يتضمنُ مفهومُ لعنةِ الموارد (Resource Curse) العديدَ من التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، حيث تعاني منها الدولُ التي تمتلكُ وفرةً من الثروات الطبيعيّة من نفطٍ أو غازٍ طبيعيّ أو معادن نفيّسة مثل: الذهب أو النحاس أو حتى الألماس. وتشيرُ تلك اللعنة إلى فشلِ الأنظمة الاقتصاديّة لهذه الدول في تحقيقِ الاستغلال الأمثل لهذه الثروات الطبيعيّة، وعدم قدرتها على استغلالها بشكلٍ يُحقق الكفاءة الاقتصاديّة. إضافة إلى ما سبق، تصبحُ تلك الأنظمة السياسيّة سلطويّة، وغير ديمقراطيّة إذا ما قُورِنت بدولٍ أخرى لا تمتلك مثل هذه الثروات، مما يجعلها أكثر عرضةً للمعاناةِ من مشاكلٍ ونزاعات داخليّة، والتي بدورها تُمثلُ لها تحدّيًا إضافيًا آخر يُقوّضُ من فرصِ نموّها الاقتصاديّ. وعلى الرغم من ذلك، فإن باستطاعتِها التّغلبَ على هذه التحدّيات من خلالِ اتباع سياسة حكوميّة تتخذُ قراراتٍ رشيدة، تُمَكِّنها من تجنبِ الآثار السلبيّة لهذه الصناعة الاستخراجيّة؛ لتحوّلها من تحدّياتٍ إلى إيراداتٍ اقتصاديّة تعودُ عليها بفوائدٍ كبيرة، أو -على الأقل- قد تساعدُها من تخفيفِ حدة هذه التحدّيات.
ما هي لعنة الموارد
لعنةُ الموارد أو مُفارقةُ الوفرة (Paradox of Plenty) -كما قد يطلقُ عليها أحياناً- عبارةُ عن مصطلحٍ اقتصاديّ يصفُ حالة الإخفاق الاقتصاديّ التي تصيبُ بعضَ الدول الغنيّة بالثرواتِ الطبيعيّة من نفطٍ أو غازٍ طبيعيّ أو معادنٍ نفيّسة، عندما تعجزُ تلك الدول عن تحقيقِ الاستغلال الأمثل لهذه الثروات. ونتيجة لذلك، يجعلها غيرَ قادرةٍ على تلبيةِ احتياجات الرفاهية العامة لمواطنِيها. فعلى العكس مما كان مُتوقعًا، تعاني هذه الدولُ من انخفاضٍ مُستمر في معدلاتِ الدخل، خاصةً بعد اكتشافِ هذه الثرواتِ الطبيعيّة، بدلاً من تحقيقِ معدلات مُتزايدة في مستوياتِ الدخل. أضف إلى ذلك أنه قد تعاني هذه الدولُ من الكثيرِ المشاكل والنزاعات، التي تؤدي بدورها إلى عدمِ استقرار اقتصاديّ، وانخفاضِ معدلاتِ النموّ الاقتصاديً. وما سبق ما هو إلا نتيجة سلطويّة النظام السياسيّ، وتفرده في اتخاذِ القرارات مقارنةً بدولٍ أخرى لا تمتلكُ مثل هذه الثروات. في هذه المقالة، نضعُ الخطوطَ العريضة لأبرزِ التحدّيات الاقتصاديّة، والسياسيّة التي تُشكلُ النواةَ الأساسيّة؛ لإصابة هذه الدول بلعنةِ الموارد.
أسباب لعنة الموارد.. وآثارها الاقتصادية والسياسية
تتعددُ أشكالُ الثروات الطبيعيّة، ولكل منها طبيعة مختلفة: فمنها ما هو متجددٌ مثل: الغاباتِ والأنهار، ومنها ما هو ناضبٌ وغير متجددٍ، مثل النفط، والغاز الطبيعيّ، والمعادن النفيّسة على اختلاف أنواعها. ولذلك، يرى الاقتصاديون، وعلماءُ السياسة أن للثرواتِ الطبيعية غير المتجددة طبيعةٌ خاصة تميزُها عن غيرِها من الثروات الطبيعيّة. تتمثلُ تلك الطبيعة المُميزة في عدة أشياء، وهي: ارتفاعِ تكاليف استخراجها، واحتياجها لمدةٍ زمنية طويلة قبل الوصولِ لمرحلةِ الإنتاج، علاوة على الطبيعةِ الخاصة لموقعِ الثروة، هذا وبالإضافة إلى اضطرارِ الدول إلى اللجوءِ لشركاتٍ دولية تُعطى حقَ الامتيازِ في التنقيبِ عن الثروةِ مقابل حصولها على جزء كبير منها. كما أن عدمَ استقرارِ أسعار المواد الخام، وتذبذبَ كميات الإنتاج تمثلُ تحدياتٍ إضافيّة تقعُ على عاتقِ هذه الدول.
