ينظر الكثيرون للفلاسفة في العصر الحديث باعتبارهم هؤلاء الخاملين عن إدراك الحياة والواقع والعمل، بلا أي إنجازات أو تأثير يذكر ويستحق. كذلك يتكلم البعض عن تلك الفلسفة التي حل محلها العلم، ولكن هل هكذا حقًا الأمر؟
لنجيب على ذلك السؤال فسيكون من المهم أن نرى كيف كانت الفلسفة وكيف تكون وكيف ستكون.
وربما أثناء البحث وراء إجابة تلك الاسئلة سيكون من اللطيف جدًا العودة للوراء ولواحدة من أهم اللحظات التي أسست لما يمكن أن نعتبره من أهم وأشهر لحظات الفلسفة وهي لحظة بزوغ الفلسفة اليونانية القديمة والتي امتدت حوالي أحد عشر قرنًا، وتركت تأثير يمتد حتى يومنا هذا، من رجوع لأفكار والبحث والدراسة فيها.
ومن اللحظات المظلومة في رحلة الفلسفة اليونانية، هي اللحظة قبل السقراطية، وهى اللحظة التي يمكننا أن نقول ببداية الفلسفة اليونانية فيها، وخاصةً لحظة «أبو الفلاسفة» ذاك الشخص الذي لم يصلنا من كتاباته شيء، ولكن وصلنا عنه الكثير، شخص جدلي لدرجة أن البعض يرفض اعتباره ضمن الفلاسفة من الأساس.
نعم نتكلم عن «طاليس الملطي» (Thales of Miletus)، أحد الحكماء السبع الأسطوريين (Seven Sages of Greece)، وهو لقب أُطْلِق على رجال دولة وفلاسفة أشتهروا بحكمتهم ومنهم:
- بيتاكوس من ميتيليني (Pittacus of Mytilene).
- بياس من برييني (Bias of Priene).
- سولون من أثينا (Solon of Athens).
- خيلون من سبارطا (Chilon of Sparta).
وقد أختلف بخصوص أخر إثنين وممن قيل إنهم هم:
- كليوبولوس من ليندوس (Cleobulus of Lindos).
- بيرياندر من كورنث (Periander of Corinth).
- آناكارسيس من سكيثيا (Anacharsis the Scythian).
- مايسون من قرية تشين (Myson of Chenae).
منهج طاليس
يُعتقد أن طاليس ولد عام 620 ق.م، في مدينة ميليتوس، وقد سافر حول العالم واهتم بمختلف العلوم، وخاصةً الرياضة والهندسة، كما يُحسب طاليس على أول فلاسفة العلوم ومن مؤسسي -إن لم يكن المؤسس- المدرسة الطبيعانية المادية والتي قد تطرقنا لها في مقال سابق وتكلمنا عن كونها المدرسة السائدة على المستوي العلمي في لحظتنا الراهنة.
حاول طاليس أن يحرر الظواهر من التدخل الإلهي المباشر، والذي كان يعيق محاولة فهمها ودراستها، باستسهال إنتسابها إلى الكيان الخارق الذي يتكلمون عنه، ولا يعني هذا بالضرورة رفض وجود الكيان الخارق وراءها، ولكن البحث عن التفسير المادي متجاهلًا وجوده كمُعطى يؤخذ في الإعتبار.
وطاليس قريب من التعامل السائد اليوم، فيُنظر للتفسير الخارق بإعتباره تفسير ليس مجال العلم البحث فيه ودراسته، وقد يكون حاضر مع التفسير المادي فى ذهن الباحث، ولكنه يظل «فرضية زائدة عن الحاجة» عندما ندرس العالم المادي وظواهره ولا يجب أن تؤخذ في الإعتبار أو تعتبر الإجابة الحاضرة، والغريب أن هذا التعامل الخاطئ حضر مع بعض كبار العلماء مثل نيوتن، ويحاول البعض أن يستحضره حتى في لحظتنا هذه.
وما نعرفه عن طاليس إنه كان مؤمنًا وحظى باحترام الجميع في لحظة كان الأغلب فيها مؤمنو له جميلة شهيرة منقولة عنه هي أن «كل شيء يعج بالآلهة.»
يُحْسَب طاليس على مدرسة فلسفية يطلق عليها المدرسة الأيونية (Ionian School)، وهي تهتم بالبحث في أصل العالم المادي والكائنات، وكان يتصور ارتباطها واتصالها كلها.
أصل الأمور عند طاليس
كان يري طاليس أن الماء هو الأصل وهو المادة الأولي التي خرج منها كل شئ، وهو فَهْم يمكن إرجاعه إلى بابل وبالتالي يمكن الكلام عن كون الفكرة استُلْهِمت أثناء سعيه المعرفي هناك، فنحن مثلًا في أساطيرهم نجد النص التالي:
«في البدء قبل أن تُسمى السماء، وأن يعرف للأرض أسم كان المحيط وكان البحر.»
وكذلك زار مصر وكان فيها نفس الفكرة، فنجد نص مثل ذلك في قصة مصرية:
«في البَدء كان المحيط المظلم أو الماء الأول، حيثُ كان أتون وحده الإله الأول صانع الآلهة والبر والأشياء.»
ولكن طاليس لم يقل بهذه المسألة كمجرد نقل من الأساطير والقصص الديني.
