كوارث كيميائية: كارثة تشيرنوبل

download-2
|||

منذ ثلاثة وثلاثين عامًا وبالتحديد في يوم 26 أبريل سنة 1986، حدثت أحد أعظم الكوارث في تاريخ البشرية من حيث آثارها الممتدة عبر المكان والزمان. في هذا المقال سنقوم بالتعرف على ما وراء هذا الحادث من المنظور الكيميائي وعلى حجم آثاره حتى الآن، وهل يمكن أن تتكرر كارثة تشيرنوبل مرة أخرى؟

تأسيس تشيرنوبل

تميزت مدينة تشيرنوبل بعدد سكانها المنخفض والبالغ عددهم 14000 نسمة سنة 1977، بالإضافة إلى سهولة الوصول إلى المياه عن طريق نهر البريبيات (Pripyat)، وبهذا وقع الاختيار عليها من قبل وزارة الطاقة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية من أجل استقبال محطة للطاقة النووية على بعد 20 كم من مدينة تشيرنوبل. بدأ بناء محطة تشيرنوبل في عام 1970، وفي عام 1977 أُطلِق أول مفاعل من 12 مفاعلًا خُطِط لهم من قبل الاتحاد السوفيتي، حيث كان أملهم بأن تصبح محطة تشيرنوبل أكبر محطة للطاقة النووية في العالم. وبالفعل وصل عدد المفاعلات إلى أربع مفاعلات كل واحد منهم مسؤول عن إنتاج 1000 ميجاوات من الطاقة، بالإضافة إلى مفاعلَين كانا تحت قيد البناء، ولكنّ حدوث الكارثة كان عقبة أمام تحقيق الاتحاد السوفيتي لآماله، فما حدث نسف ما تحقق وأطاح بوجود الاتحاد نفسه. [1]

ضرورة المفاعلات النووية

يهدف إنشاء المحطات النووية بصفة عامة إلى الحصول على الطاقة الكهربائية من خلال المسار التالي: يبدأ بحدوث الانشطار النووي لعنصر اليورانيوم المشع والذي يُنتج طاقة حرارية هائلة تعمل على تسخين المياه، ومن ثم يتصاعد البخار فيعمل على تحريك العَنَفَات (Turbines) فتتحول الطاقة الحركية إلى طاقة كهربائية.

كيف يعمل مفاعل تشيرنوبل؟

صُممت مفاعلات محطة تشيرنوبل من نوع (RBMK) وهو تصميم سوفيتي. لهذا النوع طريقة تخصه في إنتاج الطاقة. تم تصميم كل جزء في قلب المفاعل من أجل القيام بتلك الطريقة. وفي رحلة البحث عن سبب كارثة تشيرنوبل، نحتاج إلى أدوات ومن ضمنها: معرفة ما يجري داخل المفاعل نفسه، وذلك سيتم من خلال الاطلاع على كل جزء في المفاعل والدور الذي يقوم به لكي يُنتج المفاعل الطاقة.

في داخل المفاعل يوجد ما يسمى بقضبان الوقود، وهي وعاء طويل يرتَّب فيه الوقود -مصدر الطاقة- الذي يتكون من كريات من أكسيد اليورانيوم، توضع هذه الكريات في أنابيب معدنية من مادة الزركونيوم (Zirconium) مُحكمة الغلق. لليورانيوم صور مختلفة تسمى بالنظائر، وهي عبارة عن ذرات من اليورانيوم لها نفس عدد البروتونات -الموجبة الشحنة- في النواة وتختلف في عدد النيترونات -المتعادلة الشحنة- الموجودة في النواة. أما معظم اليورانيوم المستخدم في المفاعل فهو عنصر اليورانيوم 238، كما يوجد اليورانيوم 235 ولكن بنسبة صغيرة تصل إلى (3-5%)، وهذا الجزء من الوقود هو الذي يهمنا.
أول خطوات العمل داخل المفاعل أن يخضع الوقود للانشطار النووي. إذن ماهو الانشطار النووي؟ هو عملية يتم من خلالها تحويل عنصر إلى عنصر آخر. يحدث ذلك مع الذرات الثقيلة مثل اليورانيوم ذو العدد الذري الكبير، حيث تصطدم النيترونات بنواة الذرة فتنقسم هاته الأخيرة إلى جزأين أو أكثر، بجانب انقسام النواة يتم تحرير كميات كبيرة من الطاقة الحرارية والإشعاعية.
تتم عملية الانشطار النووي في مفاعل (RBMK) كالتالي: تمتص ذرات اليورانيوم النيترونات، وتنقسم مولدة عنصر الزينون (Xenon-135)، وهو غاز خامل يطلق عليه اسم «سم النيترون» لأنه يمتص النيترونات ويمنعها من الوصول إلى ذرات اليورانيوم، وبالتالي يساعد في إبطاء التفاعل ويساهم في تقليل نشاط قضبان الوقود، وفي النهاية يُحرق الزينون بشكل تلقائي.

