لأول مرة، تم تحديد تسلسل جينومات الزرافة وأقرب نسيب لها، (الأكاب المتوحد-The Reclusive Okapi) والذي يرجع أصله إلى الغابة المطرية الإفريقية، وهذا يعني استكشاف الأدلة الأولى عن التغيُّرات الوراثية التي قادت إلى تطور رقبة الزرافة الاستثنائية الطويلة وجعلت الزرافة أطول مخلوقات العالم البريّة.
يقول (دوغلاس كافينير-Douglas Cavener) من جامعة ولاية بنسيلفانيا، والذي قاد فريق البحث مع (موريس أغابا-Morris Agaba) من معهد نيلسون مانديلا الإفريقي للعلوم والتكنلوجيا في تنزانيا: «إنّ قَوَام الزرافة التي هيمنت عليها رقبتها وسيقانها الطويلة، وطولها الكليّ الذي يصل إلى 19 قدم (حوالي ستة أمتار)، هو عمل استثنائي رائع من التطور الذي دام لحوالي 8,000 سنة، أي منذ وقت النحت الحجري الشهير في (دابوس-Dabous) في جمهورية النيجر».
يقول كافينير الأستاذ الجامعي لمادة الأحياء، و(فيرن ويلامان-Verne M. Willaman) عميد كلية (إيبيرلي-Eberly) للعلوم في جامعة بنسيلفانيا: «إنّ التغيرات التطورية المطلوبة لتكوين هيكل الزرافة الضخم، ولإعطائها التعديلات المطلوبة لقدرتها على الركض السريع، وفعاليات جهازها القلبي الوعائي القوية ظلّت مصدراً للغموض العلمي منذ القرن التاسع عشر، عندما احتار (تشارلز داروين-Charles Darwin) في الأصول التطوريّة للزرافة». قلب الزرافة كمثال يجب أن يَضُخ الدم مِترين إلى الأعلى كي يزود الدماغ بكمية وفيرة من الدم. إن قلب الزرافة الذي تطور ليحتوي على بطين أيسر كبير بشكل غير معتاد هو الذي جعل عملية الضخ هذه ممكنة، وكذلك فإن ضَغط دمِها هو ضعف ضغط الدم عند الثدييات الأخرى.
لكي نتعرف على التغيّرات الوراثية المسؤولة على الأرجح عن الصفات الفريدة للزرافة، بالإضافة إلى قدرتها على الركض السريع الذي قد يصل إلى 37 ميل في الساعة (60 كم في الساعة)، قام كافينير وأغابا بمقارنة التسلسلات الجينية للزرافة وحيوان الأكاب مع أكثر من أربعين من الثدييات الأخرى، بما فيها البقر والغنم والماعز والجمل والإنسان. يقول كافينير: «التسلسلات الجينية لحيوان الأكاب متشابهة جداً مع التسلسلات الجينية للزرافة، لأن الزرافة والأكاب قد تباينوا من سلف مشترك منذ 11 إلى 12 مليون سنة، والذي يعتبر منذ عهدٍ قريب نسبياً في المقياس الزمني للتطور، وعلى الرغم من هذه العلاقة التطورية القريبة، فإن الأكاب يبدو شكله أقرب إلى الحمار الوحشي، ويفتقر إلى طول الزرافة المهيب وقابلياتها القلبية والوعائية المثيرة للإعجاب. لذا فإن تسلسل جينوم الأكاب يعطي صورة فعّالة استخدمناها للتعرف على التغيرات الوراثية الفريدة للزرافة».
باستخدام مجموعة من الاختبارات المقارنة لدراسة تسلسلات جينوم الزرافة والأكاب، اكتشف العلماء سبعون جين أظهر دلائِل عدة على التكيُّف. يقول كافينير: «هذه التكيّفات تشمل تسلسل فريد للأحماض الأمينية التي يعتقد بأنها تغير وظائف البروتين، وانحراف تسلسل البروتين، والانتقاء الطبيعي الإيجابي». أكثر من 70 كود جيني للبروتينات معروف بأنه ينظم تطور وفسّلجة الهيكل العظمي والجهاز القلبي الوعائي والجهاز العصبي. هذه الأنواع من الجينات يُعتقد بأنها ضرورية لقيادة تطور الصفات الفريدة للزرافة.
ومن بين أحد الاكتشافات التي قام بها فريق البحث هي أن من بين الجينات التي أظهرت دلائل على التكيّف في الزرافة هي جينات معروفة بأنها إما أن تنظم تطور الجهاز القلبي الوعائي أو أن تسيطر على ضغط الدم. بعض من هذه الجينات تسيطر على كلاً من التطور القلبي الوعائي والتطور الهيكلي، واقترح الفريق احتمالية كون قوام الزرافة وجهازها القلبي الوعائي المميز قد تطور بشكلٍ متناغم خلال تغير عدد قليل من الجينات.
واكتشف العلماء أيضاً أدلة وراثية تدل على تطور رقبة وساق الزرافة، والتي لها نفس العدد من عظام الرقبة والساق عند البشر والثديات الأخرى. يقول كافينير: «لكي يتحقق طول غير طبيعي للزرافة، فإن تطورًا قد طرأ على عظام الساق وعمودها الفقري ليسمح لهذه العظام بأن تتمدد بشكل كبير، ولكي يحدث هذا التطور فإنه يتطلب اثنان من الجينات، أحدهما ليحدد المنطقة من الهيكل العظمي المطلوب نموها، والآخر لكي يحفز عملية النمو». ومن بين الجينات الـ70 التي اكتشفها فريق البحث بأنها مختلفة جدًا في الزرافة عن الأكاب، هي جينات مسؤولة عن كِلا هاتين الفعاليتين.
يقول كافينير: «إن من أكثر الجينات المثيرة للاهتمام هو الجين (FGFRL1)، والذي يحتوي على تجمعات من بدائل الأحماض الأمينية والتي هي فريدة للزرافة وهذه التجمعات موجودة في مكان البروتينات التي
تربط (عوامل نمو الألياف-Fibroblast growth factors)عائلة من العوامل المتحكمة في عدة عمليات بضمنها عملية تطور الجنين». وإن مسار عوامل نمو الألياف يلعب دور ضروري في السيطرة على التطور، بدءًا بالتطور الجنيني المبكر وإلى طور نمو العظام بعدما تولد الزرافة. في البشر والفئران، فإن تشوهات شديدة قد تحدث في الهيكل العظمي والجهاز القلبي الوعائي وهي مرتبطة بطفرات مُضعِفة في هذا الجين.
استطاع العلماء أيضًا من التعرف على أربعة جينات (Homeobox) -وهي نوع من الجينات مسؤول عن تطور تركيب الجسم- والمعروفة بأنها تُميِّز مناطق العمود الفقري والساق. ويخمن كافينير بأن مجموعة التغيرات التي تطرأ على جينات (Homeobox) و(FGFRL1) قد تحقق المكونات المطلوبة لتطور رقبة وسيقان الزرافة.
لاحظ أغابا في البداية مجموعة من الجينات المسؤولة عن تنظيم الأيض والنمو والتي قد تباينت في الزرافة عند مقارنتها مع الأكاب. أحد هذه الجينات يشفِّر (مستلمات حمض الفوليك-Folic acid receptors)، والتي هي ضرورة أساسية لفيتامين (ب) المسؤول عن النمو الطبيعي والتطور. ومن الجينات المسؤولة الأيضيّة التي اكتشفها العلماء هي الجينات المسؤولة عن أيض الحوامض الدهنية المتطايرة، والتي يتم تكوينها من خلال تخمُّر النباتات المتناوَلة، وهذه النباتات هي مصدر الطاقة الرئيسي للزرافة وحيوانات مجترّة أخرى مثل البقر والماعز. للزرافة وجبات غير معتادة مثل (أوراق السَّنْط-Acacia) وأكياس البذور، والتي لها مكونات غذائية عالية ولكنها بنفس الوقت تعتبر سامّة للحيوانات الأخرى. يخمِّن العلماء بأن الجينات المسؤولة عن أيض أوراق السَّنْط قد تطورت في الزرافة لكي تترواغ على السُمّية الموجودة فيها.
كلاً من كافينير وأغابا وهما علماء وراثة تجريبية، يقولان بأنهما قلقين من اختبار وظيفة بعض الجينات المسؤولة عن الصفات الفريدة للزرافة. يقوم فريق البحث الخاص بهم باختبار التأثيرات المحتملة لجين (FGFRL1) المسؤول عن الصفات الفريدة للزرافة من خلال تقديم هذه التغيّرات إلى الفئران باستخدام طريقة (CRISPR) الحديثة لتعديل الجينات. بالرغم من أنه غير متوقع أن إضافة جين الزرافة (FGFRL1) إلى الفئران ستصنع فأر ذو رقبة طويلة ولكن العلماء يطمحون بأن يؤثر الجين (FGFRL1) على النمو التمايزي للعمود الفقري وسيقان الفأر والتي ستدل على الصفات الفريدة للزرافة.
يقول كافينير: «نحن نتأمل بأنّ نشر جينوم الزرافة والأدلة على صفاتها الفريدة ستجلب اهتمام لهذا الصنف من الحيوانات في ضوء الانحدار الشديد في أعدادها. وبينما حصل الفيل -الرفيق الأقصر للزرافة في السفانا الافريقية- على الجزء الأكبر من الاهتمام، فإن أعداد الزرافة قد انخفضت بنسبة40% خلال الـ15 سنة الماضية بسبب الصيد الغير مشروع وفُقدانها لموطنها. وفي هذه السرعة من الانخفاض في أعداد الزرافة، ستصل أعدادها في البريّة إلى أقل من العشرة آلاف في نهاية هذا القرن. بعض الأصناف الثانوية (النويّعات) من الزرافة قد ترنحت مسبقاً على حافة الانقراض.
ترجمة: Hussain Wael
مراجعة: سمراء طارق
المصدر: http://sc.egyres.com/trrYO