وفيما يلي، مجموعةٌ من أهم الملاحظاتِ، والخصائص التي تُميّز التحدّيات التي تواجه الدولُ الغنية بالثروات الطبيعيّة.
الديمقراطية
على مدى الثلاثين عامًا الماضية، أصبحت حكوماتُ الدول الغنيّة بالثروات الطبيعيّة -خاصةً الدول النفطيّة- دولاً سلطويّة، وغير ديمقراطيّة. فإذا اعتمدت الدولُ على الضرائبِ التي يدفعها المواطنون؛ فإنها تتجه نحو إلى التحوّلِ لأنظمةٍ ديمقراطيّة، وبالتالي تهتمُ بتلبيةِ طلبات المواطنين، ورغباتهم. أمّا إذ قلَّ اعتمادها على الضرائبِ، وانخفضت نسبةُ مساهمةِ الأخيرة في الموازنةِ العامة على حسابِ ارتفاع عوائد الثروات الطبيعيّة؛ فإن تلك الدولَ تصبحُ أنظمةً سلطويّة، وغير ديمقراطيًة. إذ تخفي هذه الدولُ القيمةَ الفعليّة للعوائدِ الحقيقيّة التي تحصلُ عليها من الثرواتِ الطبيعيّة، ولا أحد يعلمُ أين تُنفقُ، ومقدارَ ما يُنفقُ منها أيضًا.
ويمكنُ التخفيفُ من حدةِ تحدي الأنظمة السلطويّة عن طريقِ اتباع سياسات أكثر شفافيةً مع المواطنين، ومصارحتِهم بقيمةِ عوائد الثروات الطبيعيّة الحقيقيّة، بالإضافة إلى زيادةِ مشاركتهم في إعدادِ الموازنات أو عبر المشاركة المباشرة في توزيعِ الثروات على المواطنين.
النزاعات
تعاني الدولُ الغنيّة بالثرواتِ من نُشوبِ كثير من النزاعاتِ الداخليّة؛ للسيطرةِ على الثروات الطبيعيّة، وخاصةً عندما ترغبُ مجموعةٌ مُعينة في السيطرةِ عليها، والحصولِ على عائدها أو استخدامها لتمويلٍ القتال الداخليّ. فمنذ تسعينيات القرن الماضيً، عانت الدولُ المنتجة للبترول من حروبٍ داخلية مرتين أكثر من غيرها من الدولِ كما حدث في جمهوريةِ الكونغو الديمقراطية، والنيجر، والعراق، وليبيا، وأنغولا. كما وقعت نزاعاتٌ دُوَليّة؛ للسيطرةِ على الدولة المنتجة للبترول كما حدثَ عند غزو العراق لكل من الكويت، وإيران. كما أنّ هناك جدلاً واسعًا بين الباحثين حول مدى توفرِ معلوماتٍ تُدعّمُ فكرة أن الدولَ الغنية بالثرواتِ الطبيعيّة أكثر عرضةً للحروب الدوليّة عن غيرها من الدول.
اختلال هيكلِ الإنفاق، والاقتراض
تذبذبُ عوائدُ الدول الغنيّة بالثروات الطبيعيّة؛ نتيجة تذبذبِ الأسعار العالميّة لها، واختلافِ كميات الإنتاج بمرورِ الزمن، والذي بدوره يترتب عليه عدمُ انتظامِ الدخل. وعليه، تواجهُ تلك الدولُ صعوبةً في ترشيدِ الإنفاق في ظلِ عدمِ انتظام معدل العوائد. في الأغلب، تقعُ هذه الدولُ في فخِ دورات الرواجِ والكساد (Boom-Bust Cycle). ففي فترات ِارتفاع معدلات العوائد، يزدادُ إنفاقُ هذه الدول على مشاريعٍ غير إنتاجيّة، مثل: إنشاء مطارات، والمعالم الترفيهيّة. ولكن مع انخفاض عوائد تلك الثروات الطبيعيّة، تجدُ هذه الدول نفسها قد وقعت في مأزقٍ؛ وتضطر لخفضِ الإنفاق، وقد تلجأُ إلى الاقتراضِ لتغطيةِ العجز الناتج عن تذبذبِ العائد. وإضافة إلى ما سبق، فإنها تنتهجُ سياسةَ الإنفاق غير الرشيدة، والتي تتمثلُ في كل من: ارتفاعِ مستوى الرواتب الحكوميّة، ّوسياسةِ دعمِ المحروقات غير المدروسة، وانخفاضِ الإنفاق على الصحةِ، والتعليم، والدعم الاجتماعيّ. وبالتالي، قد تقعُ في أزماتِ مديونيّة كما حدث في ثمانينات القرن الماضي للمكسيك، وفنزويلا عندما انخفضت العوائد النفطية. وقد تنتقلُ الأزمةُ للقطاعِ الخاص؛ نتيجة توسعِه في الاستثمار أثناء فترةِ الرواج علاوة على اعتمادِه على القروضِ البنكيّة التي قد تؤدي إلى إفلاسِه. ولذلك، ينبغي على الدولِ الغنيّة بالثرواتِ الطبيعيّة ترشيدُ انفاقها، واتباعُ سياسةً تُراعي فتراتِ الكساد؛ حتى لا تقع في فخِ المديونية.
المرض الهولندي
عُرف المرضُ الهولنديّ (Dutch Disease) في خمسينيات القرن الماضي، وذلك بعد أن تم اكتشافِ بئر غازٍ طبيعيّ في هولندا. وبعد قيامها بتصديرِ الغاز الطبيعيّ لدولِ أوروبا، ارتفعَ سعرُ صرفِ الجلدر الهولنديّ (العملة الهولندية في تلك الفترة)؛ مما تسببَ في ارتفاعِ أسعار بقية السلع المُصَنّعة المُعَدة للتصدير، والذي بدوره أدى إلى انخفاضِ حجم الصادرات الهولنديّة. ويُعدُ المرض الهولنديّ من أهمِ التحديات التي تواجهُ الدولُ الغنيّة بالثروات الطبيعيّة؛ إذ أنّ الارتفاعَ الكبير في حجمِ عائدات المورد الطبيعيّ قد يُلحقُ الضررَ ببقيةِ القطاعات الاقتصاديّة، وخاصة إذا صاحبَه ارتفاعٌ في معدلاتِ التضخم، أو في سعرِ صرف العملة المحليّة. فالآثار السلبيّة للمرض الهولنديّ قد تستمرُ لسنواتٍ، وقد تمتدُ لعقودٍ إذا ما يتم مُعالجته فورًا. ومن الدولِ التي تعرّضت لآثارِ المرض الهولنديّ المُدمرة في القرن الماضي إيران، وروسيا، وترينداد، وتوباجو، وفنزويلا.
وللحدِ من نتائج السلبية للمرضِ الهولنديّ، يجبُ وضعُ خططٍ تنمويّة؛ لكي تمتصَ أثرَ الزيادة الكبيرة للعوائدِ من خلال تنفيذِ مشاريع استثماريّة، والتي بدورها تدرُّ على الاقتصادِ دخولاً إضافية بجانبِ عوائد الثروات الطبيعيّة، مثل: تنفيذِ مشاريع شقِ الطرق، أو مشاريعِ توليد الكهرباء. كما يمكن للدولِ أن تستثمرَ في شراءِ أصولٍ ماليّة أجنبيّة؛ لتنوّع من مصادرِ عوائدِها، وتعوّض الانخفاض في العوائدِ في حالةِ تذبذب أسعار الموارد الطبيعيّة أو في حالةِ انخفاضِ جحم إنتاجها. وتعد تشيلي، والنرويج، والإمارات العربيّة المتحدة من الدول التي طبّقت هذه الاستراتيجية خلال الخمس وعشرين عامًا الماضية.
محدودية العوائد الحكومية
قد تعاني الدولُ الغنيّة بالمواردِ الطبيعيّة من انخفاضِ عوائد الثروة الطبيعيّة، وذلك في حالة منحِ عقودِ امتياز التنقيب، والاستخراج لشركاتٍ أجنبية، حيث تستغلُ الأخيرةُ الثرواتَ لمصالحِها الخاصة أكثر من مراعاتِها لحقوقِ الدول المالكة للثروات. فقد تخلو عقودُ الامتياز من أيّةِ شروطٍ توضحْ كل من كيفيّةَ اقتسامِ الأرباح بين الحكومةِ وتلك الشركات، والآليات المستقبليّة؛ لتعويضِ خسائرِ المجتمع بعد نفادِ الثروة، أو كيفيّة معالجةِ الاضرار البيئيّة، أو الخسائر المعيشيّة في المناطق القريبة من مشاريعِ استخراج تلك الثروات. وتتجلى هذه المشكلةُ في الدولِ التي تشجّعُ استخراجَ الثرواتِ دون استخدامِ عقودِ امتياز، تراعي حقوقَها بربطِها بنظامٍ ضريبيٍّ فعّال، يعكسُ بدوره القيمة الحقيقيّة لتلك الثروات.
بينما تفرضُ بعض الدول كالأرجنتين، وكندا، والولايات المتحدة الأمريكيّة، وجنوب أفريقيا معدلَ ضريبية أقل من 50%، تفرضُ الكاميرون، والبيرو، والفلبين ضريبيةَ معدلات أقل من 40%، وهي معدلات لا تتناسبُ مع القيمة الحقيقيّة للثروةِ، وتلحُق خسائرَ بتلك الدول. أما عن أنجولا، وليبيا، والنرويج، وتيمور الشرقية، فتلك تفرضُ معدلاتَ ضريبية أكثر من 70%؛ لتتناسبَ مع القيمةِ الحقيقيّة لتلك الثروات.
كما أن نسبة المكوّن المحليّ للعمالة المحليّة في تلك الشركات صغيرٌ نسبيًا؛ وذلك نتيجة المهاراتِ العالية، والخبراتِ التي تتطلبُها تلك الصناعات، والتي تكون نادرةً في تلك الدول. كما أنه تعتمدُ تلك الشركاتُ على استيرادِ المعدات من الخارج، مما يشكل عبئًا إضافيًا على عوائدِ تلك الدول ذات الموارد الطبيعيّة، التي تجدُ أن أرباحَ استخراجِ الثروات، وعوائدَها تتدفقُ خارجها. ولذلك على الدولِ الغنيّة بالثرواتِ دراسةُ العقودِ التي تمنحُ للشركاتِ التنقيب، بما يحفظ حقوقها، وحقوق مواطنيها في الوقت ذاته.
هشاشة البنية المؤسسية
غالباّ ما تكون البنيّة المؤسسية للدول الغنيّة بالمواردِ هشةً وضعيّفة، ولا تراعي مصلحةَ جميع المواطنين. فتستحوذُ الصفوةُ الحاكمة على الجزءِ الأكبر من عوائدِ الثروات. فتكون عمليةُ الاستيلاءِ سهلةً من خلالِ استبعادِ تضمين تلك العوائدِ في الميزانيات الرسميّة، وإفرادِ ميزانية خاصة بها تُدار من قِبَل الصفوة المتنفذّة في الدولة. ومن الطرق الاحتياليّة الأخرى للاستيلاء على عوائدِ الثروات، تأسيس كل من صناديق الثروات السياديّة وتأسيس شركات استخراج وطنيّة تُسيّطرُ عليها الصفوة المتنفذة عن طريقِ منحها لأصدقائهم، والتي تتدعي استثمارَ تلك العوائدِ في مشاريعٍ إنتاجيّة تسُاهمُ في توظيفِ العمالة المحليّة. كما أن تلك الصفوة مُنتشرةٌ في جميعِ أركان الأجهزة الحكوميّة، وهو الأمر الذي يدمّرُ تطويرَ البنيّة المؤسسيّة للدولة، مما ينعكسُ على جودةِ الخدمات الحكوميّة التي تقدمُ للمواطنين. وتعد أفغانستان من الأمثلة الأشهر في هذا المجال.
خاتمة
قد يَرى البعضُ لعنة الموارد أمرًا لا يُمكن تجنبه، إلا أن الواقع العمليّ أبرز أن هناكَ بعض الدول الغنيّة بالثرواتِ لا تُعاني من هذه اللعنة. فنرى أن البنودَ السابقة ما هي إلا مجردُ تحدياتٍ، قد تعاني منها بعض الدول إذا ما لم تحسن إدارتها، والتي من الممكن أن تُصاحبُ عملياتِ استخراج الثروات. وتؤثر تلك اللعنة بالدولِ منخفضةِ الدخل بصورةٍ أكبر مقارنةً بالدولِ مرتفعة الدخل، والذي بدوره يفرضُ عليها انتهاجَ سياسةٍ واعيّة عند اتخاذِ قرارات استغلالها.