فيروس كورونا المُستجد وعدم المساواة

فيروس كورونا المُستجد وعدم المساواة

في مثل هذه الأوقات، تظهر الآثار الكارثيّة لعدم المساواة. أولئك الذين يعيشون على هامش المجتمع هم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض، بما في ذلك من لا مأوى لهم ويعانون من سوء التغذية، والذين يفتقرون إلى النظافة والرعاية الصحيّة الجيدة، ومن يعانون من ضعف جهاز المناعة. جائحة فيروس كورونا المُستجد (بالإنجليزيَّة: Covid-19) جعلت الفقراء يخشون على حياتهم، ويظهر مرة أخرى كيف تقتل عدم المساواة.

تُعَدّ جائحة فيروس كورونا المُستجد غير مسبوقة في حياتنا، ففي بضعة أشهر فقط انتشر المرض في كل قارة تقريبًا، وأصاب الملايين وقتل مئات الآلاف. ولكن حتى عندما يمر المرض، سيعاني العالم بأكمله مع آثاره لسنوات قادمة، على الرغم من ذلك فإننا سندفع تكاليف مختلفة إلى حد كبير. حيث يُنْظَر إلى جائحة فيروس كورونا المُستجد على نطاق واسع حاليًا باعتبارها أكبر كارثة اقتصاديّة منذ «الكساد الكبير».

فضح الضعف

تكشف الأوبئة نقاط الضعف في كل مجتمع، وكان اتساع اللامساواة واستمرارها سمة من سمات كل بلد تقريبًا، حتى قبل ظهور فيروس كورونا المُستجد، نحن نشهد فقط بداية الآثار الاقتصاديّة والاجتماعيّة للفيروس. وتحدث مثل هذه الآثار طويلة الأمد للجوائح بسبب فقدان الوظائف وغيره من الصدمات التي يتعرض لها الدخل (كانخفاض تحويلات العاملين في الخارج) وتراجُع آفاق التوظيف. حيث تكشف بيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن مستويات متباينة من القدرة على الاستعداد والاستجابة لآثار جائحة فيروس كورونا المُستجد. وستعاني البلدان النامية أشد المعاناة، إلى جانب الضعفاء في جميع أنحاء العالم؛ أولئك الذين يعتمدون على الاقتصاد غير الرسمي، والنساء، وذوي الإعاقة، واللاجئين، والمشردين.

وتُقَدِّر منظمة العمل الدوليّة أن نصف العاملين قد يفقدون وظائفهم خلال الأشهر القليلة المقبلة، وقد يكلف الفيروس الاقتصاد العالمي 10 تريليون دولار أمريكي. ويقول برنامج الغذاء العالمي إن 265 مليون شخص سيواجهون أزمة الجوع ما لم تُتّخذ إجراءات مباشرة. فبينما يحافظ الأغنياء على سلامتهم من راحة منازلهم مع ثلاجات جيدة التجهيز وإنترنت عالي السرعة، بينما تظل دخولهم دون انقطاع. يحتاج العاملون غير المستقرون إلى مغادرة المنزل لكسب المال -البقاء في المنزل يعني عدم العمل وبالتالي التخلي عن الدخل الذي يحتاجونه بشدة من أجل البقاء.

وبحسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الجديدة للتنمية البشريّة العالميّة – كمقياس مشترك لمستويات التعليم والصحة ومستوى المعيشة في العالم – فإن  التنمية في طريقها إلى الانخفاض هذا العام للمرة الأولى منذ تطوير المفهوم في عام 1990. ومن المتوقع حدوث الانخفاض في معظم البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء، ومن المتوقع انخفاض نصيب الفرد من الدخل العالمي بنسبة 4%. وحذر البنك الدولي من أن الفيروس قد يدفع ما بين 40 و 60 مليون شخص نحو الفقر المدقع هذا العام.

في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تعهدت الحكومة بدفع 80% من أجور من لا يعملون بسبب الفيروس. وهكذا يُتاح لهم الاختيار، حيث يمكنهم البقاء في المنزل من أجل صحتهم وصحة الآخرين. بالنسبة للفقراء في الدول النامية، فهي ببساطة مفاضلة بين هذه المخاوف الصحية وبقائهم.

«هذا الوباء أزمة صحيّة، ولكن ليس فقط أزمة صحيّة بالنسبة إلى مساحات شاسعة من العالم، سيترك الوباء ندوبًا عميقة. بدون دعم من المجتمع الدولي، فإننا نخاطر بخسارة مكاسب كبيرة حققناها على مدى العقدين الماضيين، وفقد جيل كامل، إن لم يكن في الحياة، في الحقوق والفرص والكرامة»

مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ أكيم شتاينر

الرجوع للخلف

يكشف الفيروس بلا رحمة عن الفجوات بين من يملكون ومن لا يملكون داخل البلد الواحد، وفيما بين البلدان وبعضها البعض. حيث يجد الفيروس أرضًا خصبة للصيد عندما يفتقر أكثر من نصف سكان العالم إلى الخدمات الصحيّة الأساسيّة ولا يتمتعون بحماية اجتماعية تذكر أو لا يحصلون عليها. وفقًا لبيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ، تمتلك البلدان المتقدمة 55 سريرًا في المستشفيات، وأكثر من 30 طبيبًا و81 ممرضةً لكل 10000 شخصٍ. بالنسبة لنفس العدد من الأشخاص في بلد أقل تطورًا، هناك 7 أسرٍ و 2.5 طبيب 6 ممرضاتٍ. حتى الأساسيّات مثل الصابون والمياه النظيفة تُعَدّ من الكماليات للعديد من الناس.

وفي شهر يناير، توَقّع صندوق النقد الدوليّ نمو الدخل العالميّ بنسبة 3%، لكن التنبؤات الحاليّة تشير إلى انخفاضه بنسبة 3%، أي أسوأ بكثير مما حدث أثناء «الركود الكبير» في (2008-2009). ووراء هذه الإحصائيّة المُخيفة يكمن احتمال أكثر ترويعًا: فإذا اتخذنا الجوائح السابقة مرشدا لما هو آت، فإن عاقبة أسوأ بمراحل تنتظر شرائح المجتمع الفقيرة والهشة. والواقع أن استطلاعًا أُجري مؤخرًا لآراء كبار الخبراء الاقتصاديين وجد أن أغلبيتهم العظمى يشعرون بأن جائحة فيروس كورونا المُستجد ستسفر عن تفاقم عدم المساواة، وهو ما سيحدث جزئيًّا من خلال تأثيرها غير المتوازن على العمالة ذات المهارات المحدودة.

وتؤيد أدلة صندوق النقد الدوليّ بواعث القلق بشأن آثار الجائحة السلبيّة على توزيع الدخل. إذ وُجِدَّ أن الجوائح الكبرى في هذا القرن قد زادت من عدم المساواة في توزيع الدخل، وأضرت بآفاق التوظيف بالنسبة لمن لم يتجاوزوا التعليم الأساسي.

وركّز صندوق النقد على خمسة أحداث رئيسيّة وهي؛ المتلازمة التنفسيّة الحادّة الوخيمة (وتُختصر بالإنجليزيَّة: SARS) عام 2003، وإنفلونزا الخنازير عام 2009، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسيّة و(تُختصر بالإنجليزيَّة: MERS) عام 2012، وفيروس إيبولا عام 2014، وفيروس زيكا عام 2016، وتتبعت آثارهم على توزيع الدخل في الخمس سنوات التاليّة لكل حدث. وفي المتوسط، حدثت زيادة مطردة في مُعَامِل جيني (الإنجليزيَّة: GINI coefficients) – وهو مقياس شائع لعدم المساواة – في أعقاب هذه الأحداث. واعتمد مقياس عدم المساواة على الدخول الصافيّة، أي الدخول السوقيّة بعد خصم الضرائب والتحويلات. وتُشِير النتائج إلى زيادة عدم المساواة رغم جهود الحكومات لإعادة توزيع الدخول من الأغنياء إلى الفقراء لتخفيف آثار الجوائح. وبعد خمس سنوات، ارتفع معامل جيني الصافي بنحو 1,5%، وهو تأثير كبير بالنظر إلى أن هذا المقياس يتحرك ببطء مع الوقت.

وتحدث مثل هذه الآثار طويلة الأمد للجوائح بسبب فقدان الوظائف وغيره من الصدمات التي يتعرض لها الدخل (كانخفاض تحويلات العاملين في الخارج) وتراجُع آفاق التوظيف. وتشير نتائج الصندوق إلى أن الجوائح خلَّفت آثارًا شديدة التباين على توظيف العمالة تبعًا لاختلاف مستويات التحصيل التعليميّ الذي يُستَخْدَم كمؤشر لمستويات المهارة. ويُلاحَظ أن التباين صارخ: فنسبةً إلى عدد السكان، لم تكد تتأثر وظائف أصحاب المستويات التعليميّة المتقدمة، بينما شهدت وظائف الحاصلين على تعليم أساسي فقط هبوطا حادًّا تجاوزت نسبته 5% مع نهاية السنوات الخمس.

على الجانب الآخر، جعلت عمليات الإغلاق أيضًا الفجوة الرقميّة أكثر وضوحًا. لا يملك مليارات الأشخاص إنترنت النطاق العريض الموثوق به (بالإنجليزيَّة: Reliable Broadband Internet)، مما يحدّ من قدرتهم على العمل، أو مواصلة تعليمهم، أو التواصل مع أحبائهم. فمع إغلاق المدارس والانقسامات في التعلم عن بعد، تُشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن 86% من الأطفال في سن الدراسة الابتدائيّة في البلدان المنخفضة التنمية لا يحصلون حاليًا على التعليم، مقارنة بـ 20% فقط في البلدان المتقدمة.

ومع إغلاق المدارس، يُقَدِّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ أن المعدلات الفعليّة للخروج من المدرسة يمكن أن تتراجع إلى مستويات لم تشهدها منذ الثمانينيات، وتعيدنا إلى فترة ما قبل أهداف التنمية المستدامة (تٌختصر بالإنجليزيَّة: SDGs) أو حتى الأهداف الإنمائيّة للألفيّة، العمل الجاد والتقدم خلال الثلاثين سنة الماضية.

المجهول لأفريقيا

كان فيروس كورنا بطيئًا نسبيًّا لشق طريقه إلى إفريقيا، حيث يمكن أن يكون له عواقب مدمرة. إذ يعيش حوالي 56% من الأفارقة في ظروف مزدحمة وغير صحيّة؛ فقط 34% من الأسر لديها مياه جاريّة، و71% من القوة العاملة تعتمد على العمل غير الرسميّ.

وعندما وصل الفيروس التاجيّ إلى أفريقيا، سارعت العديد من البلدان إلى فرض عمليات الإغلاق. لكن عمليات الإغلاق المطوّلة أدت إلى تفاقم عدم المساواة القائمة. ويُعَدّ التباعد الاجتماعيّ أحد العناصر الأساسيّة للتخفيف من المخاطر: بينما يفر الأغنياء إلى منازلهم الصيفيّة أو يعملون من المنزل لحماية أنفسهم، فإن الفقراء ببساطة لا يمكنهم تحمل تكاليف ذلك. لا يقتصر الأمر على عدم استطاعتهم الهروب من الفيروس، بل يجب عليهم الانخراط في عمل يعرض صحتهم للخطر. بالنسبة للجماهير الفقيرة، فإن الاكتظاظ السكانيّ وما ينتج عنه من ازدحام هو حقيقة من حقائق الحياة اليوميّة. إن التباعد الاجتماعيّ ليس ببساطة خيارًا قابلاً للتطبيق بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون في مناطق مكتظة بالسكان أو الأحياء الفقيرة، باستخدام وسائل النقل العام المزدحمة، والوقوف في طوابير طويلة للحصول على الطعام والضروريات الأساسيّة.

في أسوأ السيناريوهات، يمكن فقدان حوالي 20 مليون وظيفة وما يصل إلى 3.3 مليون شخص. وتُقَدِّر الأمم المتحدة أن عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائيّ الحادّ يمكن أن يتضاعف. ويقول لكولين كولمان، وهو محاضر في معهد جاكسون للشؤون العالميّة بجامعة ييل:

«تمتلك إفريقيا حصة صغيرة جدًا من موارد العالم ونسبة عالية جدًا من سكان العالم، علينا حماية حياة الأفارقة خلال أزمة فيروس كورونا المُستجد وإعادة النمو إلى المسار الصحيح»

استجابة سريعة لمن هم في أمس الحاجة

في حين أن الجائحة تترك أثرها السلبيّ على كل أفراد المجتمع تقريبًا، فإن يجب أن تُتّخذ تدابير إغاثيّة كبيرة لتسهيل التعافي من أثار عدم المساواة وإيلاء اهتمام خاص لمنع حدوث أضرار طويلة الأجل في مصادر رزق الفئات الأقل حظًا في المجتمع. وما لم تكن هناك مساعٍ حقيقية وموجهة في هذا الخصوص، يُرجَّح أن يزداد عدم المساواة من جديد، وهو ما يشكل بالفعل “واحدة من أعقد التحديات وأكثرها إرباكًا في الاقتصاد العالمي” حسبما قالت السيدة مدير عام صندوق النقد.

فما الذي يمكن القيام به عملياً؟ تعتبر إتاحة الإجازات المرضية، وإعانات البطالة، والمزايا الصحيّة، أمرًا مفيدًا للجميع في التعامل مع آثار الجائحة، لكنها مفيدة على وجه الخصوص لشرائح المجتمع الأفقر التي لا تملك مدخرات احتياطية ومن ثم تعيش على حد الكفاف. ويكتسب هذا «النهج الجديد» أهمية في قطاعات الاقتصاد والمناطق التي ينتشر فيها اشتغال المواطنين في القطاع غير الرسمي ولحسابهم الخاص والتي تندر فيها نظم الحماية الاجتماعيّة. ومن المرجح أن يشتمل مزيج السياسات الرامية إلى تقليل حدة العواقب التوزيعيّة المدمرة للجائحة على التوسع في نطاق تغطية نظم المساعدة الاجتماعيّة، واستحداث تحويلات جديدة، وتعزيز برامج الأشغال العاملة لتوفير فرص العمل، وإتاحة فرص التمويل للحفاظ على الوظائف، وتطبيق إجراءات الضرائب التصاعديّة ربما من خلال رسم تضامن إضافي.

ويجب على البنوك المركزية حول العالم أن تتدخل لخفض أسعار الفائدة وتفعيل أدوات السياسة النقديّة المتاحة لتحفيز الاقتصاد. ويتمثل دور البنوك في تأخير المدفوعات على القروض، في حين تضع الحكومات سياسات تهدف إلى حماية الشركات والاحتفاظ بالوظائف. ويجب على القطاع الخاص، للمساعدة في تمويل التدخلات الحكوميّة، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة.

كما يجب على صناع السياسات اغتنام هذه الفرصة لإجراء تغييرات جوهريّة تحسبًا لأي صدمات مستقبليّة لا مفر منها، بما في ذلك آثار تغير المناخ على سبيل المثال، حتى تكون لدى المجتمعات آليات لاقتسام المخاطر وتقديم المساعدات الاجتماعيّة بما يتيح لها حماية الشرائح الأكثر هشاشة على نحو أفضل بكثير مقارنةً بمستوى الحماية الحالي.

«إن المشهد ما بعد كورونا المُستجد سيتعين على جميع الاقتصادات في العالم التعامل مع حقيقة وجود عدم تطابق بين الموارد عبر السكان داخل كل بلد. وإن الطريقة الوحيدة لمعالجة أوجه عدم المساواة هذه خاصة في المنطقة الأقل حظًا هي من خلال التدخلات الحكوميّة التي تركز على تخصيص الموارد للفقراء»

لكولين كولمان، محاضر في معهد جاكسون للشؤون العالمية بجامعة ييل

يبين لنا التاريخ أن الأوبئة يمكن أن تقدم فرصًا هائلة للانفصال عن الوضع الراهن. أظهرت جائحة فيروس كورونا عن مدى هشاشة وتدمير طريقة حياتنا، ليس فقط بالنسبة للكوكب، ولكن أيضًا بالنسبة لنا. ومن الضروري أن تكون الاستجابة نظامية وتدمج الأبعاد الصحية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية. يعلمنا هذا الوباء أنه إلى جانب نظام الاستجابة العالمي، يجب معالجة المشكلات المستمرة في البلدان النامية أولاً لزيادة القدرة على مواجهة الأوبئة في جميع أنحاء العالم. من التحديات المستمرة التي تواجهها الحكومة في الدول النامية هي إغلاق التباينات الإقليمية والاجتماعية الاقتصادية. ويلزم تنفيذ استراتيجيات الحد من الفقر، وإعطاء الأولوية لتعليم أفضل وفرص عمل أفضل. سيتعين على الحكومات زيادة ميزانيتها الصحية الوطنية وإعادة هيكلة نظام الرعاية الصحية لتقديم خدمات رعاية صحية عالية الجودة إلى المناطق الأقل حظا.

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي