على رأي المثل
إذا كنت رأيتني -وكما ستراني- أُكثر من ذِكر الأمثال، فلا تنسَ أنَّ ثقافة القرية في أمثالها، فالمَثَل هو أدب الشعب وعنوان ثقافته، والدليل على عقليّة الأمَّة الخام، وأخلاقها الأوّليّة، ونتيجة اختباراتها في الحياة. إنَّ الأمثال أحكامٌ محكمة الوضع في جملٍ وجيزة يعرفها القرويّ الأمِّي، كما يعرف المحامي المتضلِّع مواد الحقوق الأصليّة، فهو يحدّثك دائمًا بالأمثال، ولا بدع في ذلك؛ فالمثل هو الثقافة البشريّة الأصيلة. [1]
آراء أهل اللّغة في الأمثال
نجد الميدانيّ قد استهلّ كتابه «مجمع الأمثال» بعرض آراء بعض أهل اللّغة والأدب والكلام، إذ يذكر رأي المبرد قائلًا: «المثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يُشبّه به حال الثاني بالأوّل والأصل فيه التشبيه. فحقيقة المثل ما جُعل كالعلم للتشبيه بحال الأول، كقول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلًا
وما مواعيدها إلّا الأباطيل
فمواعيد عرقوب عَلَم لكل ما لا يصحّ من المواعيد
وينتقل الميدانيّ بعد ذلك إلى عرض رأي كل من إبراهيم النظام وابن المقفّع قائلًا: «وقال إبراهيم النظام: يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة. وقال ابن المقفّع: إذا جُعل الكلام مثلًا كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث». [2]
أما العسكري فيقول:
«ولمّا عَرفت العرب الأمثال تتصرّف في أكثر وجوه الكلام وتدخل في جُلِّ أساليب القول، أخرجوها في أقواها من الألفاظ، ليخفّ استعمالها، ويسهل تداولها، فهي من أجلِّ الكلام وأنبله وأشرفه وأفضله، لقلّة ألفاظها، وكثرة معانيها، ويسير مؤونتها على المتكلم من كثير عنايتها وجسيم عائداتها، ومن عجائبها أنّها مع إعجازها تعمل عمل الإطناب، ولها روعة إذا برزت أثناء الخطاب». [3]
ويشير الماورديّ إلى التأثير النفسيّ للأمثال قبل أن يعرض خصائصها فيقول: «وللأمثال من الكلام موقع في الأسماع، وتأثير في القلوب، لا يكاد الكلام المرسل يبلغ مبلغها، ولا يؤثّر تأثيرها، لأن المعاني بها لائحة، والشواهد بها واضحة، والنفوس بها وامقة، والقلوب بها واثقة، والعقول لها موافقة، فلذلك ضرب الله الأمثال في كتابه العزيز، وجعلها من دلائل رسله، وأوضح بها الحجّة على خلقه، لأنّها في العقول معقولة، وفي القلوب مقبولة، ولها أربعة شروط:
-أحدها: صحّة التشبيه.
-والثاني: أن يكون العلم بها سابقًا والكلّ عليها موافقًا.
-والثالث: أن يسرُع وصولها للفهم ويعجل تصوّرها في الوهم، من غير ارتياء في استخراجها، ولا كدّ في استنباطها.
-والرابع: أن تُناسب حال السامع لتكون أبلغ تأثيرًا وأحسن موقعًا؛ فإذا اجتمعت في الأمثال المضروبة هذه الشروط الأربعة، كانت زينة للكلام وجلاء للمعاني وتدبّرًا للأفهام». [4]
أصل المثل
قد تكون الأمثال مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها فتتّسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها، من غير تغيير يلحقها في لفظها، وتُضرب حتى وإن جُهلت أسبابها. [5]
فتجد العرب تضرب المثل في الحماقة بقولهم:
«أحمق من جُحا»
وهو رجلٌ من فزارة وكان يكنّى أبا الغصن فمن حمقه أنَّ عيسى الهاشمي مرّ به وهو يحفر بظهر الكوفة موضعًا، فقال له مالك يا أبا الغصن، قال إنّي قد دفنت في هذه الصحراء دراهم ولست أهتدي إلى مكانها، فقال عيسى كان يجب أن تجعل عليها علامة، قال قد فعلت، قال ماذا، قال سحابة في السماء كانت تُظلّها ولست أرى العلامة!
ومن حمقه أيضًا أنّ أبا مسلم صاحب الدولة لمّا ورد الكوفة قال لمن حوله أيّكم يعرف جحا فيدعوه إليّ، قال يقطين أنا، ودعاه فلمّا دخل ولم يكن في المجلس غير أبي مسلم ويقطين فقال يا يقطين أيّكما أبو مسلم؟
«ألا مَن يشتري سهرًا بنوم»
ويُضرب هذا المثل لمن غَمط النعمة وكره العافية، وقال هذا المثل رجل يُدعى ذا رعين الحميريّ، وكان ملك حمير حينها يُدعى حسّان، وكان قومه تفرّقوا عليه وخالفوا أمره لسوء سيرته فيهم، ومالوا إلى أخيه عمرو وحملوه على قتل أخيه حسّان، ورغّبوه في المُلك ووعدوه حسن الطاعة، فنهاه ذو رعين من بني حمير عن قتل أخيه، وعلم أنّه إن قتل أخاه ندم ونفر عنه النوم، وأنّه سيعاقِب الذي أشار عليه بذلك، فلمّا رأى ذو رعين أنّ عمرو لا يقبل ذلك منه وخشي العواقب قال بيتين من الشعر وكتبهما في صحيفة وختم عليها بختم وأودعها عند عمرو، فرفعها عمرو في خزانته حتى يَسأل عنها ذو رعين. فلمّا قَتَلَ أخاه، وجلس مكانه في الملك مُنع منه النوم وسُلّط عليه السهر، فلمّا اشتد عليه ذلك، جمع كل الأطبّاء والكهنة والمنجّمين والعرّافين ثم أخبرهم بقصّته وشكا لهم، فقالوا له ما قتل رجلٌ أخاه إلا أصابه السهر، ومُنع منه النوم، فلمّا قالوا له ذلك أقبل على كلّ من أشار عليه بقتل أخيه فقتله، فلمّا وصل إلى ذي رعين، قال له أيّها الملك إنَّ لي عندك براءة ممّا تريد أن تصنع بي، قال وما براءتك، قال الصحيفة التي استودعتك إيّاها يوم كذا وكذا، فأخرجها فإذا فيها:
ألا مَن يشتري سهرًا بنوم سعيدٌ من يبيت قرير عين
فأمّا حمير غدرت وخانت فمعذرة الإله لذي رعين
ثم قال له أيّها الملك قد نهيتك عن قتل أخيك وعلمت أنّك إن فعلت ذلك أصابك الذي قد أصابك، فكتبت هذين البيتين براءة لي عندك، فقبل ذلك منه وعفا عنه وأحسن جائزته. [2]
شيءٌ من أمثال العرب
– «مَن استرعى الذئب ظلم» ويُضرب لمن ولّى غير الأمين.
– «خرقاء وجدت صوفًا» ويُضرب للسفيه الذي يقع في يده مالٌ فيعبث فيه.
– «سكت ألفًا ونطق خلْفًا» أي سكت عن ألف كلمة ونطق بواحدةٍ رديئة. [5]
– «البغل نَغْل وهو لذلك أهل» ويُضرب لمن لَؤُمَ أصله فخَبُث فِعلُه؛ والنّغل هو فاسد النسب.
– «تشتهي وتشتكي» أي تحب أن تأخذ وتكره أن يؤخذ منك.
– «جوّع كلبك يتبعك» يُضرب في معاشرة اللئام وما ينبغي أن يُعاملوا به.
– «صاحت عصافير بطنه» قال الأصمعيّ العصافير هي الأمعاء، ويُضرب للجائع.
– «إنَّ غدًا لناظره قريب» أي لمنتظره.
– «أعلم من أين تُؤكل الكتف» زعم الأصمعيّ أنَّ العرب تقوله إلى ضعيف الرأي الذي لا يحسن أكل لحم الكتف.
– «إن يكن الشغل مَجهدة، فإن الفراغ مفسدة».
– «إنَّ الجواد قد يعثر».
– «أجدى من الغيث في أوانه».
– «إن صدأ الرأي، صقلته المشورة».
– «بالرفاء والبنين». [2]
إرث الأمثال العربيّة
قد يظن البعض أن الأمثال اندثرت وانتهى دورها بظهور وسائل الإعلام والتواصل الحديثة، ولكنها لا تكفّ عن التطور مثلها مثل كل شيء، والناظر في حال الناس يرى أن قدرتهم على اختزال أحوالهم المعيشيّة من خلال الأمثال العاميّة ما زالت مستمرة. فالناظر للكتابات التي تمتلئ بها وسائل المواصلات العامة مثلًا، القديم منها والحديث، يلاحظ استمرار تلك العادة. [6]
ولنستعرض معًا القليل من الأمثال العاميّة:
– «سكتنا له، دخل بحماره» ويُضرب لمن يُطمعه اللين فيتعدّى طوره.
– «كلب سايب ولا سَبْع مربوط» وذلك لأن الأسد المربوط مأسور، فالمراد أنَّ الكلب المطلق أفضل منه أو أنفع.
– «شعيرنا ولا قمح غيرنا» ويُضرب لتفضيل المملوك على ما بأيدي الناس وإن فضّله.
– «زيّ السمن والعسل» يُضرب للمتّحدين في صفاء. [7]
المَثَلُ هو رفيق الشعوب عبر العصور، وستظلّ هذه الأمثال حيَّة خالدة، إذا مات منها واحد قام عشرات، وهي تتغيّر وتتبدّل بتبدّل أساليب العيش، وتتطوّر بتطوُّر الحياة، ولا تُحرم الإنسانية عقولًا ثاقبة تُرسل الأمثال وتضربها عند كل مناسبة.
وبهذا التبدُّل فهي تحافظ على بقائها؛ لأنّها تنبع من جميع طبقات الشعب، ولذلك يراها البعض ملائمة لعقليّة الشعوب أكثر من الشعر، بل هي أصدق منه. أمَّا هذا التناقض الذي نراه فيها، فهو طبيعيٌّ جدًّا؛ لأن المَثل يُماشي الحياة التي لا تسير على نمطٍ واحد، وفي سياقٍ واحد. [1]