تَصِفُ الكاتبة سو شيلينبارجر – Sue Shellenbarger، في مقال كتبته في صحيفة The Wall Street Journal، الإحباطَ والإجهاد الذي يعترينا عند محاولة فك شيفرة رسالة بريد إلكتروني من مُدير عملك. وفي الكلمات التالية توضح تفاصيل حوار ما حصل بين موظف ومديره:
شعرت جيل كامبين بالحيرة والغضب حينما وصلها رد على رسالة إلكترونية كانت قد بعثتها إلى مديرها في العمل مارتي فنكل. كانت الرسالة تطلب موافقة مديرها على برنامج تدريب للعملاء أعدته جيل كامبين، وكان رد السيد فنكل غامضًا ويحمل عدة أوجه: “انتهى!”
شعرت السيدة كامبين بالغضب لأنها لم تفهم مقصد الرسالة الغامضة، فوجدت أنَّ حل هذه المسألة عبر الإيميل غير مُجدٍ، واتّصلت به فورًا لتفهم ما يقصده.
يخبرنا ألبرت ميهرابيان – Albert Mehrabian في كتابه Silent Messages أنَّ 93% من الرسائل والإيحاءات غير المنطوقة تكون مفقودة في الرسائل النصيّة المكتوبة. وبالتالي، فإنَّ المصداقية في التعبير والمعنى المقصود لا تتجاوز 7%. إن كانت هذه النسبة دقيقة، فإنَّنا معرضون لسوء فهم الكثير من الرسائل بنسبة مرتفعة جدًا. ومما يضاعف هذه المشكلة العددُ الهائل من الرسائل الإلكترونية التي نتلقاها سنويًّا، فضمن دراسة قامت بها شركة Radicati Group للأبحاث التكنولوجية في عام 2017:
يصل إجمالي الرسائل المُرسلة والمُستلمة بين العمل والزبائن يوميًا إلى 269 مليار، ومن المتوقع أن يستمر هذا المعدل في النمو بمعدل سنوي متوسط يصل إلى 4.4% خلال السنوات الأربع القادمة، ليصل إلى 319.6 مليار بحلول نهاية عام 2021.
عدد الرسائل النصية التي تجري بين الناس ضمن وسائل التواصل المختلفة أعلى من الرسائل التي تكون ضمن العمل، حيث يبلغ إجمالي الرسائل المُرسلة حسب شركة الإحصاءات AT&T 931.5 مليار، وفقًا لـ Internet Live Stats:
متوسط التغريدات في كل ثانية على تويتر يبلغ 6000 تغريدة، وبالتالي تصل إلى 350.000 تغريدة في الدقيقة، و500 مليون تغريدة في اليوم الواحد، وحوالي 200 مليار تغريدة في السنة.
مع تزايد عدد الأشخاص الذين يقرؤون هذه البيانات أثناء التنقل، وعلى الأجهزة الذكية المحمولة باليد، فإنَّ سوء الفهم لا مفر منه. كيف يمكننا أن نكون متأكدين من أنَّنا نفهم ذلك عند التواصل إلكترونيًّا؟
التواصل الفعَّال يتطلب ما هو أكثر من مجرد كلمات. تخضع اللغة لمعالجات سياقية وبيئية، على سبيل المثال:
نغمة الصوت والإيماءات وتعبيرات الوجه. في تواصلنا الإلكتروني نفتقد لهذه السياقات والإيماءات التي تساعد في إيصال المشاعر والمعنى المقصود بشكل أكثر دقة، ولأن الحاجة أُم الابتكار، صنعت الشركات ومستخدمو الإنترنت أساليب جديدة تعطي النص روحًا تجعله أكثر فَهمًا وتعبيرًا، أحد هذه الأساليب تتمثل في استخدام الرموز والاختصارات. أن يتم تمثيل المشاعر وتضمينها ضمن رمزٍ ما يساعد الناس على إيصال ما يُناضلوا من أجل إيصاله بصعوبة خلال الكلمات المكتوبة الجامدة، وبالتالي، فإنَّ المعنى الكامن داخل الرمز يؤسس لسياق يساعد على فهم الكلام، بل يساعد أيضًا في نقل المشاعر وإظهارها، تلك المشاعر التي نعاني كثيرًا في التعبير عنها.
