عندما تفنى الروح ويبقى الجسد خالدًا

Lacks_Still

|عندما تفنى الروح ويبقى الجسد خالدًا|عندما تفنى الروح ويبقى الجسد خالدًا|عندما تفنى الروح ويبقى الجسد خالدًا

الأبيض والأسود ما هما إلا لونان، ولكن عبر العصور المختلفة أضاف الإنسان لهما العديد من الصفات والدلالات. فأصبح الأبيض مثالًا لما هو جيد ومرغوب، وأصبح الأسود مثالًا لما هو سيء ومذموم. نجد في كتابنا «الحياة الخالدة لهنريتا لاكس- The Immortal Life Of Henrietta Lacks» قصة عن امرأة إفريقية والإرث الذي تركته لعائلتها، والذي غير الطب للأبد وكان بمثابة معجزة في زمن لم يهتم بمعاناة لونها إلا قليلًا.

لعدة سنوات قبل العام 1951 حاول العلماء استنبات الخلايا الآدمية في المعمل، حتى يستطيعون دراستها، ويكونوا فكرة عن كيفية تطور الأمراض، وحتى يتمكنوا من اختبار الأدوية الجديدة بدون تعريض المريض للخطر. يحتاج العلماء إلى عدد مهول من الخلايا المتطابقة تستطيع تكرار نفسها لسنين طويلة، حتى يستطيعون إعادة التجارب مرارًا وتكرارًا، ويقارنون نتائجهم بنتائج علماء آخرون. باءت كل المحاولات بالفشل، كل الخلايا التي حاول العلماء زراعتها تموت بعد عدة أيام، ولكن كل ذلك تغير يوم 29 يناير 1951.

 

29 يناير 1951

(هنريتا لاكس-Henrietta Lacks)، امرأة من أصول إفريقية. توجهت في التاسع والعشرين إلى (مستشفى جونز هوبكنز-Johns Hopkins Hospital) بعد أن لاحظت إنها تعاني من نزيف متكرر. تقابل حينها الدكتور جونز، عند فحصها وجد الدكتور جونز كتلة في عنق الرحم، وقد شك في أنها تعاني من سرطان عنق الرحم، فأخذ عينة من الورم ليرسلها للفحص. وقد كان الدكتور جونز قد رأى العديد من الأورام المختلفة، ولكن هذا الورم اختلف كثيرًا عما رآه من قبل، فهو بنفسجي لامع يشبه جيلي العنب، ورقيق للغاية لدرجة أنه ينزف مع أقل احتكاك.

 

5 فبراير 1951

أثبتت نتائج الفحص شكوك الطبيب، فقد كانت النتيجة أن الورم خبيث وسرطاني. وقد عادت هنريتا للمستشفى في اليوم التالي للحصول على العلاج، والذي كان في ذلك الوقت بخياطة أنابيب الراديوم حول الورم لمنع انتشاره. أثناء عملية وضع الراديوم أخذ الطبيب عينة من الورم بدون إخبار هنريتا أو طلب موافقتها، وقد أرسل هذه العينة إلى الطبيب (جورج جاي- George Gey).

 

6 فبراير 1951

لعدة سنوات ظل دكتور جورج يحاول استنبات خلايا آدمية خارج جسم الإنسان، مؤمنًا بأن ذلك سيساعده فيما بعد في التغلب على مرض السرطان. وقد أعلن دكتور جورج في السادس من فبراير أنه استطاع استنبات أول سلالة من الخلايا الآدمية الخالدة من عينة الورم المأخوذة من هنريتا.

 

4 أكتوبر 1951

تموت هنريتا بعد أن انتشر السرطان في أنحاء جسدها. وفي نفس اليوم، يظهر دكتور جورج في برنامج تليفزيوني حاملًا وعاء به الخلايا، ويعلن عما توصل إليه قائلًا: أن هذه الخلايا، (خلايا هيلا- HeLa Cells) ستساعد في فهم السرطان وعلاجه. شارك الدكتور جورج الخلايا مع العديد من العلماء، وقد كانت هذه أول خلايا تُرسَل عن طريق مكتب البريد. وقد استخدمت هذه الخلايا بطرق غير أخلاقية لكسب الثروات بدون علم أي فرد من العائلة، أو الحصول على إذن منهم، مما وضع الأطباء في مشكلة حرجة، ولكن طبقًا للقانون حين ذاك، الطبيب ليس ملزم بطلب الإذن إذا ظل مصدر العينة مجهول بدون اسم، وبناءً على ذلك طُلب من دكتور جورج إخفاء هوية المريضة خوفًا من التعرض للمساءلة. عند سؤال دكتور جورج عن اسم الخلايا ومصدرها قال إنها سميت هيلا بأخذ الحروف المبدئية من اسم المريضة، وأن المريضة تُدعى (هيلين لاين-Helen Lane).

 

1953

استخدم العلماء هيلا لأول مرة في إنتاج لقاح لعلاج شلل الأطفال في العام 1953. ومن بعد ذلك استخدمت هيلا في العديد من الدراسات، فقد أصبحت أول خلايا آدمية يتم استنساخها، وهي أول خلايا يتم إرسالها للفضاء لدراسة التغييرات التي قد تحدث للخلايا أثناء انعدام الجاذبية (zero gravity). وقد استخدمت في دراسة العديد من الأمراض: كالحصبة، والإيدز، والإيبولا، وبفضل خلايا هيلا نعلم أن خلايا الإنسان تحتوي على 46 كروموسوم، حيث توصل العلماء أثناء دراسة هيلا إلى اكتشاف مادة كيميائية تجعل الكروموسومات مرئية.

 

1971

توفى الدكتور جورج بعد إصابته بالسرطان. وبعد وفاته، يتم نشر اسم المريضة الحقيقي لأول مرة ويتم التعرف عليها كالمصدر الأساسي لخلايا هيلا. تسمع عائلة هنريتا عن خلايا هيلا للمرة الأولى في عام 1973.

عندما تفنى الروح ويبقى الجسد خالدًا
هنريتا لاكس وزوجها

تخبرنا الصحفية (ريبيكا سكلووت -Rebecca Skloot) في مقدمة كتابها «الحياة الخالدة لهنريتا لاكس- The Immortal Life Of Henrietta Lacks» عن الأسباب التي دفعتها للاهتمام بهنريتا والكتابة عن حياتها وإرثها، وعن أول مرة سَمَعت فيها عن خلايا هيلا. بدأ الأمر في الجامعة عندما كانت في صف البيولوجيا وكان معلمها يتحدث عن دورة إنتاج خلايا الإنسان وكيفية عملها. وأخبرهم أيضًا أن مجرد حدوث خطأ طفيف في انقسام الخلايا قد يؤدي إلى نمو الخلايا بدون توقف. يتطلب الأمر إطلاق إنزيم خاطئ أو إطلاق بروتين خاطئ لإصابتك بالسرطان. وقد قال أيضًا: أننا تعلمنا كل ذلك من دراسة الخلايا السرطانية في مستنبتات الأنسجة، وقد كتب على السبورة بخط كبير HENRIETTA LACKS، قائلًا أنها ماتت في 1951، نتيجة حالة متقدمة من سرطان عنق الرحم، ولكن قبل أن تموت أخذ أحد الأطباء عينة من الورم. وقد أستطاع الأطباء استنبات جيل كامل منها في أقل من 24 ساعة، ولم تتوقف الخلايا أبدًا عن النمو. خلايا هنريتا عاشت خارج جسدها أكثر من وجودها بجسدها، وقد أعلن بعد ذلك انتهاء الصف. استغربت ريبيكا أن هذا فقط ما قاله عن هنريتا، وقد سألته بعد المحاضرة: أين كانت تعيش هنريتا؟ هل عَلِمَت كم كانت خلاياها مهمة؟ هل كان لديها أي أطفال؟ وقد أجابها قائلًا: لا أحد يعرف عنها أي شيء. بحثت ريبيكا في العديد من الموسوعات والكتب عن مستنبتات الخلايا، كل ما وجدته هو أمثلة عن إحدى السلالات الخالدة هو خلايا هيلا التي تعود إلى امرأة تدعى هنريتا لاكس، وقد كان ذلك كل ما ذُكر. استطاعت ريبيكا فيما بعد إيجاد بعض المجلات التي تتحدث عن هنريتا وعائلتها، وقد قال زوجها في أحد المجلات: كل ما أتذكره هو أنها عانت من مرض ما، وبعد موتها اتصلت المستشفى بي ليطلبوا إذني ليأخذوا منها عينة ما، وقد قررت ألا أسمح لهم بذلك. وقد ذُكِر في مجلة أخرى أن العائلة غاضبة لأن خلايا والدتهم تباع مقابل 25 دولار للزجاجة. وأن العديد من المقالات تتحدث عنها وتنشر سجلاتها الطبية بدون معرفتهم. تشير ريبيكا أيضًا أن المجلات كانت مليئة بالصور لأفراد العائلة، ولكن واحدة من هذه الصور هي أكثر ما أثار انتباهها حيث تبدو فيها ديبورا لاكس كأنها أُجبِرت على التواجد في الصورة. ولاحظت أيضًا أن العديد من المقالات نشرت اقتباسات عن أفراد العائلة ورأيهم فيما يحدث، ولكن هناك شخص واحد من العائلة دائمًا بلا صوت وهي ديبورا.

 

عندما تفنى الروح ويبقى الجسد خالدًا
عائلة لاكس

قررت ريبيكا التواصل مع ديبورا لأجل كتابها. تذكر ريبيكا في المقدمة أنها رأت في ديبورا أقوى امرأة عرفتها يومًا. وتشير أيضًا إلى الاختلاف الشديد بينهم في المعتقدات، فريبيكا امرأة عِلم، بينما عائلة ديبورا تهتم أكثر بالوعظ الديني وأحيانًا ممارسة الفودو (نوع من السحر). وقد آمنت ديبورا بأن روح أمها موجودة في هذه الخلايا، وأنها ستسيطر على كل من تقاطعت طرقه معها ومنهم ريبيكا، وقد انطبق هذا التفكير على جميع جوانب حياة ريبيكا، عندما تزوجت ريبيكا أثناء إعداد كتابها كان ذلك لأن هنريتا أرادت أن يعتني بها شخص ما أثناء عملها، وعندما تطلقت كان ذلك لأن هنريتا رأت إنه يعيق طريقها، وعندما طلب مني أحد الناشرين أن أُزيل المعلومات عن عائلة لاكس من الكتاب، ثم أصيب في حادث غريب، قالت ديبورا أن ذلك ما يحدث عندما تغضب هنريتا.

تطورت العلاقة بين ريبيكا وديبورا، فقد أصبحتا جزءًا من حياة بعضهما البعض وأصبحتا صديقتين مقربتين. أسمت ريبيكا الفصل الأول في الكتاب صوت ديبورا وقد خُصص لوضع رأيها فيما عرفت عن أمها. تقول ديبورا أنها عندما تذهب إلى طبيب لتحصل على الفحوصات الدورية، تخبره أن أمها هي هيلا، ودائمًا يتحمس الأطباء ويخبرونها عن كل ما شاركت هذه الخلايا في اكتشافه وعلاجه، ولكن تستغرب ديبورا من شيء أخر ألا وهو كيف يمكن أن يرجع الفضل لأمها في كل تلك الاكتشافات، ومع ذلك لا يستطيع أطفالها تحمل تكلفة الذهاب للطبيب؟

وقت صدور هذا الكتاب كانت الزجاجة الواحدة تباع مقابل 256 دولار، واليوم وصل سعرها إلى 535 دولار.

أسست ريبيكا في 2010 مؤسسة هنريتا لاكس، تخليدًا لذكراها، ولتساعد كل من تمت عليهم فحوصات طبية بدون إعلامهم وعلى الأخص الأقليات العرقية وعائلاتهم.

عندما تفنى الروح ويبقى الجسد خالدًا
غلاف الكتاب

كان هذا الكتاب أول كتاب لريبيكا وقد نُشر في 2010، وقد كان واحد من أفضل الكتب مبيعًا في ذلك العام. ظل الكتاب على لائحة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعًا لستة سنوات، وقد وصل في النهاية إلى المرتبة الأولى.

أطلقت HBO فيلمًا في العام 2016 استنادًا على الكتاب. تلعب فيه (أوبرا وينفري- Oprah Winfrey) دور ديبورا لاكس، وتلعب (رينيه إليز جولدسبري-Renée Elise Goldsberry) دور هنريتا لاكس.

 

إعداد وترجمة: سلمى عياد
مُراجعة: آلاء محمد
المصادر:

  1. Skloot, Rebecca. The Immortal Life Of Henrietta Lacks. New York : Crown Publishers, 2010. Print.
  2. https://www.mybiosource.com/prods/Cell-Line/HeLa-GFP/datasheet.php?products_id=168642
  3. https://www.hopkinsmedicine.org/henriettalacks/index.html
  4. https://www.youtube.com/watch?v=22lGbAVWhro

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي