كيمياء الصناعات: الورق

Glass-copy-4
|||

تخيَّل الحياة بلا كتبٍ أو جرائد، تخيَّل حضارة بشريّة بلا ورق اعتمدت على النقل الشفهيّ أو على الحجارة وعظام الحيوانات فقط. كيف كانت ستبدو؟ وهل ستصل إلى ما وصلتْ إليه اليوم؟ فلنتعرفْ في هذا المقال على الورق، المادة الأساسية في نقل كثيرٍ من المعرفة عبر الزمان والمكان، والذي لديه استخداماتٌ أخرى مثل التعبئة والتغليف وغيرها.

تاريخ الورق

 يرجع تاريخ أول أنواع الورق إلى مصر القديمة حيث نبات البرديّ الذي كان متوافرًا على ضفاف نهر النيل. في ذلك الوقت، كانت تتم إزالة الطبقات الليفيّة الموجودة داخل جذع النبات، وتُوضع جنبًا إلى جنبٍ وبزوايا صحيحة مع مجموعةٍ أخرى من الطبقات المُرتبة بالمثل. الصحيفة التي تكونت تُرطَّب وتُضغَط، وأثناء التجفيف تعمل عصارة النبات شبه الصمغية -التي تُعتبر كمادة لاصقة- على لصق الطبقات معًا. كان ورق البردي أكثر أنواع الورق استعمالًا في تلك العصور ومازالت العديد من سجلات ورق البردي سليمة إلى اليوم.

ويمكن تتبُّع تاريخ الورق إلى الصين عام 105م في عهد سلالة هان عندما صنع تسوي لون، موظف مُقرَّب إلى بلاط الإمبراطور، صحيفةً من الورق مصنوعةً من ورق التوت وبعض ألياف اللحاء وشباك الصيد ونفايات القنب. ثم قدمها إلى الإمبراطور “هِي” وانتشرت صناعتها في أنحاء الصين. ثم انتقلت تلك التقنية غربًا حتى وصلت إلى سمرقند ثم بغداد في عهد هارون الرشيد في العصر الذهبي للثقافة الإسلامية، ومنها انتشرت إلى الحواضر الإسلامية مثل دمشق والقاهرة والأندلس حيث انتشرت صناعتها في بلنسية، ومنها وصلت إلى أوروبا.

بحلول القرن الرابع عشر كان هناك عددٌ من مصانع الورق في أوروبا خاصة في أسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا، ومع اختراع الطباعة في خمسينيّات القرن الخامس عشر زاد الطلب على الورق. خلال القرن الثامن عشر كانت صناعة الورق تعتمد بشكلٍ أساسيّ على ألياف القطن والكتان كمواد خام رئيسيّة، ووقتها كانت تعاني مصانع الورق من نقصٍ في تلك المواد فطلبوا من الناس إعطاءهم قطع الكتان والقطن البالية.

في عام 1800م ظهرت فكرة صناعة الورق من لب الخشب ولب الخضروات؛ مما جعلها تتخلى عن القطن والكتان كمواد خام رئيسيّة كما ازداد انتاج الورق. وسارت تلك الفكرة في مسارين مختلفين، الأول هو الفصل الميكانيكيّ للألياف عن الهيكل الخشبيّ، وهو ليس مناسبًا للأوراق التي تتطلب درجة عالية من القوة والبياض، والمسار الآخر هو إضافة كيماويات إلى الخشب لإذابة اللجنين (Lignin) وغيرها من مكونات الخشب تاركةً ألياف السليلوز خلفه. يُستخدَم لب الخشب المُعالج كيميائيًا مثل لب الصودا (soda pulp) واللب الكبريتي (sulphite pulp) عند الحاجة للوصول إلى درجةٍ عالية من البياض والقوة والثبات.

صُنع لب الخشب المفصول ميكانيكيًا لأول مرة في ألمانيا عام 1840م، لكنه لم يدخل حيّز التطبيق حتى حوالي عام 1870م، في حين تمت صناعة لب الصودا من الخشب لأول مرة عام 1852م في إنجلترا، وفي عام 1867م سُجّلتْ براءة اختراع لعمليات صناعة اللب الكبريتيّ في الولايات المتحدة الأمريكية.

تُعتبر أي صحيفة من الورق المتكون فقط من ألياف السليلوز ماصةً للماء وبالتالي فإن الأحبار والسوائل المائية الأخرى سوف تنفد وتنتشر في بنية الورقة. ولإعاقة امتصاص الورق ونفاذيته للمواد الأخرى يتم نقعه في مواد متنوعة في عملية تُسمى بالتحجيم (Sizing). قبل عام 1800م كانت تتم تلك العملية باستخدام الغراء الحيواني أو النباتي، لكنها كانت غالية ومملة. في ألمانيا اكتشف شخص يُدعى موريتز إيليج (Moritz Illig) أنه يمكن تحجيم الورقة في أحواض من إحدى أنواع الراتنج يُسمى القلفونية (Rosin) والشب (alum)، وبالرغم من إن تلك الطريقة اكتُشِفتْ عام 1807م إلا إنها لم تدخل حيز التطبيق إلا بعد حوالي 25 عامًا.

أدى اكتشاف الكلور عام 1774م إلى استخدامه لتبييض الأوراق المالية، إلا إن قلة المعرفة الكيميائية في ذلك الوقت أدت إلى إنتاج ورق رديء؛ مما أدى إلى تشويه سمعته لعدة سنوات. ويُعد تبييض الورق بالكلور أكثرَ المُبيّضات شيوعًا في صناعة الورق اليوم.

صناعة الورق

لكي نفهم صناعة الورق علينا أولًا فهم تركيبة خشب الشجر، المادة الرئيسية في تلك الصناعة، الخشب يتكون من عنصرين رئيسيّين: قوالب من اللجنين (Lignin) والتي تحتوي بدورها على ألياف السليلوز.

تشابه تركيب الخشب مع تكوين الخرسانة المُسلحة

في صناعة الورق، تكون الخطوة الأولى هي التلبُّب (pulping) حيث يتم تقسيم الخشب إلى ألياف سواءً عن طريق التلبب الميكانيكيّ أو الكيميائيّ (تلبب كرافت). بالنسبة للتلبب الميكانيكي، يكون الخشب ببساطة مطحونًا بحيث لا يزال اللب يحتوي على اللجنين، مما يجعل الورق يزداد اصفرارًا مع الوقت. بالإضافة إلى ذلك، في عملية الطحن تقصر الألياف التي تجعل الورق أضعف لكنها عالية الإنتاج ومنخفضة التكلفة، لذلك فهي مناسبة لصناعة ورق الصحف. وفي الوقت نفسه، يُزيل التلبب الكيميائي قالب اللجنين من ألياف السليلوز. من خلال هذه العملية، يمكن إنتاج ألياف أطول بحيث يمكن تصنيع ورق أقوى، ولكن هذه العملية إنتاجيتها أقل وأكثر تكلفة. إلى جانب ذلك، يظل اللب بُنيًا وعادة ما يكون التبييض ضروريًا؛ في حين يُستخدم اللب غير المُبيَّض في صناعة أكياس التعبئة البنية أو يتم استخدام عجينة التبييض لصنع ورق أبيض عالي الجودة.

على اليمين ناتج التلبب الكيميائي وعلى اليسار ناتج التلبب الميكانيكي

في عملية التلبب الكيميائي أو عملية كرافت (Kraft process) يتم استخدام محلول من هيدروكسيد الصوديوم وكبريتيد الصوديوم لتكسير اللجنين، وتتكون شظايا فينوكسيد (phenoxide) التي تذوب في الماء. ومع ذلك، فإن هذه العملية غير فعالة تمامًا حيث يتحلل السليلوز جزئيًا بسبب الظروف الصعبة التي تحدث خلالها تلك العملية، حيث يبلغ العائد الكلي للسليلوز من الخشب حوالي 50٪.

https://egyresmag.com/wp-content/uploads/2021/03/Picture6.png
عملية كرافت

بعد ذلك يتم تبييض اللب لأن بقايا اللجنين تحتوي على مركبات حاملة اللون (Chromophores) ذات النظام المترابط، والتي تتبقى بعد عملية كرافت. يتم تدمير الترابط بواسطة الأكسدة، لذلك فإن التبييض يُدمّر اللجنين المتبقي لتقليل الاصفرار. تقليديًا، يتم استخدام Cl2 ولكن يتم استبداله الآن بـ ClO2 لعمليةٍ خاليةٍ بشكلٍ أوّليّ من الكلور. بناءً على اختزاله إلى Cl، فإن ClO2 أقوى بمقدار مرتين ونصف من Cl2 لكل وحدة كتلة.

 بعد إضافة عامل التبييض، يُضاف NaOH من أجل إذابة بقايا اللجنين المؤكسِدة وإزالة الكلور “العضوي” جزئيًا، وتتكرر هذه العملية لتسلسلات معينة. هذه العملية أقل بالنسبة للمنتجات الثانوية الناتجة من Cl2، ولكن هذه العملية مكلفة، ولكنها مؤكسِدة بدرجة عالية للجنين. علاوة على ذلك، هناك مُبيِّضاتٌ أخرى تُستَعمل في عملية خالية كليًا من الكلور مثل O3 /O2/ H2O2.

ثم بعد ذلك تتم إضافة بعض المواد التي تُزيد من جودة وخصائص الورق البصرية والفيزيائية للورق مثل المتعادلات (buffer) للحفاظ على درجة حموضة ثابتة، ومركب TiO2 لزيادة متانته، وإضافة جزيئات كارهة للماء للحفاظ على نفاذيته أو لتحجيمها (Sizing)، كما سبق ذكرها أثناء استعراضنا لتاريخ الورق.

آلية تحجيم الورق
https://egyresmag.com/wp-content/uploads/2021/03/Picture7.png
ناتج عملية التحجيم

ثم تأتي خطوة تجفيف وتشكيل الورق حيث يتم ضغط الورق، وتصفيته من الماء بواسطة عصره، وبعد ذلك بالتبخير كما هو مُوضح بالصور.

https://egyresmag.com/wp-content/uploads/2021/03/Picture11.png
على اليمين آلة « fourdrinier» المسُتخدمة تلك الأيام في صناعة الورق وعلى اليسارة آلية تجفيف وتشكيل الورق

الخطوة الأخيرة في صناعة الورق هي الطلاء السطحيّ (surface coating)؛ حيث تُضاف الطبقة النهائية لتحسين القوة واللمعان ودقة الطباعة. يتكون الطلاء عادةً من تجميع مائيّ للخضاب (مثل الطين أو TiO2 ). أخيرًا، تتم معايرة (Calendering) الورق بضغطه بين بكرات ساخنة من أجل تصفيف جزيئات الطلاء لزيادة لمعانه.

https://egyresmag.com/wp-content/uploads/2021/03/Picture20.png

إعداد: خالد رحومة

تَدقيقٌ لُغَوِيّ: محمود خليفة

تحرير: هدير جابر

المصادر:-

1. How to Make A Paper? (Chemists’ Recipe) [Internet]. How to Make A Paper? (Chemists’ Recipe). [cited 2019 Aug 20]. Available from: https://chem-is-you.blogspot.com/2013/03/how-to-make-paper-chemists-recipe.html

2. Papermaking [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2019 Aug 17]. Available from: https://www.britannica.com/technology/papermaking

3. history KSKS has a PD in, College HT at the, U.S high school level in both the, Korea. The Invention of Paper [Internet]. ThoughtCo. [cited 2019 Aug 17]. Available from: https://www.thoughtco.com/invention-of-paper-195265

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي