دائماً ما كانت قضية النفط من أبرز القضايا المطروحة على الساحة السياسية والاقتصادية على حدٍّ سواء، فالنفط هو عصبُ الصناعات، والعمود الفقري لأيِّ نظامٍ اقتصادي، بغض النظر عن حجمه وقوته، ما أدَّى إلى تسميته بالذهب الأسود.
وعلى ذلك فإن أيَّ هزةٍ أو حدثٍ يتعلَّق بأسعار النفط أو إنتاجه دائماً ما يتصدر اهتمام الصحف والمواقع الإخبارية، بل وتشغل الرأي العام بشكلٍ واسع، ويرجع ذلك إلى أهمية النفط بالنسبة للأفراد قبل المنشآت الصناعية والشركات.
وقد كان لظهور فيروس كورونا المستجد تأثيراً كبيراً على أسواق النفط التي تخضع مثلها مثل كل الأسواق لآلية العرض والطلب، لذا دعونا نصحبكم في رحلةٍ عبر هذه المقالة لنخوض حديثاً مطولاً حول كل ما يلزم معرفته حول تاريخ النفط وأبرز الأزمات التاريخية التي حدثت في هذا الصدد.
ماهية النفط وتاريخ اكتشافه
دعونا في البداية نتعرف إلى ماهية النفط، النفط وفي إيجازٍ شديدٍ وبعيداً عن أيِّ تفاصيلَ فنية هو عبارة عن مادة طبيعية أو بالأحرى تكوينات جيولوجية تخرج من جوف الأرض، وهو حينما يُستخرج من جوف الأرض يُسمَّى «نفط خام» والذي يخضع لاحقاً لعمليات تكرير للحصول على أنواع مختلفة من المنتجات النفطية مثل البنزين ووقود الطائرات وما إلى ذلك، وقد يعتقد البعض بأن النفط هو اكتشاف حديث نسبياً، إلا أنه وفقاً لكتابات المؤرخ الإغريقي هيرودوت وديودور الصقلي وغيرهما، ثبت أن الشعوب القديمة قد عرفت النفط أو مشتقاته من «القار أو الأسفلت» التي كانت تتواجد في تجمعات طبيعية عبارة عن برك نفطية ارتشحت بسبب عوامل التصدع الطبيعية من باطن الأرض إلى السطح، حيث اُستخدِمَت في بناء مدينة بابل القديمة، واستُخدِمَت كذلك في بلاد فارس ومنطقة الشرق الأدنى، خاصَّةً في صناعة السفن.
ولكن ما إذا نظرنا إلى التاريخ الحديث سنجد أن صناعة النفط بدأت بشكلٍ حقيقي وفعلي في منتصف القرن التاسع عشر، وكان ذلك بفضل جهود العديد من العلماء الذين حاولوا الحصول على السوائل الهيدروكربونية عن طريق معالجة الفحم، وبدون الاستغراق في التفاصيل والجهود العلمية -التي يمكن أن تكون محل الحديث في مقالات أخرى عديدة- حسبنا هنا أن نعرف أنه قد أُنشِئت أول مصفاة نفطية بمعناها المعروف حالياً في العام 1856 في مدينة بوليستي الرومانية، وأن عمليات التنقيب عن النفط في الدول العربية بدأت فعلياً بعد مطلع القرن العشرين، وبالتحديد بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث اُكتشِفَ النفط في العراق في العام 1927، وفي شبه الجزيرة العربية في العام 1932 في البحرين، وبعدها جاءت السعودية والكويت وقطر في العام 1938، وتلتها باقي الدول العربية الأخرى.
والآن وبعد أن تعرفنا إلى ماهية النفط وتاريخ اكتشافه بشيء من الإيجاز، دعونا نتحدث أكثر عن بعض الأمور الهامة الأخرى التي ستعطينا قدرة عالية على فهم متغيرات قضية النفط في الوقت الحالي.
تصنيف النفط
هنالك عدة أساليب مختلفة يُصنَّف من خلالها النفط، يقوم بعضها على التصنيف حسب الموقع الجغرافي الذي اُستخرِجَ النفط منه، ويقوم بعضها الآخر على التصنيف حسب الكثافة النوعية أو محتوى النفط من الكبريت.
ولكي لا تتداخل علينا التفاصيل ونتيه بين أسماءِ ونسبِ المركبات الكيميائية، يمكننا تلخيص الأمر في نقطتين واضحتين؛ الأولى أن النفط حينما يُصنَّف حسب الكثافة نجد أن هنالك نفطًا خفيفًا ونفطًا ثقيلًا، ويُعتبر النفط الخفيف هو الأعلى من حيث الجودة والسعر، وعلى النقيض نجد أن النفط الثقيل هو الأقل من حيث الجودة والسعر.
وكذلك ما إذا نظرنا إلى تصنيف النفط من حيث نسبة احتوائه على الكبريت، سنجد أن هنالك نفطًا حُلوًا، وهو النفط الذي توجد به نسبة كبريت منخفضة وهو الأعلى من حيث الجودة والسعر، ولكن إذا كانت نسبة الكبريت فيه مرتفعة يُعرف حينها بالنفط الحمضي، وهو بطبيعة الحال أقل من حيث الجودة والسعر، وعلى ذلك يمكننا القول بأن النفط الخفيف الحلو هو أجود أنواع النفط على عكس النفط الثقيل أو الحمضي، وذلك لأن النفط الخفيف الحلو يشمل كمياتٍ أكبر من وقود السيارات والطائرات بالإضافة إلى سهولة معالجته، ويكون الأمر على النقيض في حالة الخام الثقيل.
اللاعبون الأساسيون في سوق النفط
حينما نتحدث عن اللاعبين المؤثرين في عالم النفط يجدر بنا الحديث عن أولى الدول المنتجة وكذلك المستهلكة للنفط، فما إذا نظرنا إلى الإحصاءات سنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر مستهلك للنفط في العالم بإجمالي 20 مليون برميلٍ يومياً حسب إحصاءات عام 2018. يأتي في المركز الثاني الاتحاد الأوربي، وبعده الصين والهند واليابان على التوالي.
ومن حيث الإنتاج نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً أولى الدول المنتجة للبترول، تليها المملكة العربية السعودية وروسيا والعراق على التوالي، وبذلك يمكننا التوصل إلى بعض الملحوظات الهامة، أولها أن الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية (أوبيك) بالإضافة إلى روسيا هم اللاعبون الأقوى والأكثر تأثيراً في عالم النفط، وأن سياسات هذه الدول هي التي تشكل وتضع السياسات التي ترسم ملامح أسواق النفط ذلك مع ثبات العوامل الأخرى.
أزمات النفط السابقة
أزمة نفط 1973
تُعتبر أزمة النفط التي حدثت في العام 1973 مثالاً واضحاً لمدى الارتباط الوثيق بين السياسة والاقتصاد التي لفتت أنظار العالم بأكمله إلى كون الاقتصاد والتجارة الدولية بمثابة سلاحٍ فعَّالٍ على الساحة السياسية.
بدأت صدمة النفط الأولى في 15 أكتوبر لعام 1973 حينما قامت الدول العربية المصدرة للبترول بإعلان حظرٍ نفطيٍّ تام عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، وذلك لدفع الدول الغربية على إجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في عام 1967، وقد تسبب ذلك بجانب انهيار سوق الأوراق المالية عام 1973-1974 إلى حدوث تأثيراتٍ عنيفة للغاية تُعتبر الأقوى منذ الكساد الكبير.
أزمة نفط 1979
يُطلق عليها كذلك أزمة النفط الثانية، التي وقعت أعقاب الثورة الإيرانية التي تسببت في هروب شاه إيران محمد رضا بهلوي من البلاد عام 1979، مما سمح لآية الله الخميني بالسيطرة على البلاد، حيث أدَّت الاحتجاجات إلى تدمير القطاع النفطي في البلاد، مما أثَّر على الكميات المعروضة في السوق. في الوقت ذاته، حاولت المملكة العربية السعودية زيادة إنتاجها بكل ما تملك من قوة للتخفيف من حدة الأزمة وتعويض النقص الذي يعاني منه السوق. ومع ذلك، سبَّبَ الأمر ذعراً واسع النطاق ترتب عليه زيادة عالية في أسعار النفط.
أزمة نفط 1990
ويُطلَق عليها أيضاً أزمة النفط الثالثة، وهي تلك التي حدثت إبان غزو العراق لدولة الكويت، مما أدَّى إلى احتلال الكويت لمدة سبعة أشهر، وحرق آبار النفط الكويتية، والتي انتهت بتدخلٍ عسكريٍّ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية حينما برَّرَ العراق غزوه باتهام الكويت بسرقة نفطه من خلال الحفر المائل، وكان العراق قد اقترض من الكويت ما يقرب من 14 مليار دولار أثناء حرب الخليج الأولى التي لم تُسدَّد حينها.
على كل حال، قد ساعد تدخل الولايات المتحدة الأمريكية السريع في التخفيف من حجم المخاطر المحتلة التي تهدد إمدادات النفط في المستقبل، وبالتالي تهدئة السوق واستعادة الثقة في آلية العرض.
ربما كانت هذه نظرة سريعة على أبرز أزمات النفط التي سبَّبَت هزَّاتٍ عنيفةٍ كان لها تأثيرٌ قوي وصل صداه إلى أنحاء العالم بأكمله، ولا يعني ذلك أن الأمر قد اقتصر على هذه الأزمات فقط ولكن هذه كانت أبرزها وأقواها. ولكن ما إذا حاولنا رصد كل الأزمات على سبيل الحصر فلن يسعنا ذلك في مقالة واحدة، والآن دعونا نترك الماضي قليلاً ونتطرق إلى الحاضر والمستقبل.
كورونا والنفط
الآن وقد ظهر لاعبٌ جديد على الساحة وهو فيروس كورونا المستجد، وهو لاعبٌ رغم كونه غيرَ مرئيٍّ وذا طبيعيةٍ مختلفة، إلَّا أنَّ تأثيره مرعب وسريعٌ للغاية، فقد تسبب في توقف معظم أشكال الحياة الطبيعية، بما في ذلك الأنشطة الصناعية والاقتصادية وحركة الطيران الدولية في محاولةٍ لتقليل نسبة العدوى بعد أن عصف بمئات الآلاف من البشر.
وعلى ذلك وبشكلٍ سريع، انخفض استهلاك البترول، وبالتالي انخفضت الكميات المطلوبة مع ثبات المعروض، بل وزيادة المعروض أكثر من السابق بسبب الأزمة التي وقعت بين المملكة العربية السعودية وروسيا، مما أدَّى إلى انخفاض أسعار البترول بشكلٍ غير مسبوق.
ولكن التدهور الذي حدث منذ أيامٍ قليلة، الذي سُمِّيَ بالإثنين الأسود، والذي وصلت فيه أسعار نفط غرب تكساس إلى ما دون الصفر، كانت حالةً استثنائية تتعلق بالعقود الآجلة، وسوف نورد لاحقاً مقالةً تتناول مفهوم العقود الآجلة ونشأتها التاريخية، ولكن يكفي أن نوضح بأن ذلك التدهور كان تدهوراً مؤقتاً بسبب قرب انتهاء العقود الآجلة، في حين أن الأسعار أخذت في الصعود مرة أخرى في التعاملات اللاحقة.
كيف سيؤثر ذلك على الدول العربية
لنجيب عن هذا التساؤل يجب علينا أولاً أن نتابع قرارات الدول العربية التي تعتمد على إنتاج النفط الفترة المقبلة، لنرى كيف سينعكس انخفاض النفط على موازنتها، وما إذا كانت الأزمة ستُسبِّب عجزاً لديها أم لا، فالمشكلة لا تنال المملكة العربية السعودية فحسب، فإذا نظرنا عن كثب، سنجد أن الجزائر -التي تمر بمرحلة انتقالية- يعتمد اقتصادها على النفط والغاز وما لذلك من تأثير على قطاعات الاقتصاد الأخرى، كذلك الأمر في العراق، حيث يعتمد الاقتصاد بالكامل على النفط والغاز وتذهب الميزانية بالكامل لدفع رواتب العاملين، حيث إننا قد نرى احتجاجاتٍ قريباً تُندِّد بالأوضاع الاقتصادية في البلاد. ولكن بوجهٍ عام، يتوقف الأمر على السياسات الحكومية المعتمدة في كل بلد، وحجم الدعم الموجه للوقود.
كيف يمكننا متباعة الأمر في الفترة المقبلة؟
يمكن متابعة كافة التطورات التي تتعلق بقضية النفط من خلال متابعة قرارات الدول اللاعبة على الساحة النفطية مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وروسيا وإيران والعراق وغيرها، كما يمكن متابعة بورصة نيويورك وبورصة إنتركونتينتال التي تتم من خلالها تعاملات خام برنت وخام غرب تكساس.
كما يتوقف الأمر بشكلٍ كبير على تطورات فيروس كورونا المستجد، حيث إنه يلزم التوصل إلى لقاحٍ في أسرع وقتٍ ممكن حتى تعود الحياة إلى طبيعتها.
وحتى في هذه الحالة سنرى تغيراتٍ جذرية في أسعار النفط، حيث سيكون علينا استخدام النفط المُكدَّس، وسنحتاج إلى وقتٍ كافٍ لتعود الأسعار ببطء إلى مستوى 30-35 دولار للبرميل.
المصادر:
المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث
المصدر الرابع
المصدر الخامس