قليلون فقط من عاشوا حياةً تضاهي حياة الزّعيم الكوبيّ الأشهر «فيديل كاسترو – Fidel Castro»، وقليلون من أدركوا ثمن هذه الحياة. الرّجل الّذي نهض من مستنقع التّهميش ليصبح أحد أشهر عرّابي الثّورة والتّمرّد حول العالم، وليظلّ في موقعه لمدّةٍ تزيد على نصف القرن، متحدّيًا أحد عشر رئيسًا أمريكيًّا حاولوا التّخلّص منه بمختلف الطّرق، ليرحلوا هم ويبقى هو، حتّى خرج بإرادته تاركًا الحكم لشقيقه الأصغر. في السّطور القادمة سوف نستعرض أهمّ اللّحظات في حياة فيديل كاسترو، وكيف حاولت الولايات المتّحدة أن تنهيها أكثر من 600 مرّةٍ، وكيف فشلت.
ابن المهاجر
كان آنخيل كاسترو أرخيس جنديًّا متقاعدًا عندما قرّر الهجرة من موطنه الأصليّ في شمال غرب إسبانيا إلى المكسيك في العقد الأوّل من القرن العشرين، وفي المكسيك أصبح آنخيل مزارعًا لقصب السّكر في منطقةٍ كانت تحتكر فيها الزّراعة شركاتٌ مملوكةٌ للولايات المتّحدة، رغم ذلك نجح أنخيل في تأسيس مزرعةٍ ناجحةٍ. ازدهر مشروع آنخيل، الّذي قرّر أن ينتقل إلى منزلٍ أكبر هو وزوجته الأولى. وهناك بدأ علاقةً غراميّةً مع إحدى خادماته؛ سيّدةٍ تُدعى لينا روز جونزاليس، الّتي ستصبح لاحقًا زوجته الثّانية. معًا، أنجب آنخيل ولينا سبعة أطفالٍ كان منهم الرّجل الّذي سيغيّر مصير كوبا. ففي الثّالث عشر من أغسطس 1926 وُلد فيديل كاسترو، ثمّ تلاه شقيقه راؤول، الّذي أصبح فيما بعد مساعد أخيه الرّئيسيّ وذراعه اليمنى، ولاحقًا خليفته.
أمضى فيديل سنوات حياته الأولى في مزرعة والده. وعندما بلغ فيديل الصّغير السّادسة من العمر قرّر والداه إرساله إلى مدرسةٍ داخليّةٍ كاثوليكيّةٍ، كما كانت العادة لأبناء العائلات الميسورة في ذلك الوقت، لينتقل بعد ذلك إلى جامعة هافانا المرموقة ليلتحق بكليّة الحقوق عام 1945. هناك لم يتفوّق كاسترو أكاديميًّا، وبدلًا من ذلك كرّس الكثير من وقته لممارسة الرّياضة. ولكن في نفس الوقت كان اهتمامه قد ازداد بقراءة التّاريخ والجغرافيا وأصبح كذلك مولعًا بالمناظرات. مع الوقت، أصبح كاسترو أكثر انغماسًا في السّياسة والحراك الطّلّابيّ المناهض لسياسات الولايات المتّحدة التّوسّعيّة في منطقة الكاريبيّ، وسيطرة الشّركات الأمريكيّة على موارد تلك البلاد.
قرّر كاسترو حينها التّرشّح لانتخابات رئاسة اتّحاد طلّاب الجامعة، ورغم أنّه فشل في الفوز إلّا إنّه نجح بجاذبيّته الشّخصيّة وخطبه القويّة المعارضة لفساد الحكومة في جذب أنظار الصّحف في العاصمة، الّتي كتبت عن النّشاط السّياسيّ المتزايد لهذا الطّالب الجامعيّ الشّابّ. وفي عام 1947، انضمّ كاسترو إلى حزب الشّعب الكوبيّ المعارض، ومع الوقت ازدادت حدّة خطاباته ضدّ فساد الحكومة الكوبيّة، وبدأ كاسترو في تلقّي تهديداتٍ بالقتل إن لم يغادر الجامعة. رغم ذلك تحدّى كاسترو تلك التّهديدات وبدأ يحمل سلاحًا في الجامعة وعمل على إحاطة نفسه كذلك بأصدقاء مسلّحين.
ظلّ كاسترو ناشطًا في الاحتجاجات الطّلابيّة المتتالية ضدّ الحكومة الّتي غالبًا ما كانت تتحوّل إلى أعمال شغبٍ واسعةٍ. ورغم تخرّجه من الجامعة عام 1950 واتّجاهه إلى ممارسة المحاماة إلّا إنّه ظلّ ناشطًا سياسيًّا بارزًا. وبدأ في السّفر إلى عدّة بلدانٍ في أمريكا الجنوبيّة حيث ازداد اهتمامه بالفكر الماركسيّ الشّيوعيّ. وعندما عاد كاسترو إلى كوبا، بدأ حزب الشّعب في تجهيزه للتّرشّح لعضويّة البرلمان الكوبيّ في انتخابات يونيو 1952، غير إنّ تلك الانتخابات لم تحدث قطّ. ففي مارس من نفس العام استولى الجنرال فولخينسيو باتيستا المدعوم أمريكيًّا على الحكم في انقلابٍ عسكريٍّ وألغى الانتخابات.
حاولت المعارضة، يتقدّمها كاسترو، معارضة الانقلاب بالوسائل القانونيّة، غير إنّ كلّ محاولاتهم قد فشلت. فضلًا عن ذلك، كانت كراهية حكومة الجنرال باتيستا الجديدة للدّيمقراطيّة وحقوق العمّال أمرًا واضحًا، وتمثّل ذلك في تفضيل باتيستا إحاطة نفسه بالأثرياء من أصحاب المصالح التّجاريّة. وأمام ذلك الموقف اليائس، بدأ كاسترو في تنظيم حركةٍ عسكريّةٍ متمرّدةٍ لإزاحة ديكتاتوريّة باتيستا الجديدة. وفي 26 يوليو 1953، قاد فيديل كاسترو حوالي 160 رجلًا في هجومٍ انتحاريٍّ على ثكنات مونكادا العسكريّة في سانتياغو دي كوبا، ثاني أكبر مدن البلاد، على أمل إثارة انتفاضةٍ شعبيّةٍ. قُتل معظم رجال كاسترو المشاركين في العمليّة الّتي لم ينج منها سوى كاسترو وشقيقه راؤول، بالإضافة إلى ثوريٍّ أرجنتينيٍّ شابٍّ تعرّف عليه كاسترو في رحلاته إلى أمريكا الجنوبيّة، يُدعى تشي جيفارا.
قُدّم كاسترو ورفاقه النّاجون للمحاكمة، وهناك دافع كاسترو عن نفسه دفاعًا حماسيًّا، لكن قرّرت المحكمة في النّهاية الحكم عليه بالسّجن 15 عامًا. ليقضي كاسترو وشقيقه راؤول عامين في السّجن قبل أن يخرجا بعفوٍ سياسيٍّ عام 1955. غير أنّ فترة السّجن لم تخمد روح كاسترو الثّائرة، ففور مغادرته السّجن، فرّ هو وأخوه إلى المكسيك لمواصلة حملتهما ضدّ نظام باتيستا. هناك نظّم فيديل كاسترو المنفيّين الكوبيّين المعارضين لباتيستا في مجموعةٍ ثوريّةٍ تسمّى حركة 26 يوليو لتبدأ مسيرة فيديل كاسترو كمتمرّدٍ.[1]
فيديل كاسترو قائد الثورة
في البداية كان على كاسترو ورفاقه العودة إلى كوبا من منفاهم في المكسيك، من أجل مواصلة كفاحهم المسلّح ضدّ نظام باتيستا. وبعد عدّة محاولاتٍ مضنيةٍ حاول فيها كاسترو توخّي أكبر قدرٍ ممكنٍ من السّرّيّة والحذر، تمكّن كاسترو من شراء يختٍ متهالكٍ يُدعى «الجدّة العجوز – The Granma». وفي 25 نوفمبر 1956، أبحر كاسترو من مدينة توكسبان المكسيكيّة برفقة 81 من الثّوار المسلّحين. وكان من المفترض أن يقطع القارب القديم مسافةً بطول 1900 كيلومتر إلى كوبا في خمسة أيّامٍ. غير إنّ الرّحلة واجهت العديد من المشاكل في الطّريق حيث كان الطّعام قد بدأ في النّفاد، وعانى الكثيرون من دوار البحر. بل وصل الأمر إلى حدوث أكثر من تسرّبٍ في بدن السّفينة، وفي حادثةٍ أخرى سقط رجلٌ في البحر. ممّا أدّى إلى تأخير رحلتهم إلى سبعة أيّامٍ بدلًا من خمسةٍ.
كانت الخطّة أنّ أعضاء أحد الجماعات الثّوريّة المتحالفة مع كاسترو داخل كوبا، سيقودون انتفاضةً مسلّحةً في يوم وصول غرانما، المحدّد في 30 نوفمبر، في مدينتي سانتياغو ومانزانيلو، كشرارةٍ لبداية الثّورة داخل كوبا. ولكن مع عدم قدرة كاسترو ورجاله على الوصول في الوقت المناسب، تمكّنت قوّات باتيستا من هزيمة المتمرّدين بعد يومين من الهجمات المتقطّعة.[2]
فور وصوله لكوبا يوم 2 ديسمبر، اتّجه كاسترو ومجموعته الصّغيرة من المتمرّدين على الفور إلى سلسلة جبال سييرا مايسترا، ذات الغابات الكثيفة، واتّخذوها مركزًا لشنّ حرب عصاباتٍ ضدّ قوّات باتيستا. إلّا إنّ كاسترو سرعان ما اكتشف أنّ معظم رجاله المرهقين لم ينجوا من الرّحلة الشّاقّة إلى الجبال؛ وفي النّهاية كان كلّ ما تبقّى مع كاسترو هو 19 رجلًا، من ضمنهم شقيقه راؤول وصديقه جيفارا. وكان على هذه القوّة الصّغيرة المهلهلة، من مخبئهم في الجبال، أن تشنّ حربًا ضدّ 30 ألف جنديٍّ محترفٍ ومدجّجٍ بالسّلاح.
وعلى الفور بدأ كاسترو ومجموعته بشنّ غاراتٍ على مواقع عسكريّةٍ معزولةٍ للحصول على أسلحةٍ. وفي يناير 1957 هاجم الثّوّار موقعًا عسكريًّا في قريةٍ صغيرةٍ تُدعى في لا بلاتا، وتمكّنوا من السّيطرة عليها. بعد المعركة حرص الثّوّار على معالجة جنود الجيش المصابين، ثمّ أعدموا تشيشو أوسوريو، عمدة القرية الّذي احتقره السّكّان المحليّون. ساعد هذا المتمرّدين في كسب ثقة السّكّان المحليّين الّذين انضمّ بعضهم إلى كاسترو.
في تلك الأثناء ومع تصاعد أنباء العمليّات الّتي يقوم بها الثّوّار في أنحاء كوبا، نفّذت الجماعات المناهضة لباتيستا عمليّات تفجيرٍ وتخريبٍ في المدن الرّئيسيّة؛ لتردّ قوّات باتيستا بالاعتقالات الجماعيّة والتّعذيب والإعدام دون محاكمةٍ. ممّا زاد من كراهية الكوبيّين لباتيستا، وازداد دعمهم لكاسترو الّذي بدأت قوّاته في استقبال المزيد من المتطوّعين. ووصلت شهرة كاسترو إلى الحدّ الّذي جعل بعض الصّحف والإذاعات الأمريكيّة تعقد لقاءاتٍ معه.[3]
كثّف مقاتلو كاسترو هجماتهم على المواقع العسكريّة، ممّا أجبر الحكومة على الانسحاب من منطقة سييرا مايسترا. وبحلول ربيع عام 1958، سيطر المتمرّدون على مستشفًى ومدرسةٍ ومطبعةٍ ومصنعٍ للألغام الأرضيّة ومصنعٍ لصناعة السّيجار. وفي هذه الأثناء كان باتيستا يتعرّض لضغوطٍ متزايدةٍ نتيجةً لإخفاقاته العسكريّة، مقترنةً بزيادة الانتقادات المحلّيّة والأجنبيّة بسبب تعامله الوحشيّ مع معارضيه. واضطرت هذه الضّغوط المتزايدة الحكومة الأمريكيّة إلى وقف دعمها لنظام باتيستا بالأسلحة.
ردّ باتيستا بهجومٍ شاملٍ، حيث قصف الجيش مناطق الغابات والقرى المشتبه في أنّها تساعد المسلّحين؛ بينما حاصر 10000 جنديٍّ جبال سييرا مايسترا، وعلى الرّغم من تفوّقهم العدديّ والتّكنولوجيّ، لم يكن للجيش أيّ خبرةٍ في حرب العصابات. فأوقف كاسترو هجومهم باستخدام الألغام الأرضيّة والكمائن، بينما انشقّ العديد من جنود باتيستا إلى متمرّدي كاسترو. وبحلول نوفمبر، سيطرت قوّات كاسترو على معظم الجزيرة الكوبيّة، وقسّمت كوبا إلى قسمين بإغلاق الطّرق الرّئيسيّة وخطوط السّكك الحديديّة.
بدأ نظام باتيستا في الانهيار، ووافق قائد الجيش الجنرال كانتيلو سرًّا على وقف إطلاق النّار مع كاسترو، ووعد بمحاكمة باتيستا كمجرم حربٍ. غير إنّ البعض تمكّن من تحذير باتيستا، الّذي هرب إلى إسبانيا بأكثر من 300 مليون دولارٍ أمريكيٍّ. و في 31 ديسمبر 1958، وبعد تسعة أيّامٍ دخل فيديل كاسترو إلى هافانا وسط احتفالاتٍ شعبيّةٍ عارمةٍ. لقد تمكّنت قوّة كاسترو المكوّنة من أقلّ من ألف مقاتلٍ ضعيف التّسليح من هزيمة جيش باتيستا في أقلّ من عامين.
كاسترو.. الكومندانتي
بانتصار حركة 26 يوليو أصبح كاسترو الزّعيم الثّوريّ للبلاد بلا منازعٍ. ورغم امتلاكه القدرة والدّعم الشّعبيّ الكافي لكي يصبح الحاكم الأوحد منذ البداية، قرّر كاسترو أن يتريّث. وهكذا ارتضى الرّجل الّذي أصبح يُعرف الآن بلقبه الّذي أطلقه على نفسه: الكومندانتي (El Comandante)، أي القائد، أن يصبح القائد العامّ للقوّات المسلّحة في الحكومة المؤقّتة الجديدة لكوبا، الّتي كان رئيسها مانويل أوروتيا اللّيبراليّ المعتدل. ولكن شيئًا فشيئًا، بدأ كاسترو في الاستحواذ على مزيدٍ من السّلطة. ففي فبراير 1959 أصبح كاسترو رئيسًا للوزراء، ومع الوقت أُجبر أوروتيا على الاستقالة في يوليو 1959، وهكذا استطاع كاسترو أن يركّز السّلطة السّياسيّة الكاملة بين يديه.
كان الأساس الّذي قامت عليه سلطة كاسترو هو الدّعم اللّامحدود، الّذي حظي به من غالبيّة الكوبيّين. كان كاسترو يدرك ضرورة الحفاظ على هذا الدّعم. وهكذا وبمجرّد أن أصبح زعيمًا لكوبا، بدأ كاسترو في اتّباع سياساتٍ أكثر راديكاليّةً؛ فبدأ بتأميم التّجارة والصّناعة الخاصّة في كوبا، ثمّ شرع في إجراء إصلاحاتٍ شاملةٍ للأراضي، وصودرت الشّركات والممتلكات الزّراعيّة الأمريكيّة.
كما بدأ كذلك في توجيه انتقاداتٍ حادّةٍ للسّياسات الأمريكيّة الّتي وصفها بالتّوسّعيّة. أغضبت سياسات كاسترو الولايات المتّحدة الّّتي شعرت بأنّها قد فقدت أحد أهمّ مراكز مصالحها التّجاريّة في المنطقة، كما بدأت تنظر إلى خطاب كاسترو النّاريّ الجديد المعادي لأمريكا على أنّه إهانةٌ مباشرةٌ تمسّ الصّورة الذّهنيّة للولايات المتّحدة حول العالم. وزاد الاتّفاق التّجاريّ الّذي وقّعته كوبا مع الاتّحاد السّوفيتّيّ عدوّ الولايات المتّحدة المباشر، في فبراير 1960، من عدم الثّقة الأمريكيّة.
