علم الوراثة الدوائي والطب الشخصي

fig-30-11-2018_00-03-44

على مدار عقود ماضية، دائمًا ما نجد اختلافًا في تأثير نفس الدواء على مرضى مختلفين. فكيف لنفس الدواء بنفس التركيز والجرعات أن يُظهر أعراض جانبية على بعض المرضى ولا يظهر عند البعض الآخر؟ والأهم هو لماذا يكون فعَّال لدى البعض ولا يعمل مطلقًا لدى مرضى آخرين؟ يعاني نحو 40% من المرضى في مختلف أنحاء العالم من هذه الظواهر. وسوف تجد تفسيراتها فقط في علم الوراثة الدوائي والطب الشخصي.

ما هو الطب الشخصي (Personalized Medicine)؟

هو الطب المبني على تطوير طرق علاج مخصصة بناءً على حالة كل مريض سريريًا وبياناته جينيًا.

وما هو علم الوراثة الدوائي (Pharmacogenomics)؟

هو أحد أفرع علوم الصيدلة وهو مبني على تحليل مدى تأثر الدواء داخل الجسم بناءً على الخصائص الجينية للمريض. بمعنى أبسط، علم الوراثة الدوائي هو توصيل الدواء الصحيح بالجرعة الدقيقة للمريض الصحيح.

ولذلك، تستخدم تقنيات مختلفة في علم الوراثة الدوائي كأدوات تشخيصيّة لتحديد نوع وكم الدواء المطلوب بشكل انتقائي للمرضى بناءً على خصائص الجينوم الخاصة بهم. وتُستخدَم أيضًا توجهات علم الوراثة الدوائي لتحديد المؤشرات الحيويّة والأهداف الخاصة بالأدوية المستخدمة؛ مما يساهم في تطوير صناعة الدواء. وفي هذا الإطار تحديدًا، يمهد علم الوراثة الدوائي الطريق للطب الشخصي والذي نستخدم فيه المعلومات الوراثية لتطوير طرق علاج مخصصة، كما ذكرنا في التعريف، والتي بدورها تساعد على تحديد الأفراد المستبعد استجابتهم للعلاج وأيضًا تحديد هؤلاء المرجح استجابتهم عكسيًا بظهور أعراض جانبية لنفس الدواء لديهم.

تطبيقات علم الوراثة الدوائي في علاجات السرطان

تختلف الأنسجة السرطانية بشكل كبير عبر النمط الظاهري أو عبر النمط الجيني. وهذا الاختلاف يحدث على المستوى النسيجي بين مرضى نفس نوع السرطان ومرحلته. على سبيل المثال، مرضى سرطان الثدي لا يستجيبون للعلاج الكيماوي بشكل منتظم وهذا يحدث نتيجة لاختلاف صفات أورامهن جينيًا. ولذلك، أصبح العلاج الفردي للكثير من الأورام الصلبة المختلفة واقعًا.

بعض علاجات السرطان المطورة بواسطة علم الوراثة الدوائي

أولًا: تراستوزماب (Trastuzumab)

هو أحد الأدوية المصنفة كأجسام مضادة وحيدة النسيلة (بالإنجليزيّة: Monoclonal antibody) وهو أحد أشهر أنواع أدوية سرطان الثدي. ويُعد اختبار الجينات للمريض ضروريًا قبل وصف هذا الدواء تحديدًا لأنه يستهدف مستقبلات (HER2) والتي تزيد وفرتها (عن طريق ظاهرة التعبير البروتيني) على سطح خلايا سرطان الثدي.  ولهذا، تحليل تغير تعبير المستقبل (HER2) على سطح الخلايا السرطانية يتنبأ بمدى استجابة المريض لهذا الدواء.

ثانيًا: إيرينوتيكان (Irinotecan)

دواء آخر يستخدم لعلاج سرطان القولون بأعراض جانبية مؤثرة مثل الإسهال والنقص الشديد في نوع محدد من خلايا الدم البيضاء وهي العدلات (بالإنجليزيّة: Neutrophiles). تأتي هذه الأعراض نتيجة لتراكم المادة المُنتَجة من تكسير الدواء في الجسم تحديدًا أي المرضى الذين لديهم خلل بالجين المصنع لإنزيم الهضم الخاص بالدواء وهو (UGT1A1). ولهذا فقد فضلت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية  (FDA) إضافة تحذير لمرضى هذا الخلل الجيني ووصفه بأحد العوامل الخطرة المؤدية لظهور هذه الأعراض.

تطبيقات علم الوراثة الدوائي في أمراض القلب والأوعية

في السنوات القليلة الماضية ركز العلماء على ضرورة البحث عن دور علم الوراثة الدوائي، وتحديدًا فيما يتعلق بأدوية سيولة الدم. وقد أسفر البحث عن الأمثلة التالية:

أولًا: وارفارين (Warfarin) وغيره من الأدوية الفموية المشتقة من الكومارين (Coumarinic oral anticoagulants)

يُستخدَم لاضطرابات الإنصمامات الخثرية (بالإنجليزيّة: Thromboembloic disorders) منذ ستون عامًا ولكنها من الأدوية ذات الجرعات المحدودة لخطورتها حيث أنه من الوارد أن تتسبب في رد فعل زائد مما يؤدي للنزيف. وجد الباحثون من خلال الأبحاث المتواصلة في العقد الماضي أن هناك تأثيرًا مباشرًا لكلًا من الجينين (CYP2C9) و(VKORC1) على كمية وتأثير الإنزيمات المضادة لهذه الأدوية في الجسم؛ ولذلك أي تغير طفيف في هذين الجينين يؤثر على كفاءة الجرعة المتناولة من قِبَل المريض. ولهذا، مثلهم كمثل إيرينوتيكان، أقرّت هيئة الغذاء والدواء الأمريكيّة على ضرورة ذكر أن هذين الجينين من أسباب تعديل الجرعات لتتناسب مع صحة المرضى.

ثانيًا: كلوبيدوجريل (Clopidogrel)

هو دواء غير نشط وينشط بداخل الجسم نتيجة للتفاعل مع إنزيمات الكبد ويستخدم لمنع تكون الجلطات ولكن عن طريق العمل كمضاد لتجمع الصفائح الدموية. يعتبر 25% من المرضى المستخدمين لهذا الدواء في عرضة لتكوّن الجلطات رغمًا عن استخدامه ويرجع ذلك ليس لكون الدواء غير فعال بل لاختلاف جينات أكباد المرضى مما يجعل عملية تنشيط الدواء متغيّرة بحسب تواجد الجين (CYP2C19). فإن كان صحيحًا سليمًا كانت عملية تنشيط الدواء فعالة وإن كان هناك تغير ما في هذا الجين فذلك سوف يؤدي إلى تنشيط قدر أقل من الدواء، كأن المريض لم يأخذ الجرعة كاملة من الأساس مما يتسبب في ضعف الكفاءة. لذلك أكدت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية على ضرورة توضيح دور النمط الجيني (CYP2C19) على الحركيّة والديناميكيّة الدوائيّة والذي بدوره سيؤثر على حالة المريض سريريًا.

التحديّات الحاليّة

تعد أبرز التحديات الحالية في مجال علم الوراثة الدوائي هي توفير قواعد بيانات أضخم وأشمل للجينوم البشري. بالإضافة إلى معالجة مشاكل ممارسة هذا العلم ودمجه مع ممارسة الطب الحديث. وأكبر العوائق التي تحيل بينه وبين تطبيقه في عمل المستشفيات حاليًا هو تعليم متخصصين الصحة والتأكد من الجدوى الاقتصادية لتطبيقه مع مراعاة خصوصية بيانات المرضى جينيًا.

تم إعداد وترجمة هذا المقال من مقتطفات من فصل بعنوان مقدمة في علم الوراثة الدوائي والطب الشخصي من كتاب PanVascular Medicine

ترجمة: أيمن النحراوي
مراجعة علميّة: مرثد محمد
تدقيق لغوي: رنا السعدني
تحرير: نسمة محمود

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي