(تحديث وإخلاء مسؤولية) (31 مارس 2020):
لا يمكن اعتبار هذه المقالة نصيحة طبية، أو تَبَنٍّ للموقف الوبائي؛ فالأرقام المذكورة هنا تعكس ما كان في وقت كتابة هذا المقال (فبراير 2020).
وقد كتبت هذه المقالة من وجهة نظر العلوم السلوكية؛ تعليقًا على الأبعاد المعرفية التي يفكر بها البشر تجاه التهديدات التي تسببها الفيروسات، وتطور نفسية البشر تجاه الأمراض التي تنقلها الحيوانات.
فمن يبحث من القراء عن آخر الأخبار الطبية عليه باللجوء إلى مُقدمي الخدمة الطبية، أو مراكز مكافحة الأمراض، أو منظمة الصحة العالمية.
ولموقف أكثر إيجابية تجاه عواقب الوباء الاجتماعية؛ يمكنك أن ترى منشوري التالي من هنا.
لم الهلع؟
اسأل نفسك الآتي:
- هل ستثق كفاية بأخذ دواء؛ علمًا بأن نسبة عمله بكفاءة هي (98%)؟!
- هل ستجرؤ على وضع جميع مدخراتك مرة واحدة في مخطط نسبة فشله (98%)؟!
الأمر في تلك السهولة مع (فيروس كورونا)؛ كـكائن بشري؛ فنسبة أن يقتلك هذا الفيروس هي تقريبًا نفس نسبة هذه التخمينات، إذا لم تكن بالفعل مصابًا بمرض ما، أو طفلًا، أو عجوزًا.
إذن، لِمَ قامت العديد من الدول بتطبيق إجراءات الحجر الصحي، وأُغلقت المدارس والحدود؟!
أبسبب ما يعتبر نوعًا خفيفًا، أو متوسطًا من الإنفلونزا؟!
إن عقولنا تهتم بالعناوين المهددة ذات الأرقام الكبيرة، كقول: «إنه قد تم تسجيل (80.000) حالة من (كوفيد-19) في (40) دولة مختلفة»؛ برغم أن ذلك يمثل فقط (0.0001) من سكان الكوكب، وهذا رقم ضئيل بالمقارنة بفيروس الإنفلونزا الموسمية الذي يصيب (3 : 5 مليون) شخص كل عام (إضافة إلى الحالات غير المسجلة) ممثلًا (0.06) من السكان، والتي تتسبب بمقتل (290:650 ألف) شخص سنويًّا (0.008%) من السكان.
ولفهم القوة الحقيقية الكامنة في فيروس كورونا، يجب علينا الغوص في أعماق علم النفس البشري التطوري.
عقولنا تحب الخطر
فيروس الكورونا هو ذعر أخلاقي بالمعنى الحرفي، فقد تطورت مسببات الأمراض جنبًا إلى جنب مع الأجسام البشرية، والعقول، والمجتمعات، والتقاليد، ومن غير الواضح حاليًا من يقود الآخر نحو هذا المشهد الكئيب.
ولفهم هذه الديناميكية العجيبة عليك أن تضع في عين الاعتبار عدم قدرة البشر على استنتاج إحصائيات دقيقة تخص الخطر الفعلي للوباء؛ فميل البشر لتجاهل الاحتمالات الأصلية، وولع العقول بتصديق المعلومات الظاهرة هو شيء موثق.
كما أن التحيز السلبي هو واحد من أشد استدلالات العقول المبرمجة سابقًا؛ فأي إشارة تخص خطر معين تصل إلى المخ بشكل أسهل، ويتم تداولها بشكل أسرع.
ويصف علماء الأوبئة دلالات الخطر بأنها «أكثر قابلية للتعلم، وإمكانية للتذكر، وقدرة على التدريس»؛ ولهذه الصفة فائدة عظيمة، فالتهويل من الشعور بالخطر أفضل بكثير من الاستهانة به؛ ففي معظم الحالات تميل دلالات الخطر إلى تحفيز ردود أفعال تقينا منه.
وقد تطورت ردود الأفعال تلك مع الوقت، حتى أصبح لدينا استجابة للعديد من المؤثرات البصرية والسمعية المرتبطة بالخطر، والمشيرة إلى احتمالية وجود مسببات الأمراض؛ ولهذا يشعر الكثير من الناس مثلًا بالاشمئزاز من الفئران، أو الحشرات، أو من صوت الاستنشاق.
احترس من مسببات الأمراض
وتتجلّى هذه الاستدلالات العقلية بطرق أخرى، فالعنصرية والخوف من الغرباء مثلًا متصلان أيضًا بآلية الكشف عن مسببات الأمراض، فالتعبيرات المجازية التي نستخدمها للتعبير عن الخوف والغضب مرتبطة بمسببات الأمراض؛ فتجدنا نَصف الشخص غير المحبب بالـ(حشرة)، ونصف الأفكار السيئة بالـ(المشمئزة)، ونخاف على عقول بناتنا من (التلوث)، وشبابنا بـ(العدوى) من أشخاص (مرضى).
وقد أظهرت الدراسات أن مَن يعانون مِن فوبيا الجراثيم، أو لديهم معدلات أعلى في حساسية الاشمئزاز يكونون أكثر جمودًا من الناحية الإيديولوجية، والسياسية.
أثر مسببات الأمراض على المجتمعات
ويشتد ترابط القصة حين تجمع العلوم الاجتماعية على ارتباط صرامة المجتمعات، وظهور الثقافات الأكثر تحفظًا بوجود مسببات الأمراض في البيئة. فتفتح المجتمعات الغربية عن غيرها كان لهذا السبب، حيث إن مسببات الأمراض تجتمع في المناطق الاستوائية عنها في المرتفعات الشمالية، كما أن المجتمعات الغربية أصبحت أكثر تفتحًا مع الوقت بتطور المنظفات، والمضادات الحيوية؛ بالإضافة إلى أن المجتمعات ذات معدل انتشار كبير لمسببات الأمراض تتميز بقدر أقل من المساواة بين الجنسين.
من يقود الآخر؟
لكن مرة أخرى يزداد الموضوع غرابة؛ فقد تطورت الفيروسات المميتة كالجدري، والطاعون، والحصبة في كثافة مرتفعة من البشر والحيوانات بمخلفاتهم وفضلاتهم.
بمعنى أكثر دقة: فإن الأمراض التي تنتقل من الحيوانات إلى البشر قد تطورت تحت ضغوط انتقائية مبذولة على البشر، والحيوانات، والنباتات أثناء استئناس بعضهم البعض في العصر الحجري الحديث منذ (12 ألف سنة)، وبقولي: (استئناس) أعني الاستراتيجية التطورية للكائنات بتربية كائنات أخرى من أجل مصلحتها الخاصة، كما حدث منذ أكثر من (مليون سنة) حين استأنس أجدادنا النار وحرقوا مسافات واسعة من الغابات، وحشائش السافانا؛ بهدف تغيير حركة الهجرة للحيوانات لاصطيادهم.
وللتأكيد؛ فإن إنسان العصر الحجري الحديث قد قام بتفضيل زراعة الدخن، والقمح، والأرز، وتربية الكلاب، والجمال، والخنازير، والبقر، والخراف؛ لحاجاتهم الغذائية، ونزعة البقاء، والحفاظ على الطاقة.
وانضم لهذه الموجة من الزيادة السكانية والحيوانية عدة كائنات غير مرحب بها كالفئران، والعصافير، والحمام، وبالتبعية القمل، والنمل، والبراغيث، والذباب، والنحل، وتبعهم لاحقًا البكتيريا، والفيروسات، والطفيليات.