يُعرّف لودفيغ فتجنشتاين اللغة في كتابه المنشور بعد وفاته تحقيقات فلسفيّة – Philosophical Investigations بأنَّها نشاط ضمن قواعد وسياقات توجِّه هذا النشاط، فالقواعد النحوية قد تحدد إذا ما كنا نستخدم اللغة بشكل صحيح أم لا، ولأننا نستخدم اللغة في مجتمع، فإنَّها تخضع كذلك لقواعد غير لغوية مثل الأعراف والعادات والتقاليد وغيرها. تحدث اللغة عند فتجنشتاين هو جزء من نشاط مُعقَّد، فنحن ضمن بيئتنا مُلزمون بممارسات لغوية وغير لغوية متشابكة ومتداخلة، فنحن نمارس اللغة ضمن سياق ثقافي معين. في الكلمة المكتوبة نفتقد لنبرة الصوت وتعبير الوجه وغيرها من الأدوات اللغوية وغير اللغوية المساعدة في الفهم وبالتالي فإنَّه من الصعب فهم تلك الكلمات الجامدة بصورة واضحة. في محادثاتنا على الإنترنت نخضع لسياق يسلب منا هذه الأدوات التي تساعدنا على فهم وتمييز المعنى. ونطرح هنا سؤالًا، ما الذي يمكننا فعله من دون هذه الأدوات المُميزة للمعنى على الإنترنت؟
تدعو بعض وجهات النظر إلى التخلي الكامل عن التكنولوجيا، لأنها مناخ يشجع ويعزز اللغة غير المجدية، السريعة، والسطحية. ويرون أنَّ الجمل المختصرة التي نستخدمها ضمن مراسلاتنا التكنولوجية تؤدي إلى تقليل الثراء والتنوع اللغوي الموجود في اللغة؛ فمن أجل الحفاظ على لغتنا وثرائها يجب علينا التخلص من هذه الأجهزة من حياتنا.
وفقًا لوجهة النظر السابقة فإنَّ التخلص من التكنولوجيا يحمي اللغة، ولكنه ببساطة هذا الأمر غير واقعي تمامًا. وجود الأجهزة الحديثة يجعل حياتنا أسهل، ويعتاد الناس ذلك الأمر وبالتالي من الصعب إقناعهم ترك هذه الأجهزة ومواصلة حياتهم بدونها. التركيز على الأجهزة ليس في محله، ولكن يجب التركيز والاهتمام بالمحتوى الذي يتدفق عبر الأجهزة وكيفية توصيله. نملك العديد من الأجهزة والوسائل التي نوصل بها رسائلنا إلى الآخر والمهم هنا هو جودة الرسالة وكيف يتم توصيلها دون إخلال بالمعنى المقصود على الأقل. وبناءً على ذلك، جادل آخرون في ضرورة صياغة وسائل وطرق جديدة في توصيل الرسائل عبر كتابة مطولة لتوصيل المعنى بدقة وغيرها، وأن تكون هذه الصيغ الجديدة مدروسة بعناية ودقة.
إنَّ كتابة رسالة طويلة بعناية لن تحل المشكلة الحالية بالكامل، لكن المدافعين عن هذا الأسلوب يقولون إنَّ إبطاء عملية الكتابة وقراءة الرسالة بعناية قبل إرساله يمكن أن يثبت أنَّه مفيد. هذا الأسلوب يثير مشكلتين ذات صلة. المشكلة الأولى تكمن في أن الاتصالات اللغوية غير المكتوبة يتم حذفها أو نسيانها في رسائل البريد الإلكتروني والنصوص والتغريدات، فإنَّ هذا النهج يضع على عاتقنا الكتابة بوضوح وفعالية. والمشكلة الثانية هي أنَّ هذه الرسائل المُطوَّلة تتطلب منا وقت كافي للنظر في كيفية تفسير الشخص المتلقي للخطاب الخاص بنا. في حين يمكن أن يقلل هذا بشكل كبير من سوء التفاهم والتواصل، فإنَّ قدرتنا على تخيل الطرق المُختلفة التي يمكن أن يُفسر بها ما نكتبه هي مسؤولية ضخمة وصعبة، يمكن أن تطيل أمد تسليم الرسائل (بالنسبة لبعضنا، إلى أجل غير مسمى). تبدو فكرة أخذ الوقت الكافي والطويل لصياغة الرسائل ودراستها فكرة جيدة، ولكنها تستغرق وقتًا طويلاً وهذا يتعارض مع الغرض والهدف الأساسي من التكنولوجيا وهو جعل حياتنا أسهل وأسرع.
غير أنَّ وجهة نظر أخرى تأتي من مستخدمي الإنترنت المهرة الذين اخترعوا في ألعابهم اللغوية طرق ورموز جديدة للتواصل، مثل الرموز والمختصرات والكلمات الانفعالية التي تنتشر وتصبح مستخدمة على نطاق واسع ضمن وسائل التواصل. وحتى أدوات الترقيم يتم إعادة استخدامها بطريقة معينة لتدل على معنى معين. يمكن للمعنى الكامن وراء رمز متعارف عليه توصيل المشاعر دون حاجتنا للكتابة التي قد تحتمل الغموض أو عدم الوضوح.
في حين أنَّه من الواضح عدم قدرتنا على استبدال النص والإيحاءات والإيماءات التي تكون في الحوار وجهًا لوجه، إلّا أنَّها يمكن أن توفر سياقًا ذا مغزى عند المتلقي، خاصةً في التبادلات التي قد يكون فيها المعنى غامضًا أو غائبًأ. وهذا يتطلب من المتلقي إحساس جيد بما يقصده المتحدث ضمن هذا السياق. إذا كانت هذه الإضافات إلى لعبة اللغة عبر الإنترنت يمكن أن تساعد في فهم رسالة تحتمل التشويش وعدم الوضوح فإنَّه يبدو لي واجب قبولها.
من بين العديد من القضايا البارزة والشائعة في كتاب فتجنشتاين «تحقيقات فلسفية» هي قضية أنَّ لغتنا متشابكة بشكل عميق ومعقد مع استخدامها. هذا يجعل الوظائف المختلفة للتعبيرات تبدو أشبه بالوظائف المختلفة للأدوات التي قد نجدها في صندوق الأدوات المتاحة. تحسين أدواتنا وصقلها وزيادة الوضوح في لعبة اللغة من خلال تكميلها برموز عاطفية تعبر عن المشاعر متعارف عليها، يعتبر تحسين للعبتنا اللغوية وجعلها أكثر قدرة على التواصل والاحتكام إلى قواعد مُتفق عليها. يمكننا اعتبار المفردات العامية التي تنتشر على وسائل التواصل والرموز التي تعبر عن المشاعر والمعاني وما نحو ذلك بمثابة تحسين لأداتنا اللغوية.
في العصر الحجري، بدأ تطورُ أداةٍ ما مثل السكين بتعديلِ أو إشارة بسيطة تمنح هذه الأداة معنى واستخدام، هذا التعديل كان بوضع مقبض على غير ما هو حاد من العظم وترك الحاد، فيكون للسكين معناها واستخدامها. وفي عصرنا الرقميّ، إذا كان الهدف من أداة اللغة الخاصة بنا هو نقل كلامنا بالمعنى الذي نقصده بوضوح ودقة، فعلينا أن نكون أكثر تسامحًا في قبول الرموز واستخدامها والمفردات العامية وما إلى ذلك في مراسلاتنا.
ترجمة: مروان محمود
مراجعة: مايكل ماهر