عبر التاريخ؛ انخدع الأفراد والجماعات بأنه يُمكنهم التغلُّب على مشكلات الحياة فقط بتظاهرهم بأنهم معصومون من الخطأ. العين بالعين، والسن بالسن؛ فهم يتمسَّكون بأيّ تبريرٍ زائفٍ يدَّعون بأنه يسحق كل المُعوِّقات لسلطتهم المُطلقة. وهذا هو ما نُسمّيه بالنرجسيّة.
كيف يكون الشخص النرجسي البحت؟
في أحاديثنا اليوميّة نقول على شخصٍ ما إنه نرجسيٌّ إذا اغترَّ الشخص بنفسه أكثر مما يجب، مع شعورٍ طاغٍ بأهميّته؛ وكأنه محورُ الكون، فهو يكون في حاجةٍ شديدةٍ إلى الاهتمام والإعجاب المُفرِطَين. بالإضافة إلى افتقاره للتعاطُف مع الآخرين، حيث يسطير عليه إحساسُه بأنه ينحدر من سلالةٍ أسمى من غيره من البشر.
ولكن في علم النفس، هناك مقياسٌ حتى نقولَ إن الشخص مصابٌ باضطراب الشخصيّة النرجسيّة (اعرف المزيد عن اضطراب الشخصيّة النرجسيّة من هنا).
إن الانحياز التأكيديّ، والدافع النفسيّ لاحتضان كل ما يؤيّدنا، ونبذ كل ما يعارضنا هو مشكلةٌ يجب أن نتعلَّم جميعًا كيفيّة إدارتها. فبالمقابل، يتعامل النرجسيّون المطلقون مع الانحياز التأكيديّ باعتباره حلًّا لجميع مشاكلهم.[2]
ويتطلَّب الأمر لكي تكونَ نرجسيًّا بحتًا انضباطًا من نوعٍ غريب؛ وهو ألَّا تكونَ منضبطًا على الإطلاق، فلا اتّساق في تبريراتهم المُتَعَنِّتة والزائفة. الانضباط في ذكر كل شيء “يثبت إنني على حق” بدون الاهتمام بالواقع، أو معنى ما أقول، بما أن كل ما يهم هو الحفاظ على مظهر الفوز، والتصرف كإنسانٍ آليٍّ مُبرمَج للتظاهر بالتغلُّب على كل تحدٍّ، ومبرمج لنسب كل الانتصارات لنفسك، وكل الخسارات لمن يتحدى أو يهدد سلطتك.
ولتصبح نرجسيًّا بحتًا؛ لايحتاج المرء سوى أن يعرفَ كيف يتصرَّف كمُتحاذقٍ كُليٍّ. فلا عجبَ أنه كان خيارًا مُغريًا عبر العصور.
ولِيبقى نرجسيًّا بحتًا متعنتَ الفكر؛ لا يمكن أنْ تكونَ هنالك سوى رسالة «انظر! لقد فزت» التي لا تعرف الكلل، ولكن لإخفاء هوسهم بالذات فإنه يتوجَّب عليهم التظاهرُ بأنهم يملكون رسالةً أخلاقيَّةً ما. ولذلك فإنهم يخفون أنفسهم داخل أيّ حملة باطلة تُبرِّر إعلان حرب شاملة على كل منافسيهم. وتشتيت منافسيهم، ممّن يأخذون معنى الكلمات على محمل الجد ويحاولون التوصُّل إلى الصواب.
وعلى مر التاريخ، أثبت النرجسيّون مرارًا وتكرارًا أن الفرد لا يحتاج إلى رؤية؛ بل فقط التذرُّع بواحدة.
ككل المُحتالين، يمكنهم تزييف سلسلة جيّدة من الفوز المتواصل وكسب متابعة الساذجين الذين يريدون نصيبًا من تلك الانتصارات.
وهكذا على مر العصور، كانت هناك أيضًا أوبئةُ النرجسيّة البحتة وطوائف مُتحمسة لاكتشافها طريقةً للهروب من الواقع فقط من خلال اعتبار انحيازهم التأكيديّ كحلٍّ لجميع مشاكلهم.
إن النرجسيّين استعراضيّون، فهم يُراوغون كما لو كانتْ محادثة بشرية عادية، وعندما تكون قد تعلَّقت، فإنهم يفتحون معاطفِ المطر الخاصَّة بهم ويكشفون عن حصانتهم المُطلقة المقتضبة الضئيلة. وهم يفعلون ذلك بثقةٍ لمعرفتهم بأنهم يستطيعون الفوز بغضِّ النظر عن كيفيّة استجابتك، فهم مُستعدّون لردِّ فعلك مهما كان. إن وبختهم سيدعونك بالمُتزمت، وإن تجاهلتهم سيدعونك بالجبان، وإذا حاولت أن تكون لطيفًا معهم سيدعونك بالضعيف، وإن ثُرتَ سيدعونك بالمضطرب، وإن هاجمتهم سيُعنّفونك لكونك غير حضاريّ. فهم يُهيّئون أنفسهم تلقائيًّا وآليًّا بأيّ طريقة للحفاظ على مظهر حصانتهم الزائف.
لم يجد أيّ مجتمع أبدًا ترياقًا لوباء النرجسيّ البحت، ولكنْ بدلًا من ذلك ماتتْ الأوبئة في نهاية المطاف؛ لأنه لا أحدَ يستطيع ادّعاء أنه أكثرُ صوابًا من الحقيقة إلى الأبد.
وتخسر هذه الحركات في نهاية المطاف معركتها ضد الواقع، ولو أنها كثيرًا ما تتسبَّب في دمارٍ شاملٍ أثناء هذه العملية. وإن السبب الأكثر ترجيحًا لانقراض البشريّة في نهاية المطاف هو التحيُّز التأكيديّ الجامح للحركات النرجسيّة البحتة سواء من خلال السيطرة العالميّة أو من الاشتعال الناتج عن المعارك بين الحركات النرجسيّة البحتة المُتعارضة.
هناك تحدٍّ حيَّر الكثير من البشر طوال الوقت، ألا وهو: كيف تستطيع إيقاف النرجسية ومواجهتها؟ كيف توقف الناس والحركات التي ما يزال هدفها هو أن تظل لا تُقهر؟ إليك بعض الحلول والتي من الغريب أننا لا نجربها كل يوم!
لا تحاول إقناع نرجسيٍّ بحت. بدلًا من ذلك، استهن بهم، وقاطعهم، استنزّفهم في أي تبادلٍ يستمع الآخرون إليه، سواء وجهًا لوجه أو في تبادل على وسائل التواصل الاجتماعيّ. تجاهلْهم أثناء الحديث، فهم فقط يتظاهرون بأنهم لا يُقهروا. ولكن ارسمْ حدودًا في التعامُل معهم، وحاول أن لا تنخرطَ عاطفيًّا أثناء جدالك. وإن أمكن، تجاهلهم تمامًا واقطع أي علاقة لك بهم، احترامًا وتقديرًا لذاتك؛ لأنه لا جدوى من الانخراط في أي علاقة معهم.
كيف تُقاطع النرجسي البحت؟
النرجسيّون مزيّفون ذوو خدعة واحدة. ويركزّون بعنادٍ على خدعتهم الواحدة تلك، سيقولون أي شيءٍ ليُشعروا أنفسهم كالفائزين، مثل بعض الحثالة الاستعراضيّين الضئيلين.
سيثأر النرجسيّ البحت. ومع ذلك، امتلاكه فقط لتلك الخدعة الوحيدة؛ فسيؤكد كل ما يقولون اتهامك.كُن بلا رحمة، ولا تقع لأي من مصادر الإلهاء التي يلقونها. فهم لا يُلقون بالًا للنقاش الموضوعيّ إلا كعذرٍ للتظاهُر بأن كل ما يتحداهم خاطئٌ، فلا ترتبك.
اترك أخلاقك الشخصية خارج الأمر، لا توبِّخ استنادًا إلى معاييرك الشخصيّة، فمهما كانت معاييرك سيجعلك النرجسيّ البحت على خطأ لمجرد امتلاكك لها. هناك حقًّا قضيّةٌ أخلاقيّةٌ واحدةٌ وشمولها أنه: لا أحد يتغلَّب على الحقيقة. والحقيقة، التي لا يهتمُّ بها النرجسيّون على الإطلاق، فتهزم الحقيقة جميع النرجسيّين مهما ادَّعوا، مُصرّين، سيطرتَهم عليها.
لا داعي للدفاع عن نفسك، فسيحاولون الإيقاع بك في شِرك التشكيك بمعاييرك الأخلاقيّة بالتظاهُر بالاهتمام بالمعايير الأخلاقيّة التي لا يلقون بالًا لها. ويحركّهم المنطقُ الافتراضي، فإذا استطاعوا إيجادَ أي خطأ بك فهذا يثبت أنهم على صواب تلقائيًّا، وتدوّي صافرات إنذار شرطة الأخلاق الخاصة بهم عاليًا حتى لا يضطروا إلى سماع نفاق أنفسهم. لا تدع نفسك تنخدع، كن فخورًا بمعصوميّتك البشريّة ووبخهم لتظاهرهم بأنهم معصومون عن الخطأ بشكلٍ غير بشريّ.
فعلى سبيل المثال، إن ادعوا الاحتشام قائلين: لا تكن قاسيًا ناعتًا للأسماء، فقل للجمهور: هذا الأحمق لا يدرك أن مطلق الألقاب هو اسمٌ، فجميعُنا نطلق الألقاب، وقاسون أحيانًا. فأنا أحاول أن أطلقَ الألقاب بدقّة، وأكون قاسيًا عندما يكون ذلك واجبًا. وهذا النرجسيّ لا يهتم بإطلاق الألقاب أو القسوة، فهم يدّعون الاهتمام عندما يساعدهم هذا بالتظاهر بأنهم محقون وصالحون إلى الأبد. يا له من شيءٍ يُرثى له!
ابقَ هادئًا، ودودًا حتّى، للشخص الذي يختبئ داخل عباءَة النرجسيّة البحتة المزيّفة بالعصمة من الخطأ، كن خفيفَ الظل، فُكاهيًّا حتّى، فهذا ليس بشيءٍ شخصيّ. فأي شخص يمكن أن يكون نرجسيًّا بحتًا، فهم يظنون أنهم مميّزون، بل على العكس من ذلك؛ فهم ليسوا سوى كغيرهم في طابورٍ طويلٍ ممّن يستصعبون مواجهة الواقع ويستسهلون تركه. لا تدع أحكامك الانتقاديّة تشتّتك، وكأن وصفَ شخصٍ ما بالنرجسيّ البحت هو كالحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
إن النرجسي البحت مدمنُ شماتة، مدمنٌ تمامًا على نمط حياة الشماتة. وأنت تتدخَّل لأنك مُتفائلٌ بأنه بإمكانهم التغلُّب على إدمانهم. سينفون ذلك وسيوبخونك لإطلاق الأسماء عليهم، وهذا لا يختلف عن استياء مدمنِ كحول من دعوته بذلك الاسم.
والمثير للسخرية هنا هو كونك أكثر تفاؤلًا من النرجسي البحت، فأنت تعتقد أنه يمكنهم التخلّي عن تعظيمهم لذاتهم الآليّة والانضمام مرةً أخرى إلى ذاتهم البشريّة. بالنسبة لك فهو نمطُ حياةٍ مميت يمكنهم التخلّي عنه، أما بالنسبة لهم فهو كيانهم غير القابل للتغيير. وإذا اعتقد أحدٌ أن حالته دائمة؛ فهذا النرجسي البحت.
أظهِر الثقة، ليس من خلال بعض المواقف الاستراتيجيّة التي تحاول الحفاظَ عليها خلال مناورات النرجسي؛ ولكن من معارضتك الغريزيّة لكل النرجسيين لادّعائهم بأنهم آلهة وسادة، وليسوا تابعين للواقع. ولو حاول نرجسيٌّ إغواءَك من خلال الرضوخ لكل اهتمام ومطلوب لك؛ فستحاول أنت أيضًا أن توقفهم. فأنت لا تحارب معتقداتهم، فهم لا يؤمنون بشيء سوى معصوميّتهم المطلقة، فأنت تقاتل ضد النرجسيّة البحتة.
وأنت إنسانٌ مُعرَّضٌ للخطأ يحاول التكيُّف مع واقعنا المُتغيّر بسرعة، تمامًا كما كان النرجسيّ، فالحياة كانت، وما تزال، تجربةً وخطأً ووهمًا مشكوكًا فيه. كن فخورًا بحدسك دائم التطوير.
لا تدع النرجسيّ البحث يحوّل النقاش إلى معركةِ فوزٍ كُلي أو خسارة كُلية من أجل عصمة زائفة، حيث إذا اعترفت بإنسانيتك يثبت فجأة أنك أبديًّا مخطئٌ كليًّا، بل تتم تبرئتهم ويثبت فجأة أنهم أبديًّا محقون تمامًا بشأن كل شيء. لا أحد معصوم من الخطأ، وأي أحد يتظاهر بذلك يستحق ركلة سريعة وعنيفة. ركلك لهم لا يعني أنك معصوم، فلا تسايرهم؛ كل شخص معرضٌ للخطأ.
لطالما انتصرت اللامعصوميّة (أي كون الشخص عرضة للخطأ) لأن الواقع ليس متأثرًا بتكبُّر النرجسية، الواقع سيأخذ مجراه، وجل ما نستطيع فعله هو محاولة أقصى ما لدينا بشريًّا للتعايش معه، بدءًا بتعلم كيفية إخراس الجهلة ومُدعي المعرفة من النرجسيين الذين يتظاهرون بأنهم لم يعودوا بحاجة إلى التعلُّم.
وعند النرجسيين ليس الأمر أن الإمبراطور بلا ملابس؛ بل إن الإمبراطور ليس سوى مجرد ملابس، فهو درعٌ بلا روح، يمكنك إحراج ذلك الدرع الفارغ أمام جمهور، وهذه هي الطريقة التي تُخجل بها نرجسيًّا للعودة إلى صوابه البشريّ المعرض للخطأ.
والخلاصة، لا تبدأ جدالًا مع نرجسيٍّ بحت. النرجسية البحتة مرض يجب علاجُه بالجلسات النفسيّة وبالأدوية أيضًا، ولكن لا يُدرك النرجسيُّ مرضَه ويستمر في تعنُّته، وإن حدثت معجزة وأدركها؛ فَدَاءُ العظمة لديهم يمنعهم من الاعتراف لفظيًّا بذلك وطلب المساعدة من المُختصّين. فإن كان ذلك النرجسيّ قريبًا لك، فخذه واذهب لأقرب عيادة طبيب نفسي، وإن كان رئيسك فحاول أن تتجنبه قدر ما يمكن، ولا تحاول استخدام الطريقة السابقة إلا إذا كنت قد مللت من وظيفتك، وإن كان ذلك صديقًا أو حبيبًا فاقطع علاقتك به، وابتعد عنه بأقصى ما يمكن.
أما اذا كان الشخص أحد أباطرة أو ملوك القرن السادس عشر بإنجلترا فبإمكانه أن يكون نرجسيًا بحتًا كما يريد، ولكن في عصرنا هذا لا أحد لديه الصبر الكافي للتعامل مع هذا الهراء، إلا إذا كان طبيبًا نفسيًّا أو قديسًا.