كم عدد الثورات التي قامت بفرنسا؟ يبدو أن هذا السؤال يجب أن تكون له إجابة سريعة وسهلة، وهي: ثلاثة. ولكن -كما هو الحال مع جل المسائل التاريخية- هناك أيضًا إجابة طويلة ومعقدة، وهي: ذلك يعتمد على عدة أمور!
اختلاف الرؤى
يقول (بيتر جونز) -أستاذ التاريخ الفرنسي بجامعة برمنجهام بالمملكة المتحدة-:
«إذا كانت الثورة عبارة عن تغيير في النظام عن طريق قوة جسدية جماعية، فإن التواريخ الرئيسية هي 1789، 1830، 1848.»
الثورة الأولى هي تلك التي نعرفها جميعًا بالثورة الفرنسية والتي انتهت بفقد لويس السادس عشر وماري أنطوانيت رأسيهما، وعادةً ما تُسمى الثانية ثورة يوليو وهي التي شهدت خلع آل بوربون لصالح آل أورليان، والثالثة تُسمى أحيانًا ثورة فبراير أو الثورة الفرنسية لعام 1848 والتي أنهت حكم آل أورليان وبدأت ما يُعرف باسم الجمهورية الثانية.
تلك هي الإجابة السهلة، أما الإجابة الأطول فتعتمد -إلى حد كبير- على تفسيرك لماهية الثورة، حيث يُفضل بعض الأكاديميين تعريفًا أكثر تعقيدًا. يقول (روبرت جيلديا) -أستاذ التاريخ الحديث في جامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة-:
«أنت بحاجة إلى حراك شعبي، وانقسام في الطبقة الحاكمة حيث ينحاز حزب منها إلى الثورة ويُقدّم قيادتها -وإلا فهي مجرد أعمال شغب-، وتحتاج أيضًا إلى أزمة في الدولة، فإذا تحققت تلك العناصر وأدت إلى تغيير النظام يمكننا عندها التحدث عن ثورة.»
يتفق جيلديا مع اعتقاد جونز بحدوث ثلاث ثورات فرنسية حاسمة، ويشير إلى أن تلك ثورات بشكل قاطع؛ ولكن هناك عددًا غير قليل من التمردات الملحوظة الأخرى في التاريخ الفرنسي التي تستحق النقاش ويمكن تفسيرها بأنها ثورات أيضًا.
المسار الثوري
أطاحت ثورة فبراير -آخِر الثورات الثلاث- بالملكية التي كانت قد تم استعادتها في ذلك الوقت وبدأت ما يعرف بالجمهورية الثانية، ولكن لم يمض وقت طويل قبل عودة الاضطراب السياسي إلى فرنسا مرة أخرى؛ فالرئيس المنتخب للجمهورية (لويس-نابليون بونابرت) المعروف أيضًا بنابليون الثالث (ابن شقيق نابليون بونابرت الشهير) قام بحل مجلس النواب دون الاعتماد على أي أساس قانوني.
جعله هذا الانقلاب الحاكم الأوحد لفرنسا، ومنحه الدستور الجديد الحق في أن يكون رئيسًا لمدة عشر سنوات دون قيود على إعادة انتخابه، ولم يتوقف عند هذا الحد، ففي عام 1851 أجرى استفتاءً شعبيًّا لتسميته بالإمبراطور! وجاءت نتيجة الاستفتاء -على غير المتوقع-؛ 97% من الشعب مؤيد للقرار! وفي عام 1852 أُعيدت تسمية الجمهورية الثانية رسميًّا باسم (الإمبراطورية الثانية).
ورغم أن كل هذه الاضطرابات غيرت تمامًا ميزان القوى في فرنسا ولم تكن مبنية على انتخابات حرة ونزيهة، فإن المؤرخين لا يسمونها ثورة لأنها لم تندلع بعنف شعبي. ومع ذلك تزامَن زوال إمبراطورية بونابرت الثانية لاحقًا مع ثورة من نوع ما.
ففي عام 1871 كان واضحًا أن فرنسا على وشك خسارة حربها مع بروسيا، ووقع نابليون في الأسر البروسي. في خضم ذلك الاضطراب السياسي تمكن الجمهوريون من السيطرة على باريس وأعلنوا ما يعرف بالجمهورية الثالثة، ولكن بالرغم من رحيل نابليون وتولي الجمهوريين زمام السلطة، فإن ذلك لا يشير إلى تغيير كبير في سياسات الحكومة! ويقول جيلديا أن هذه لا تُعد ثورة بالمعنى الدقيق للكلمة لأنها مجرد استيلاء على السلطة.
ومع ذلك، فإن رد الفعل العنيف ضد هذه الجمهورية المحافظة -التي لا تختلف كثيرًا عن سلفها- كان له بعض مظاهر الثورة مثل الشوارع المحصنة والقادة الشيوعيين. تُعرف هذه الثورة ب(كومونة باريس)، وقد تمكن اليساريون من السيطرة على العاصمة لعدة أشهر قبل أن تقمعهم الجمهورية الثالثة وتؤكد سلطتها خلال ما عُرف بالأسبوع الدموي. يرى جيلديا أن كومونة باريس كانت ثورة فعلية إلا إنها لم تنجح، وأن هزيمتها كانت لحظة تأسيس للاشتراكية الفرنسية.
استمرت الجمهورية الثالثة حتى هزمتها ألمانيا عام 1940م، واستُبدلت خلال الحرب العالمية الثانية بحكومة فيشي التي تعاونت مع النازيين، إلى أن استبُدلَ ذلك في النهاية بالجمهورية الرابعة بعد تحرير فرنسا والتي كانت نسخة مُعادة من الجمهورية الثالثة، ثم أُعيدت صياغة الدستور لاحقًا عام 1958م لإنشاء الجمهورية الخامسة والتي أعادت تقديم منصب رئيس الجمهورية واستمرت حتى يومنا هذا. لكن هذه ليست نهاية القصة حيث واجهت الجمهورية الخامسة في تاريخها القصير تهديدات خطيرة لوجودها.
ثورة أم حرب استقلال؟
منذ عام 1848م كانت الجزائر تدار كجزء لا يتجزأ من فرنسا، فمن وجهة نظر الحكومة الفرنسية لم يكن إقليم شمال افريقيا مستعمرة بل كانت رسميًا جزءًا من فرنسا مثل باريس نفسها. ربما لا يوافق معظم الجزائريون على هذا الوضع ويقولون إن بلادهم خضعت للقهر والاستعمار من قِبل الفرنسيين. ومع ذلك يشير جيلديا إلى أنه من الممكن الجدال حول هل كانت حرب الاستقلال الجزائرية في منتصف القرن العشرين ثورة فرنسية؟ لكن في الواقع لن يدرجها معظم الناس ضمن الثورات الفرنسية.
إذن، كم عدد الثورات التي قام بها الفرنسيون؟ الإجابة المختصرة: ثلاث، ولكن الإجابة الطويلة: ثلاث ثورات تامّة، وعددٌ ممّا يوشك أن يكون ثورة. خلاصة القول: لم تكن فرنسا مكانًا مستقرًّا سياسيًّا خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.