وهكذا، وفي عام 1960، قُطعت معظم العلاقات الاقتصاديّة بين كوبا والولايات المتّحدة، وقطعت الولايات المتّحدة العلاقات الدّبلوماسيّة مع كوبا بالكامل في يناير 1961. وفي أبريل من نفس العام، جهّزت الحكومة الأمريكيّة سرًّا الآلاف من المنفيّين الّذين هربوا من كوبا بعد وصول كاسترو للحكم للإطاحة بحكومته، غير إنّ عمليّة الإنزال الّتي تمّت لهذه القوّات في خليج الخنازير في أبريل 1961، قد سحقت من قبل قوّات كاسترو.[4]
بهذا تأكّد لكاسترو وحكومته أنّ الولايات المتّحدة تسعى بشكلٍ فعّالٍ لإزاحة نظام 26 يوليو من الحكم. وهكذا بدأت كوبا في التّوجّه للاتّحاد السّوفيتّيّ من أجل الحصول على أسلحةٍ للرّدع، وسرعان ما أصبح السّوفيتّ الدّاعم الرّئيسيّ والشّريك التّجاريّ الأوّل للبلاد. وفي عام 1962، وضع الاتّحاد السّوفيتّيّ سرًّا صواريخ باليستيّةً في كوبا يمكنها إيصال رؤوسٍ حربيّةٍ نوويّةٍ إلى المدن الأمريكيّة، وفي المواجهة الّتي تلت ذلك مع الولايات المتّحدة، كان العالم على شفير حربٍ نوويّةٍ.
انتهت أزمة الصّواريخ الكوبيّة عندما وافق الاتّحاد السّوفيتّيّ على سحب أسلحته النّوويّة من كوبا مقابل تعهّدٍ بأنّ الولايات المتّحدة ستسحب صواريخها النّوويّة الّتي كانت متمركزةً في تركيا، وأنّها لن تسعى بعد الآن إلى الإطاحة بنظام كاسترو. نفّذت الولايات المتّحدة فقط الجزء الأوّل من هذا الالتزام، أمّا بخصوص كوبا فقد تشكّلت قناعةٌ راسخةٌ لدى الحكومة الأمريكيّة بأنّ نظام كاسترو يشكّل خطرًا رئيسًا على الولايات المتّحدة؛ وأنّ إن كان من الصّعب إزاحة النّظام بالكامل بثورةٍ شعبيّةٍ أو انقلابٍ داخليٍّ، فيمكن تحييد ذلك الخطر إذًا بإزالة رأس هذا النّظام ومركز قوّته، فيديل كاسترو. وطوال العقود التّالية أصبح هدف أمريكا الرّئيسيّ في كوبا، هو قتله بأّيّ وسيلةٍ ممكنةٍ.
اقتلوا هذا الرجل!
رغم أنّ الولايات المتّحدة قد سعت إلى التّخلّص من كاسترو منذ وصوله إلى الحكم عبر وسائل مباشرةٍ وغير مباشرةٍ، بدءًا من الحصار الاقتصاديّ، ووصولًا إلى دعم مجموعاتٍ متمرّدةٍ للاستيلاء على السّلطة؛ إلّا إنّ فشل عمليّة خليج الخنازير، والخطر الّذي شكّلته أزمة الصّواريخ الكوبيّة الّتي كادت أن تودي بالعالم إلى أتون الحرب النّوويّة، جعلا الولايات المتّحدة تسعى للتّخلّص من كاسترو بشكلٍ أكثر سرّيّةً. وخصوصًا أنّ استمرار كاسترو على رأس السّلطة في كوبا وتحدّيه المستمرّ لنفوذ الولايات المتّحدة جعله مصدر إحراجٍ دائمٍ للإدارات الأمريكيّة المتعاقبة. الأمر الذي بدوره جعل كلّ إدارةٍ أمريكيّةٍ أكثر إصرارًا وهوسًا بالتّخلّص من كاسترو، من الإدارة الّتي سبقتها. فعلى سبيل المثال يذكر ريتشارد هيلمز، المدير السّابق لوكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة، كيف مارس مسؤولو إدارة كينيدي ضغوطًا شديدةً على وكالة المخابرات المركزيّة للتّخلّص من كاسترو بأيّ طريقةٍ.
غير إنّ الفشل المتتالي للمخابرات المركزيّة الأمريكيّة في تحقيق هذا الهدف، جعلها تلجأ إلى وسائل أكثر غرابةً للتّخلّص من الزّعيم الكوبيّ، إلى الحدّ الّذي وصل معه عدد تلك المحاولات بأشكالها المختلفة إلى 638 محاولةً، عبر نصف قرنٍ، وفقًا لفابيان اسكالانتي (Fabian Escalante) الّذي كان رئيسًا لجهاز المخابرات الكوبيّ، والمسؤول عن حماية فيديل كاسترو في ذروة محاولات وكالة المخابرات المركزيّة لاغتيال زعيم كوبا. ورغم أنّ كثيرًا من هذه القصص يظلّ قيد السّرّيّة، إلّا إنّ لجنةً تابعةً للكونجرس الأمريكيّ أُنشئت للتّحقيق في انتهاكات جهاز المخابرات المركزيّة، قد كشفت عن بعض هذه المحاولات الفاشلة. ورغم قلّة المعلومات المتوفّرة، فإنّ ما كُشِف عنه يوضّح إلى أيّ درجةٍ أرادت الولايات المتّحدة التّخلّص من كاسترو.[5]
والحقيقة أنّ كثيرًا من هذه المحاولات تشبه في غرابتها قصص الجاسوسيّة الرّخيصة، أو أفلام جايمس بوند. فمنها على سبيل المثال قصّة السّيجار المتفجّر الشّهير، الّذي كان من المفترض تسليمه لكاسترو عندما زار الأمم المتّحدة في نيويورك. كانت هناك فكرةٌ أخرى، وهي تلويث السّيجار بسمّ البوتيولينيوم، الّذي كان من المفترض أن يقتل كاسترو بمجرّد أن يضع السّيجار في فمه. لم تفصح المخابرات الأمريكيّة عن سبب فشل هذه الخطّة، ولكن من المرجّح أنّها لم تتمكّن من إيجاد طريقةٍ لتخطّى إجراءات الحراسة حول كاسترو لإيصال السّيجار إليه. الغريب في الأمر أنّ هذه لم تكن هي المحاولة الوحيدة لاغتيال كاسترو من خلال محاولة استغلال ولعه بالسّيجار الكوبيّ، وربّما يكون هذا هو السّبب الّذي جعل كاسترو يتخلّى عن التّدخين تمامًا في عام 1985.[6]
تروي كذلك ماريتا لورينز (Marita Lorenz)، وهي عشيقةٌ سابقةٌ لكاسترو، قصّةً أخرى، عن كيف جُنّدت من قبل مجموعةٍ تابعةٍ للمخابرات الأمريكيّة وأُعطيت حبوبًا سامّةً لكي تدسّها في شراب كاسترو. غير إنّ التّوتّر جعلها تخفي الحبوب في علبة مرطّب البشرة الخاصّة بها، فذابت الحبوب، وقدّرت المرأة أنّ فرص إدخالها في فم كاسترو أثناء نومه كانت محدودةً. ووفقًا لها، خمّن كاسترو نواياها وعرض عليها ببساطةٍ مسدّسه الخاصّ حتّى تتمكّن من إنهاء المهمّة، فقالت له «لا أستطيع فعل ذلك يا فيديل»، لتفشل محاولةٌ أخرى.[6]
بالإضافة إلى المحاولات المباشرة لقتله، سعت المخابرات المركزيّة كذلك إلى تشويه سمعة كاسترو وتقويض حكمه من خلال محاولة إضعاف قواه العقليّة أو الإخلال بمظهره. فمن مارس إلى أغسطس 1960، خلال العام الأخير لإدارة أيزنهاور، نظرت وكالة المخابرات المركزيّة في خططٍ لتقويض جاذبيّة كاسترو الكاريزميّة من خلال تخريب خطاباته، عن طريق مخطّطٍ لرشّ استوديو البثّ الخاصّ بكاسترو بمادّةٍ كيميائيّةٍ تنتج تأثيراتٍ مشابهةٍ لمادّة إل إس دي (LSD) المخدّرة. لكنّ المخطّط رُفض لأنّ المادّة الكيميائيّة المستخدمة كانت فاعليّتها غير موثوقٍ فيها. كما كانت هناك خطّةٌ لتغطية حذاء كاسترو من الدّاخل بمادّةٍ مستخرجةٍ من أملاح الثّاليوم، وهو مزيل شعرٍ قويٌّ قد يتسبّب في سقوط لحيته. وكان من المفترض أن تُنفَّذ عندما كان كاسترو في رحلةٍ خارجيّةٍ، وكان من عادته أن يترك حذاءه خارج غرفته بالفندق لكي يُلمّع. لكن تمّ التّخلّي عن المحاولة عندما ألغى كاسترو الرّحلة.[7]
استمرّت محاولات المخابرات المركزيّة لاغتيال كاسترو بعدّة وسائل أخرى. فمثلًا كانت هناك مخطّطاتٌ لاستخدام نوعٍ من السّموم البكتيريّة الّتي يمكن وضعها في الشّاي أو القهوة، مخططٌ آخر تضمّن استخدام قلم حبرٍ سامٍّ، وآخر تضمّن مخفوق شوكولاتةٍ مسمومٍ يُقدّم في أحد فنادق هافانا. ووصل الأمر إلى التّخطيط لدسّ طبق محارٍ ملغّمٍ بالمتفجّرات، أو حُلّة غوصٍ مبطّنةٍ بمادّةٍ تسبّب مرضًا جلديًّا نادرًا.
غير إنّ أحد أقرب المحاولات إلى النّجاح لم تتمّ عن طريق المخابرات الأمريكيّة بشكلٍ مباشرٍ، بل عن طريق المافيا، الّتي كانت على عداءٍ مع كاسترو بعد أن أغلق كازينوهات القمار الّتي تمتلكها المافيا في كوبا، ممّا سبّب خسائر ماليّةً هائلةً للمنظّمة الإجراميّة. ففي منتصف مارس 1961، أعطت المافيا مجموعةً من الحبوب السّامّة وآلاف الدّولارات لأحد كبار المنفيّين الكوبيّين في الولايات المتّحدة، توني فارونا (Tony Varona)، الّذي نجح في تسليم قارورةٍ من السّمّ إلى عامل مطعمٍ في هافانا، كان من المقرّر أن يضعها في مخروط المثلّجات الخاصّ بكاسترو. إلّا إنّ المحاولة فشلت قبل التّنفيذ مباشرةً عندما عثر ضبّاط المخابرات الكوبيّة على القارورة الّتي تحوي الحبوب السّامّة في صندوق ثلجٍ في المطعم.[7]
تخلّت الولايات المتّحدة علنيًّا في النّهاية عن محاولاتها لاغتيال كاسترو، وفرضت بدلًا من ذلك حظرًا تجاريًّا على الجزيرة في محاولةٍ لإزاحته عن الحكم. ولكن ظهرت لاحقًا تقارير تفيد بأنّ محاولات اغتيال كاسترو ظلّت مستمرّةً حتّى عهد إدارة كلينتون في التّسعينيّات. ومع ذلك ظلّ فيديل كاسترو يحكم كوبا حتّى عام 2006 عندما تخلّى عن الحكم لأسبابٍ صحّيّةٍ تاركًا السّلطة لشقيقه الأصغر ورفيق دربه راؤول كاسترو. غير إنّ فيديل ظلّ نشطًا في المجال السّياسيّ. وربّما في تحدٍّ أخيرٍ للولايات المتّحدة مات فيديل كاسترو بأسبابٍ طبيعيّةٍ في 25 نوفمبر 2016 عن عمرٍ ناهز إحدى وتسعين سنةً.