فمن منظوره كان ذلك مدعومًا برصده لدور الماء فى الكائنات الحية بل والمواد، ونظرته للماء كأصلٍ لكل شيء ليست مطابقة بالتأكيد لفهمنا المعاصر عن نشأة الحياة في البحار أولًا، بل يقصد كونها هي ذاتها المادة التي حرفيًا منها تتكون الأشياء.
ونظرته للماء كذلك كانت تركز كذلك على قدرته على التشكل والتغير، وفي نفس الوقت الحفاظ على طبيعته الخاصة، جوهره الخاص.
وفي إطار بحثه في فرضيته بخصوص الماء، كان يبحث في كيفية ظهور الأشياء من الماء ومازال أصلها يعتبر فيه، فينظر في الكائنات وفي الظواهر وفي الجو ويتساءل عن الرطوبة والسوائل، وتحول المواد، فيعطي اهتمام شديد بقدرة الماء على التحول والتغير من صلب لسائل لغاز.
يعتبر البعض طرح طاليس هو المقدمة لطرح ديموقريطوس (Democritus) لاحقًا بعد 200 عام، والذي كان ينبني على أن كل شئ في النهاية مصنوع من نفس الشئ، ولكن بينما سماه ديموقريطوس «الذرة» (Atom)، فكان يري طاليس أن المادة الأولى هي الماء.
وبالرغم من أن أرسطوطاليس (Aristotle) نسب كون الأرض كروية لطاليس، فالباحثين المعاصرين يروا أن رؤيته غالبًا كانت لأرض مسطحة موجودة فوق سطح الماء.
ورغم أن بعض تلك الأفكار تبدو لنا بدائية فعندما ننظر إلى الفارق الزمني الذي نتكلم عنه فسيحق لنا أن نندهش، ولكن لم تكن كل أفكاره بهذه البدائية.
طاليس والرياضيات
فبجانب إنجاز طاليس بخصوص المنهج العلمي الذي يركز على الواقع والمادة ويلغي الخوارق، فقد كان يولي إهتمام شديد بالرياضيات، وذلك الذي مكنه من كثير من الإنجازات، مثل حساب طول الهرم عندما زار مصر، وهو ما لم يكن معروف في وقتها، وكان يعتمد في ذلك على الظلال التي يصنعها الهرم، حسب ما وصلنا من ديوجين/ديوجانس الكلبي (Diogenes)، الفيلسوف الساخر.
كذلك كان يحسب أبعاد السفن من فوق برج كوظيفة، وهذا غير اهتمامه بالفلك والذي جعله يتنبأ بالكسوف الشمي الكلي في 28 مايو 585 ق.م، وإن كان البعض يشكك بخصوص هذه النقطة لصعوبتها وإن ذكرها لنا التاريخ.
ويحكي لنا سيسيرو (Cicero) المؤرخ الروماني أن بعد قتل أرخميدس (Archimedes) أثناء الغزو الروماني لسرقوسة (Syracuse) عام 212 ق.م، وجد عنده نموذج كرة تصف مواقع الأجرام الفلكية، والتي تعتبر المقدمة لآلية أنتيكيثيرا (Antikythera mechanism) والتي أخترعها أرخميدس كآلة أكثر تعقيدًا للحساب الفلكي لمواقع الأجرام والتنبؤ الدقيق بالخسوف، وإنها من صنع طاليس.
وحتى يومنا هذا يُدَّرَس للطلاب مبرهنة طاليس، وهي التي برهن فيها أن الزوايا المرسومة داخل نصف دائرة هي قائمة، وقد ذكرت في الكتاب الثالث لإقليدس (Euclid) الأصول (Elements).
ويوجد غيرها من المبرهنات الرياضية المميزة، مثل مُبرهنة التناسب وكلها وصلتنا من كتابات بعده وعنه.
فطاليس يعتبر أول من أستخدم المنهج الإستنباطي في الرياضيات، بانيًا على ما تعلمه أثناء سفره حول العالم.
فبدأ في تحويل الرياضيات، من مجال عملي لمجال يمكن دراسته بدون القلق حول تطبيقاته، فيبحث في الرياضيات وفي الذهن بدون أن يقلق نفسه بخصوص التطبيق.
كذلك أسس طاليس المدرسة الميليسية (Milesian school)، والتي أكمل فيها لاحقًا تلامذته، وأهتمت بالهندسة والرياضيات وعلم الفلك والفيزياء والأحياء.
انتهاء أسطورة وبدء أخرى
توفي طاليس عن عمر 78 عام، غير مكتفيًا بالسفر والبحث والتفكير والاهتمام بشئون الدولة فقط، بل أهتم بأن يمرر علمه لتلاميذ منهم أنكسيمندريس (Anaximander) الفيلسوف الشهير والذي أكمل الرحلة من بعده، مخالفًا له في أمور ومتفق في غيره. فساعد طاليس في بَدء ما أصبح بعد ذلك واحدًا من أزهى وأشهر وأقدم عصور الفلسفة والتي مازلنا نستمر في الاستفادة من أفكارها ونقاشها حتى اليوم.
كان طاليس أول الفلاسفة اليونانين حسْب علمنا، وشاء القدر أن يكون أول فلاسفة فلسفة العلوم الداعين إلي البحث في الواقع وتجاهل الأسطورة، سواء آمنت بها أو لا.