عملية انشطار اليورانيوم، تبدأ بامتصاص النيترونات وانطلاق كمية مضاعفة منها بعد الانشطار

إلى جانب انطلاق كمية كبيرة من النيترونات عالية الطاقة والتي تستخدم في قذف ذرات يورانيوم جديدة محدِثةً انشطارات نووية جديدة، وهكذا يستمر اليورانيوم في الانشطار في سلسة من التفاعلات، لذلك يطلَق على هذه العملية أنها مكتفية ذاتيًا.
كما يَنتج عن الانشطار كميات هائلة من الطاقة الحرارية تستخدم تلقائيًا في تسخين الماء لإنتاج البخار الذي يعمل على تحريك العَنَفَات لإنتاج الكهرباء.


إذا استمرت عمليات الانشطار في سلسلة من التفاعلات المتواصلة؛ أي في انشطار تلقائي دون سيطرة على عدد الانشطارت، سيحدث انفجار للمفاعل.. وهنا يأتي دور قضبان التحكم، وهي قضبان مصنوعة من مواد مثل البورون والكادميوم (يصل عددها إلى 211) حيث تمتص القضبان النيترونات مما يمكّن من التحكم في التفاعل (تقليص عدد النيترونات الداخلة في التفاعل). عند خفض القضبان من المفاعل بالكامل يتم إبطاء أو إيقاف التفاعل بعملية الامتصاص، وعند رفعها من المفاعل تحدث تفاعلات أكثر بشكل مكثف تلتقط ذرات اليورانيوم النيترونات بكفاءة أكبر إذا تحركت هاته الاخيرة ببطء، ويُستخدم مهدِّئ النيترونات (moderator) الموجود في المفاعل من أجل ضبط سرعة النيترونات. يوجد نوعان من المهدِّئ، النوع الأول يتمثل في الماء الموجود في المفاعل والنوع الآخر -الموجود في مفاعل تشيرنوبل- مصنوع من الجرافيت، ويوجد خليط من النيتروجين والهليوم بين كتل الجرافيت لمنع أكسدة الجرافيت. [2]

صُمم هذا المفاعل بطريقة جعلته يتميز بخاصيتين تعتبران من إحدى أخطاء تصميم المفاعل. كيف تنشأ هذه الخواص؟ تُضخ المياه إلى المفاعل بغرض تبريد قلب المفاعل وإبطاء سرعته، يتبخر الماء فيسبب الانخفاض في منسوب المياه زيادة في البخار في قنوات الوقود، مع العلم بأن البخار مُحمّل بالنيترونات التي امتصتها المياه الكثيفة، مما يؤدي إلى حدوث الانشطارات في الوقود فترتفع درجة حرارة الوقود وتزيد سرعته مرة أخرى وذلك يسمى بخاصية (معامل الفراغ الإيجابي). لكن زيادة درجة الحرارة تقوم بتقليل تدفق النيترونات وبذلك يحدث سيطرة على التفاعل ويسمى هذا بخاصية (معامل الوقود السلبي). إذن الخطأ الذي حدث هنا هو سيادة تأثير معامل الفراغ الإيجابي والذي وضع المفاعل تحت تأثير درجة حرارة ضخمة جعلته في حالة غير مستقرة. [3]

شكل توضيحي لقلب المفاعل النووي (تشيرنوبل)

كيف وقعت الكارثة؟

قرر فريق عمل في محطة تشيرنوبل القيام بصيانة على المفاعل 4، وكان الهدف منها هو إجراء اختبار للتحقق من إمكانية تشغيل مولّدات الديزل لتُمدّ المضخات المسؤولة عن تبريد المفاعل بالطاقة الكهربية أثناء انقطاع التيار الكهربي عنها. تم البدء في الاختبار من قِبل عمال الفترة المسائية، وبعد انتهاء الفترة تركوا المحطة دون التنسيق وتبادل المعلومات عن الاختبار مع الفريق المسؤول عن تشغيل وسلامة المفاعل النووي. ومن هنا بدأت أول خطوة في الكارثة، ثم توالت الأحداث.

قبل إجراء الاختبار، خفض فريق الفترة المسائيّة كفاءة طاقة المفاعل إلى نصف الطاقة الأصلية حتى أصبحت 1600 ميجاوات، وكان الهدف هو الوصول بها إلى 700-1000 ميجاوات، أدّى انخفاض كفاءة الطاقة إلى تراكم كمية كبيرة من الزينون الذي يعمل على تقليل أداء التفاعل مما تسبب في انخفاض شديد في الكفاءة بشكل مفاجئ إلى 30 ميجاوات، حدث هذا الانخفاض أثناء المناوبة الليلية. قرر الفريق مواصلة الاختبار حيث رفع قضبان الوقود لزيادة كفاءة التفاعل إلى 700 ميجاوات وبذلك تعوَّض الطاقة الضائعة بسبب الزينون. بدأ الاختبار وتوقفت مضخات التبريد التي بدورها تخفض من درجة حرارة المفاعل، ولكن ما حدث هو تحول المياه بشكل كامل إلى بخار، إلى جانب رفع جميع قضبان الوقود. قاد ذلك إلى ارتفاع كفاءة المفاعل إلى مقدار يساوي المستوى الطبيعي عشر مرات، فحدث الانفجار.
دَمر الانفجار قلب المفاعل 4، وكذلك انهارت بنية المفاعل وارتفع عمود الدخان ومنتجات الانشطار المُشِع والحطام من القلب والمبنى إلى حوالي كيلومتر واحد في الهواء، وحدث انفجار أخف لكل منتجات الانشطار وكل مخزون الغاز الخامل.
انتشرت الحرائق في أجزاء مبنى الوحدة الرابعة، ثم تمت السيطرة على تلك الحرائق وإخمادها في غضون 4 ساعات من بداية الانفجار. ولكن بدأت حرائق الجرافيت تشتعل، وقامت بتشتيت الإشعاع والشظايا في الجو حيث استمر الإشعاع لمدة عشرين يومًا، وبدأ ينخفض بعد اليوم العاشر، أي بعد إخماد حرائق الجرافيت. [3]

أثر الكارثة

أثناء وقوع الكارثة؛ كانت مستويات الإشعاع عالية جدًا في مبنى المفاعل لتُسبب ما يكفي من جرعات مميتة في دقائق، لم يكن طاقم العمل ورجال الإطفاء والتنظيف على علم كافٍ بمستوى الإشعاع، واعتقدوا أنه بالإمكان السيطرة على الانفجار بضخ الماء، مما تسبب في تلقيهم معظم الجرعات المميتة. وقد أشارت التقديرات في نهاية المطاف إلى حوالي 10000 حالة وفاة بسبب الإشعاع.
بشكل عام، تأثر أكثر من مليون شخص بالحادث، حيث صدر الإشعاع من منطقة الحادث أكثر من 400 مرة من كمية القصف الذري على هيروشيما، واكتُشِف لاحقًا من جميع أنحاء أوروبا. تسبب الإشعاع في مشاكل صحية مثل متلازمة داون، وانحرافات الكروموسومات، والطفرات، وسرطان الدم، وسرطان الغدة الدرقية، والعيوب الخَلقية مما أثّر أيضًا على جميع أجزاء البيئة .
في الوقت الحالي مستويات الإشعاع أقل بكثير مما كانت عليه منذ عشرين عامًا، وقد أصبح بالإمكان زيارة منطقة المفاعل لفترات زمنية قصيرة. [4]

هل يمكن أن يحدث تشيرنوبل مرة أخرى؟

يوجد عدد قليل جدًا من المفاعلات من نوع (RBMK) وكلها في روسيا، بعد الكارثة أُجريت تعديلات تجعلها أكثر أمانًا وأكثر اطمئنانًا. المفاعلات الموجودة في الوقت الحالي هي من نوع مختلف وتُشكل مخاطر أقل بكثير وهي:
مفاعلات الماء المغلي (BWR): تعمل على أساس أن الماء الموجود في قلب المفاعل هو مصدر البخار الذي يحرك التوربينات (العَنَفَات)، وبذلك تكون التوربينات معرضة للإشعاع لذلك يجب حمايتها عندما يكون المفاعل نشطًا.
مفاعلات الماء المضغوط (PWR): توجد المياه في المفاعل تحت ضغط ويُستخرج منها البخار لإدارة التوربينات. يُمثل هذا النوع من المفاعلات معظم المفاعلات النووية الموجودة في الغرب. [2]

المصادر:
المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث
المصدر الرابع

إعداد: هاجر عبد العزيز
مراجعة علمية: ياسين أزناي
تدقيق لغوي: هاجر زكريا
تحرير: هدير جابر

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي