هل اعتقدت سلفًا أن الميكروبات يقتصر تأثيرها على الكائنات الحية فحسب؟ إن فعلت، ففكر مرةً أخرى!
منذ مئات السنين، ومنذ عاين (أنطونيوس فان ليفنوك – van Leeuwenhoek) أول بكتيريا تحت عدسة الميكروسكوب، ونحن البشر لم يسترع انتباهنا سوى تأثير هذه الكائنات علينا. لحسن الحظ، بدأ العلماء مؤخرًا في دراسة تأثير الميكروبات ولكن هذه المرة على البيئة المحيطة لها، ومن المنصف أن نقول أنه، حسنًا، إنها ليست بهذا السوء، فإنها منذ تواجدت على هذا الكوكب من 3.5 بليون عام، ساعدت كثيرًا في تشكيل ونحت سطحه. إنها تُفتِّت الصخور، وتساعد في ترسيب المعادن، وتكوِّن مُركَّبَّاتٍ ثانويةٍ تتراوح من السيالات الكهربية وحتى غاز الميثان. من المدهش كيف لها القيام بكل ذلك! حتى في أكثر البيئات غير الملائمة لحياتها، بل وخارج أجسام العائل!
تقول (جينيفر روبرتس روجرز – Jennifer Roberts Rogers) من جامعة كانساس: «لولا الأمراض التي سببتها لنا، لتجاهلنا كل هذه الأعداد الضخمة من البكتيريا، لكن توجد هناك كتلةٌ حيويةٌ ضخمة من البكتيريا تقع تحت أقدامنا على هذه الصخور». تُظهر الأبحاث أن العدد الكلي من البكتيريا و (الأثريات – Archaea) على مساحةٍ تمتد من سطح الأرض وحتى عمق (4000) متر يُقدَّر بعدد (3.8*10^30) خلية -في مقارنةٍ بسيطةٍ، يبلغ تعداد البكتيريا في جسم الإنسان (10^15 )خلية-. تُضيف (جينيفر): «حتى لو سِرت على أطراف أصابعك، فالبكتيريا محيطةٌ بك في كلِّ مكان»، وتختتم كلامها بأنه في الدورات الجيولوجية «البكتيريا موجودة في كل مكان بشكلٍ مُباشرٍ أو غير مُباشر» .
بالحديث عن أكثر الميكروبات النشطة جيولوجيًّا، سيدهشنا منهم من يستطيع العيش بدون استهلاك الأكسجين، وبدون القيام بعملية البناء الضوئي! أوَّل أمثلة تمت دراستها بعناية تواجدت في بيئاتٍ قاسيةٍ مثل الينابيع الحارة لمنطقة (يلوستون-Yellowstone)، و(المُدخِّنَات السوداء – black smokers) على امتداد تعرجات حواف منتصف المحيط (Mid-Ocean Ridges)، وهي: تشكيلات تحتوي على ماءٍ بدرجة حرارة (80) سلزيوس وتلالٍ من الكبريت. هذا ما يُسمَّى أيضًا (أليف (مُحب) الظروف القاسية – extremophiles) والتي لاقت شُهرةً واسعةً في التسعينات، لاعتمادها على درجاتِ الحرارة العالية والكبريت لتعيش، وقد أهدتنا هذه الكائنات بفضل الاكتشافات التي دارت حولها اقتراحاتٍ جديدة حول كيفية بزوغ الحياة على سطح هذه الأرض.
كهوف الكبريت:
(ليبي ستيرن – Libby Stern) الجيوكيميائية من جامعة (تكساس،أوستين) وزميل العمل (فيليب بينيت – Phillip Bennett)، يدرسان البيئة الكبريتية في كهفٍ قريبٍ من (لوفيل، ويو – Lovell, Wyo). تُخبرنا (ستيرن) أن بيئة هذا الكهف مُشابهة للبيئات ذات الثقوب المائية الموجودة في حواف المحيط. تُضيف (ستيرن): «هذا الكهف لا تصله أشعة الشمس، البيئة هنا كيميائية التهوية، لا يحدث هنا بناءٌ ضوئي، لقد انحدرت الحياة هنا من المواد الكيميائية التي تشبَّعت بها الصخور، والمياه الجوفية القابعة تحتها».