ويشير عالم الأنثروبولوجبا (جيمس سكوت) إلى هذه التحولات الجذرية بأنها «معكسرات استيطان العصر الحجري الحديث متعددة الأنواع».
لعبة الأرقام
تذكَّر بأن التطور هي لعبة الأرقام، فتميل الكائنات إلى زيادة أعدادها بالتركيز على نقاط ضعف الكائنات الأخرى، ومن وجهة نظر (سكوت) تعليقًا:
فإن التعب الذي أصاب الفلاحين المرتطبين بمحاريثهم على مدار القرون لا يوضح من قام بالضبط باستئناس الآخر، فالنجاح الذي أصاب نباتات كالأرز، والقمح، والذرة، والماريجوانا، والتغييرات الجذرية التي أصابت نشاطات البشر وأجسادهم تبعًا لتلك المحاصيل تشير -كما قال (مايكل بولان)- إلى أن هذه المحاصيل هي من استعمرنا.
فالتخلي عن المصادر المتنوعة للبروتين والألياف والأنماط المرنة في سبل التعايش؛ قد أدى في وقت التطورات إلى تغيرات فسيولوجية، وأضرار عديدة بجسم الإنسان.
فالجنس البشري يحتاج إلى وقت كي يتعافى من الصدمة الناتجة عن التغير الزراعي الذي تسبب في معدل أطوال أقل، وتسوس الأسنان، وقلة كثافة العظام بسبب سوء التغذية، وارتفاع معدل أمراض المناعة الذاتية، وزيادة أعداد الوفيات من مسببات الأمراض.
وعلى سبيل السخرية، فإن ما حدث هذه المرة من تغيير للعادات والقوانين، والنفسية البشرية، وقوانين السفر والهجرة، يشير إلى أن الفيروسات الجديدة قد انتصرت في لعبة الأرقام بجدارة!
الفيروس الذكي
ومن هذا المنطلق نجد أن (كوفيد-19) هو خصم ذكي من الناحية التطورية؛ باستهدافه نقاط الضعف في سيكولوجية البشر، وانتقائه من قبل أسلافه الفيروسات لزيادة عدده؛ فقد أغلق بالفعل الكثير من مدارسنا، وحطم أسواق أسهمنا، وزاد من الاضطرابات الاجتماعية والخوف من الغرباء، وغير من قوانين الهجرة، كما يعمل حاليًا على جمعنا في مكان واحد يسهل له عملية الانتشار.
وهنا يجب علينا أن نتأمل لِلحظة أن ذكاء هذا الفيروس يمكن في كونه أقل فتكًا، ففيروس (الإيبولا) على سبيل المثال ليس ذكيًّا، فهو يقتل نفسه وعائلَهُ بشكل أسرع من أن ينتشر ليعيد تشكيل حياة الكائنات الأخرى بما يتناسب مع مصلحته الخاصة.
اختر عدوك!
إذا كنت تعيش في منطقة مزدحمة بالسكان، فالخبر السيء هو أنك ستقابل فيروس كورونا حتمًا، إن لم يكن هذه السنة، فالسنة القادمة، أو التي تليها؛ وذلك أثناء خضوع الفيروس لنمط الهجرة العالمية الموسمية مع أقرانه الحيوانات.
أما الخبر الجيد: فهو أنك لن تموت بسببه غالبًا، وأقصى ما يمكن أن يصيبك هو أن تشعر أنك أقل إنتاجية من الطبيعي لأسبوع أو اثنين، فالأدعى هو أن نهتم بالتهديد الذي تشكله (أباطرة مسببات الأمراض) بالاستعداد لمواهجة غزوات الكورونا السنوية؛ وذلك بالتخلص من العِصابية، والتحيز، واللاعقلانية؛ ففيروسنا القوي أكثر استحقاقًا للكراهية من أعدائنا البشر الوهميين في السياسة، والدين، والحروب العرقية.
اتحدوا يا بشر العالم، فليس لديكم ما تخسروه سوى صحتكم!