوم التالي وقبل الالتحام بساعة، وصلت المسافة بين المركبة والمحطة حوالي 400 متر، حيث استغرقت المركبة قرابة الساعة من أجل تقليص المسافة بحذر إلى 20 مترٍ فقط. وفي تمام الساعة الرابعة والنصف عصرًا، قامت الكبسولة ببدء الارتباط بالمحطة الدولية، حيث تطلب الأمر حوالي 15 دقيقة من أجل تمام الالتحام والذي تم إعداده ليكون آليًا بالكامل دون تدخل بشري.
من أجل اختبار كفاءة المركبات لأول مرة، تم اختيار اثنين من أفضل رواد الفضاء بوكالة ناسا وهم بوب بيهنكن وروغ هارلي، حيث قام كلًا منهما بالسفر عدة مرات إلى الفضاء. إلا أن هذه المرة ستكون مختلفة كليًا، إذ ستتم الرحلة داخل كبسولة شركة سبيس إكس المطورة بالكامل، والتي تم تزويدها بشاشات لمس كتلك الموجودة في سيارات تسلا الذكية، إضافة إلى التحكم الآلى للحرارة، والذي سيحافظ على درجة حرارة الكبينة بين درجتي 18 و 27 درجة مئوية.
وعلى الرغم من اطلاق ناسا للعديد من التحذيرات المسبقة بعدم التجمهر لمشاهدة لحظة الاطلاق بسبب أزمة فيرس كورونا الحالية، إلا أنّ الآلاف من المتابعين تجمعوا على شواطئ فلوريدا لمراقبة هذا الحدث الفريد. اضافة إلى حرص الرئيس الأمريكي على حضور لحظة الاقلاع بنفسه من مركز كنيدي للاقلاع الفضائي.
حتى الآن لم يتم تحديد موعد انتهاء المهمة من قبل ناسا وسبيس إكس، إلا أنه يتوقع أن تستغرق فترة لا تقل عن شهر وربما تصل إلى أربعة أشهر كحدٍ أقصى. وهذا سيتم تحديده بناءً على عدة عوامل، أولها: الاستعدادات الهندسية للكبسولة والتي بالتالي ستحدد مدة عمل رواد الرحلة مع الرواد في المحطة الدولية، ففي حالة عدم ظهور أي مشاكل ميكانيكية في الكبسولة لن يكون هناك حاجة لاستعجال عودتها. والعامل الآخر في تحديد عودتها يتوقف بناءََ على موعد إطلاق المهمة التالية (Crew-1) وهي أول مهمة فعلية لسبيس اكس مع وكالة ناسا. حيث يتم حاليًا بناء المركبة وتجهيزها لاطلاق أربعة رواد إلى المحطة الدولية في العام القادم. ولكن على كل الأحوال، فإن المركبة مرتبطة بتاريخ معين لانتهاء صلاحيتها، حيث تم ضبط فترة عمل نظام الطاقة الاشعاعي الشمسي للمحركات ل120 يومًا، أي أن على المركبة العودة قبل بداية الشتاء القادم.
تسعة أعوام من الانقطاع ..
منذ بداية عصر استكشاف الفضاء، كانت الولايات المتحدة أحد الدول التي نافست على صدارة السباق من خلال عدد من الرحلات الهامة كرحلة أبولو-11 إلى القمر. لتشهد لاحقًا عدد من البرامج المتطورة للحفاظ على صدارتها، لعل من أشهرها كان اطلاق برنامج (Space Shuttle) عام 1981. وهوأحد أهم البرامج المخصصة لاطلاق المركبات الفضائية وايصالها إلى مدار الأرض، والذي استمر لمدة ثلاثين عام. ولكن، بعد حادثة انفجار مكوك كولومبيا والتي أودت بحياة طاقمها المكون من سبعة رواد، وافق الكونجرس الأمريكي على قرار ايقاف برنامج سبيس شاتيل الصادر من الرئيس الأمريكي جورج بوش عام 2004 ضمن رؤيته لاستكشاف الفضاء (VSE)، حيث أقر ايقاف برنامج سبيس شاتيل عام 2010 بعد ان تنهي الولايات المتحدة دورها في بناءالمحطة الدولية للفضاء. وجاء قرار الايقاف كي يعطي فرصة أكبر للعلماء لتعلم المزيد والتخطيط لانشاء عصر جديد من المركبات الفضائية التي توقع أن تدخلنا عصر جديد من الاستكشاف الفضائي وايصالنا إلى المريخ بعد أن نكون قد اكتسبنا القدر الكافي من المعرفة. وبعد عدة تأجيلات، تم ايقاف البرنامج نهائيًا في عام 2011.
برنامج تطوير الطاقم التجاري (Commercial Crew Development)
نتيجة لقرار الايقاف، لم تجد الوكالة الأمريكية حلًا لاستكمال رحلاتها سوى اللجوء إلى قاعدة الفضاء الروسية (سويز-Soyus) من اجل اطلاق رحلاتها إلى المحطة الدولية. متحملة تكاليف باهظة وصلت إلى 90 مليون دولار للمقعد الواحد. الأمر الذى دعى الرئيس أوباما لاحقًا عام 2010 لاطلاق رؤية جديدة وهي السماح للشركات الخاصة لأول مرة لمساعدة الوكالة الفضائية في اطلاق رحلاتها، عن طريق امدادهم بميزانيات ضخمة لتطوير الوسائل اللازمة للاقلاع. الأمر الذي اعتبر فرصة عظيمة للعديد من الشركات على رأسهم شركة سبيس إكس، والتي كان هدفها الرئيسي منذ بداية نشأتها هو إرسال البشر إلى كوكب المريخ.
شهد البرنامج عدة مراحل بداية من عام 2010، تم فيها تمويل العديد من الشركات الخاصة بميزانيات ضخمة من أجل تطوير وسائل جديدة للسفر الفضائي. وفي عام 2014، تم ابرام عقد بين وكالة ناسا الفضائية وكلًا من شركة سبيس اكس وشركة (بوينج-Boeing) بقيمة 6.7 مليار دولار، لتطويرهم لمركبات فضائية بدايةً لإرسال الرحلات التجارية إلى محطة الفضاء الدولية، ثم إرسال رواد الفضاء لاحقًا. ونتيجة لذالك، أعلنت وكالة ناسا عام 2019 أن متوسط تكلفة الاطلاق من مركبات شركة سبيس اكس ستساوي 55 مليون دولارََا للمقعد، متغلبة على منافستها شركة بوينج التي وصلت قيمة اطلاقها بداية إلى 90 مليون دولار للكرسي الواحد ثم انخفضت إلى 70 مليون دولار بعد اجراء العديد من التعديلات.
الصفقة الرابحة: سبيس إكس
على الرغم من المكاسب الكبرى التي حصلت عليها وكالة ناسا بنجاح هذه الرحلة، إلا أنّ المكسب الأكبر يعود إلى (إيلون ماسك-Elon Musk) وشركته سبيس إكس. فمنذ بداية إنشاءها عام 2002، كان حلم الشركة هو توفير الوسائل المتطورة لجعل السفر إلى الفضاء أكثر متعة وترفيه، بدلًا من اقتصاره على الجانب العلمي والبحثي فقط. وعلى مدار السنوات الماضية، عكفت الشركة على تطوير نماذج متنوعة من الصواريخ التي اعتبرها البعض مرحلة جديدة كليًا من علم الصورايخ. وعلى الرغم من فشل العديد من محاولات الاطلاق السابقة وانفجار العديد من الصورايخ التي كبدت الشركة خسائر كبيرة، إلا أنها لم تتوقف عن تعديل مركباتها وتزويدها بالعديد من المميزات في سبيل خلق فرص أفضل وأقل تكلفة للسفر إلى الفضاء.
بحلول عام 2011 وبعد ايقاف برنامج سبيس شاتيل، أجرت وكالة ناسا أولى تعقداتها مع العديد من الشركات الخاصة على مرحلتين، لتوفير وسائل السفر المناسبة إلى الفضاء. كانت شركة سبيس إكس إحدى الشركات التي تم التعاقد معها في المرحلة الثانية (CCDev2)، والتي تلقت دعم قيمته 75 مليون دولار لتمويل أبحاثها. وبعد نجاح مشروعاتها بشكل مبدئي، تم دعمها مرة أخرى بجانب باقي الشركات المؤهلة ضمن برناج (CCiCap)، حيث تلقت سبيس اكس وحدها 440 مليون دولار لتطوير منظومة صورايخ فالكون وكبسولات دراجون لنقل البضائع إلى الفضاء. وبعد نجاح نماذج الشركة في العديد من عمليات النقل الفضائي، تلقت أخيرًا تمويلًا قيمته 2.4 مليار دولار مقابل تطوير مركبات لنقل رواد الفضاء إلى المحطة الدولية، وتوفير عمليات الاقلاع الباهظة التي يتم دفعها في كل مرة لقاعدة سويز الروسية. وبحلول عام 2019، اظهرت سبيس اكس نجاحها مرة أخرى، بنجاح صواريخ فالكون-9 بالاقلاع والعودة مرة اخرى سالمة لاستخدامها عدة مرات، بجانب تحديثها مركبات (كرو دراجون) القابلة لإعادة الاستخدام أيضًا، والمخصصة لنقل رواد الفضاء. لينتج عن ذلك انخفاض كبير في تكلفة اطلاق الرحلة لتصل إلى 55 مليون دولار، متغلبة على منافسها شركة بوينج، والتي رغم تلقيها دعم أكبر، إلا أنها لم تستطيع حتى الآن أن تخفض من تكلفة اطلاق الكرسي لأقل من 70 مليون دولار.
بنجاح هذه المهمة، ينتظر شركة سبيس إكس العديد من المهمات لصالح وكالة ناسا، حيث سيتم إجراء تعاقدات جديدة بناءً على مستوى نجاح المهمة (Demo-2). ولكن المكسب الأكبر لشركة سبيس إكس هو نجاحها في تطوير مركبات الإقلاع، والتي ستمكنها من تخفيض تكاليف الإقلاع أكثر فأكثر. وبالتالي ستكون قادرة على تحقيق حلمها في إطلاق رحلات الفضاء الترفيهية في الوقت القريب.
المصادر
1- https://www.washingtonpost.com/technology/2020/05/30/spacex-nasa-launch-live-updates/
3- https://www.space.com/spacex-crew-dragon-demo-2-test-flight-explained.html