تقول (أنيت سومرز أنجيل – Annette Summers Engel) طالبة الدراسات العليا المُوصى عليها من (ستيرن): «تزدهر تنوعات من الميكروبات في الكهوف المظلمة»، لقد صَنّفََت (أنيت) حوالي ست أو سبع مجموعات من الميكروبات وفقًا لنشاطها الأيضي، وتقول: «عند مرور تيار الماء الغني بالكبريت عبر مركز الكهف، تُصبح الظروف في الكهف لا هوائية، وبالتالي فإن الكائنات الحية الدقيقة هي اللا هوائيات»، تُضيف أيضًا «في بضعة أمتارٍ تتراوح بين 10 أو 15 مترًا، تنمو بعض الميكروبات الهوائية على السطح، وهذه الميكروبات السطحية هي الأكثر تعقيدًا». في حدود ملعقة صغيرة، لاحظت (آنجيل) أن كميات الأكسجين تختلف أفقيًا وكذلك طوليًا. أمَّا في حدود مليمترين، لاحظت (آنجيل) طبقاتٍ مُختلفة من المجتمعات الميكروبية.
تقول (ستيرن) أن نِسَب الكربون الموجودة في الكهوف الميكروبية تُظهر اختلافًا كبيرًا عن تلك المعتمدة على البناء الضوئي. لا بد أن هذا الاختلاف يؤدِّي إلى تباين طرق تثبيت ثاني أكسيد الكربون التي تستخدمها هاتان المجموعتان من الكائانات كيميائية التغذية. تضيف :«المادة العضوية الناتجة قد تكون نتاجًا لعملياتٍ حيويةٍ في الأنسجة» هذه المؤشرات الحيوية قد تكون دليلًا يساعد الجيولوجيين ليستنتجوا ما نوع الحيوات التي تواجدت في الصخر إبان ترسيبه، والظروف البيئية حينها.
لغز الدولوميت:
الدولوميت: اختفى المعدن في عدة أماكن تتوقع وجوده فيها، ويشمل ذلك أيضًا مياه البحر. وتوقَّع العلماء في (1995) أن للبكتيريا المتغذية على الكبريت يد في تخليق الدولوميت في ظروفٍ مناخية تفتقر للأكسجين، وغنية بالأملاح.
علم الأحياء المجهرية أزاح لنا الستار عن واحدٍ من الأسرارِ الجيولوجية حتى الآن. أولًا، لنسرد معطياتنا: الدولوميت معدنٌ ليِّن، أبيض، زجاجي، يتألف من الكالسيوم والماغنيسيوم والكروبانات على هيئة بلورات. وبوضع كل ذلك في الحسبان، كان من المفترض أن نجد العالم يكتسي بطبقاتٍ مُترسِّبة من الدولوميت. يمكننا أن نجد رواسبَ ضخمة على هيئة صخورٍ رُسوبية من الدولوميت في الغرب الأوسط الأمريكي، وأجزاءٍ من أوروبا والمكسيك. المدهش هو أنه في أكثر البيئات التي تحتوي بإفراطٍ على المكونات المطلوبة، لن تجد هذا المعدن المُحيِّر!
إذًا، كيف يحدث ذلك؟ يقول (روجرز): «يظهر الدولوميت في سجل الصخور في كلِّ مكان، ولكن نادرًا ما يمكننا العثور عليه في البيئاتِ الحديثةِ ذات درجات الحرارة المنخفضة»، ويُضيف:«حسنًا، هناك بعض البيئات الخاصة جدًّا وبيئات مالحة يتوافر فيها الدولوميت» مثل (ريو دي جانيرو)، ولكن مازال من الصعب العثور على مكانٍ يستمر فيه تكوين الدولوميت حتى الآن بنفس المُعدلات التي تكونت فيها الرواسب الكبيرة منه في الماضي.
في عام (1995)، بدأ (كريسوغونو فاسكونسيلوس – Crisogono Vasconcelos) من المعهد السويسري الجيولوجي الوسطي (إيث – ETH) وزملاء العمل بحلِّ لُغز توقف ترسيب الدولوميت. ونشروا ورقةً واعدةً في علم الطبيعة وَثَّقَت تعاملهم مع الأشكال المعدنية في المختبر. العنصر السحري لحل لغز الدولوميت؟ الميكروبات!
أظهرت الأوراق اللاحقة من قِبَل نفس المجموعة وجودَ صلةٍ بين البيكتيريا المُتغذية على الكبريت وبين تخليق الدولوميت في بيئةٍ تفتقر الأكسجين، ومترفة بوجود الأملاح.
وتقترح (جوديث ماكنزي – Judith McKenzie)، وهي واحدةٌ من زملاء ( فاسكونسيلوس): أن الدولوميت ينبغي اعتباره معدن حيوي، وبالتالي فهو غيرَ عضويٍّ تمامًا. وقال (روجرز): «إن الفكرة في كيفية ترسيب الدولوميت في زمنه الجيولوجي منذ ملايين السنين». «إذا كان دائمًا كان يرسب بهذه الطريقة، ربما كان هناك المزيد من البكتيريا في جميع الأنحاء للقيام بهذا العمل، أو أنه قد تغيرت الأمور بما فيه الكفاية. إن هطول الأمطار الدولوميتة يحدث في الواقع بشكلٍ مُختلف في درجة الحرارة المنخفضة في العصر الحديث مِمَّا كانت عليه في الأوقات الجيولوجية القديمة إبَّان ترسيب الصخر».
من حشرات على الأرض، إلى العيش في الفضاء:
ولا يزال هناك الكثير مما يُمكن تعلمه عن الميكروبات النشطة جيولوجيًّا. في مختبر (ديان نيومانز – Dianne Newmans) في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، يعمل العلماء على تحديد الكيفية التي يُمكن للميكروبات أن تعيش فيها على المعادن غير العضوية. على سبيلِ المثال، جمع الإلكترونات من الحديد في معدن (الجيوثيت – goethite). وفي الوقت الحالي، يقول (نيومان): «لا نعرف سوى القليلِ جدًّا عن الإنزيمات التي يستخدمونها للقيام بذلك، وأقل كثيرًا عن الجينات التي يُشفِّرون بها تلك الإنزيمات». كما أن النشاط الميكروبي قد يؤثر أيضًا على أجواءنا وبحارنا. «يمكنك الذهاب من أسفل قاع المحيط إلى الغلاف الجوي الخارجي ومحاولة معرفة ما إذا كانت الغازات التي تؤثر على الاحترار العالمي تأتي من علم الأحياء الدقيقة».
وفي هذا الاجتماع الذي عقده في كانون الأول / ديسمبر الماضي (الاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي – AGU)، تَحدَّث عالم البحار (جون ديلاني – John Delaney) من جامعة واشنطن في سياتل -وهو مساهم رئيسي في بحوث البيئة المائية الحرارية- عن «التحولات المفاهيمية» فيما يتعلق بالمجالات البيولوجية الميكروبية. وقال: «في 11 حالة من 11 حالة، وُجِدَ أن البراكين تحت الماء لديها انصبابٌ هائل من المواد الحيوية». وعن الإنزيمات التي تسمح لهذه الكائنات المتطرفة البقاء على قيد الحياة في مثل هذه الظروف، قال:«يمكن أن يكون لها تأثيرٌ عميق على الأدوية والعمليات الصناعية». ويُشير (ديلاني) -الذي يتخصص الآن في علم الأحياء الفلكية- إلى أن تكتونات الصفائح تُعدِّل المحيط الحيوي الميكروبي البحري بطُرقٍ لا نفهمها حتى الآن! حتى أنه قد تحتوي محيطاتنا على أمثلةٍ لما تبدو عليه الحياة في أماكن أخرى من الكون!
وتقول (روجرز) أن (البصمات البيولوجية – biological imprints) في سجل الصخور ستسمح للجيولوجيين بتحديد العناصر الغذائية المتاحة، وفهم دورة الكربون العالمية و(التحورات- diagenesis) وهي: مدى سرعة الصخور الجديدة التي يتم إنتاجها من الصخور القديمة، ليس فقط على هذا الكوكب ولكن على كواكب أخرى. وتقول: «قد نكون قادرين على العثور على آثارٍ للحياة باستخدام البازلت كبديل، لأن الميكروبات قد تكون جوهرية لدورة التجوية على الأرض» . تركز (روجرز) أبحاثها على البكتيريا في التربة، أو التي يمكن استخدامها في العلاجات البيولوجية. ووجدت أن بعض البق قد حلل المركبات العضوية من تسرب النفط بسرعة أكبر في وجود المعادن غير العضوية. «عندما تصل إلى درجات الحرارة المنخفضة أو درجات الحرارة البيئية، وليس حرارة تنفيس أعماق البحار، ولكن الظروف العادية» كما تقول، «أعتقد أن البكتيريا يمكن أن تكون آلية مهيمنة للتجوية وانهيار الصخور، لأنها قادرة على إدهاشنا والتغلب على الحواجز الحركية».
وقال تقريرٌ صدر هذا الشهر من قِبَل الجمعية الأمريكية لعلم الأحياء الدقيقة عن «العلاقة بين الغلاف الحيوي والغلاف الأرضي»: أن هذه الكائنات الصغيرة قد «تؤثر على الكوكب بأكمله».
لا يزال هذا المجال الشيِّق فاتحًا الباب على مصراعيه لاكتشاف حلولٍ عملية للكوارث البيئية أو ربما، إلى أجوِّبةٍ عن أصول الحياة. كما يقول (ديلاني): «لا نستطيع حتى تقدير حجم مايبقى لنا لاكتشافه».
ترجمة: أمنية يوسف فرج يوسف
المصدر:
https://www.scientificamerican.com/article/where-biosphere-meets-geo/