دعونا نتخيل حياتنا من دون حزن أو فرح، دون راحة أو ألم، أو حتى من دون خوف، فكيف ستكون الحياة؟
على الأغلب ستكون حياتنا أشبه بالفراغ التام؛ إنَّ العواطف المختلفة هي الجزء الأكبر من كوننا بشر، فإذا نظرنا إلى الروبوتات الحديثة وأجهزة الذكاء الاصطناعي، فإنَّها قد تأخذ هيئة البشر، ولكن ما يميزنا عنها دائمًا هي العواطف.
*يكمن السؤال الآن في معرفة ما هي حقيقة العواطف، أين تنشأ، وكيف تختلف؟
ما هي العواطف؟
الحب، والكره، والخوف، والحزن، والقلق؛ كلها عواطف شعرنا بها في نقطة ما من حياتنا، لكن ما الذي يُحدد طبيعة هذه العواطف؟ ولماذا تختلف في المواقف المتفرقة؟
العواطف هي المحددات الرئيسية للسلوكيات، والأفكار، والخبرات الإنسانية. [1] تُشكل العواطف طريقة تفكيرنا وشعورنا وتصرفنا. [2] تتكون العواطف من مجموعة من التغييرات الإدراكية، والموضوعية، والفسيولوجية، والحركية، والتي تنشأ كرد فعل على مُحفز أو حدث مُعين في إطار ما، إمَّا أن يكون إيجابيًا أو سلبيًا. هذا المُحفز الذي يحدد الإيجابية أو السلبية قد يكون مصدره داخلي أو خارجي، والعملية التي يتم بها تقييم سلبية أو إيجابية المحفز هي الأساس المحدد لعواطفنا. [3]
العواطف تلعب الدور الأهم في تغيير حالة الإنسان والبيئة المحيطة به، كمثال على ذلك، فالخوف قد يدفع لتجنب مُحفِّز مُعين أو موقف خطير، والسعادة تؤدي إلى تكرار التعرض للمُحفِّز أو الحدث. ولهذا يُمكن وصف العواطف على الترتيب التالي: إدراك ← تقييم ← فعل، ويُسمى هذا التوالي بتسلسل الاستجابة العاطفية (The Emotional-Reactivity PVA Sequence). [4,5,6] فالإنسان يُدرك أو يشعر بالمحفِّز الذي يُحيط به في لحظة ما كوجود أسد على سبيل المثال، ثم يُقيِّم هذا المُحفِّز على أنَّه خطر، ثم يقوم بالابتعاد عن الأسد.
تطور فهمنا للعواطف:
في بداية القرن التاسع عشر بدأ علماء مثل داروين وفرويد في دراسة دور المخ في تكوين والتعبير عن العواطف. لاحقًا في القرنين التاسع عشر والعشرين، بدأ العلماء في وضع الأساسيات الفيسيولوجية للعواطف والعلاقة بين التعبير عنها وما يعيشه الإنسان من أحداث، وفيما يلي سنتناول أهم النظريات التي تحدثت بهذا الشأن:
*نظرية «James-Lange»: [7]
نظرية (James-Lange) التي وضعها العالِم (William James) في عام 1884م، هي إحدى أول النظريات التي ناقشت طبيعة ومنشأ العواطف، وقد نشر عالم النفس الدنماركي (Carl Lange) أفكار مشابهة لأفكار (James)، لذلك سُميت النظرية باسم هذين العالمين. تنص النظرية على أنَّ التغييرات الفيسيولوجية التي تحدث في الجسم كرد فعل لموقف معين هي المسؤولة والمُسببة لظهور عاطفة أو إحساس ما، ولكن منطقيًا لا يُمكن أن تكون هذه النظرية سليمة.
لتوضيح ذلك، فعندما ترى دبًا على سبيل المثال فإنَّك تشعر بالخوف ونتيجة لذلك تحدث تغييرات جسدية متمثلة في هروبك بعيدًا عنه. لكننا إذا نظرنا إلى ما اقترحه (James) و(Lange) فهو عكس ذلك تمامًا، فهما يران أنه عند رؤيتك للدب يقوم مخك بتحفيز الجسم ليقوم بالجري، وكردة فعل على هذه الحركة تشعر بالخوف.
*نظرية «The Cannon–Bard»: [7]
بالطبع تعرضت النظرية السابقة لانتقادات حادة، وكان من ضمن من انتقدوا النظرية عالم الفيسولوجيا (والتر كانون-Walter Cannon)، الذي كان تلميذًا لـ(James) في جامعة هارفارد. قام والتر بوضع نموذج جديد لفهم العواطف مع تلميذه (فيليب بارد-Philip Bard) وعُرف هذا النموذج باسم كانون وبارد للعواطف «The Cannon-Bard Model of Emotions».
اعتمد كانون على دراساته الفيسولوجية على الحيوانات ليختبر نظرية أستاذه. واعتمد كانون في تجربته على القطط، حيث قام بإحداث ضرر في بعض الأعصاب الواردة من الدماغ، وكانت تلك الأعصاب جزء من الجهاز العصبي اللا إرادي (Autonomic Nervous System)، ثم قام بعد ذلك باستفزاز تلك القطط وإثارة غضبها. وقد لاحظ أنَّه على الرغم من الضرر الذي سببه بأعصاب تلك القطط، إلَّا أنَّها ما زالت تُظهر ردات فعل عاطفية غاضبة وعدائية نتيجة لاستفزازها.
وقد استنتج العالمان من ذلك أنَّ حدوث تغييرات فيسولوجية تلقائية في الجسم ليست بالضرورة هي المسؤولة عن الإحساس بعاطفة أو مشاعر معينة، بل إنَّ محفز عاطفي في شكل إشارات حسية يتم معالجته في الدماغ ليظهر في النهاية في شكل عاطفة ورد فعل جسدي. ولتوضيح ذلك لنعتبر أنَّك رأيت ثعبانًا، فستشعر بالخوف على النحو التالي:
- وجود محفز: رؤية الثعبان بالعين.
- يُرسل جهاز الرؤية لديك إشارات كهربية حسية للدماغ ليتم معالجتها.
- النتيجة: الشعور بالخوف والركض بعيدًا أو محاولة قتل الثعبان.
بعد ذلك توالت النظريات بناءًا على هذا العمل حتى وصلنا للفهم الحالي للعواطف.
إذًا ما هي العواطف، وكيف تنشأ؟
يقوم الفهم الحالي للعواطف على المبدأ التالي: يعتمد النشاط العاطفي والتغييرات الفيسيولوجية المصاحبة له على إحداث تغييرات في النظام العصبي اللا إرادي (Autonomic Nervous System) في الجسد، ويتحكم هذا الجهاز العصبي في نشاط العضلات الملساء في الجسم (smooth muscle)، ونشاط عضلات القلب، ونشاط الغدد. ومن خلال التحكم في درجة نشاط هذا النظام يُمكن أن يصاحب عاطفة مُعينة زيادة أو نقصان في كمية الدم المتدفق لأنسجة الجسم و معدل ضربات القلب، وانتصاب للشعر، والعرق، بالإضافة لحدوث تغيرات في حركية الجهاز الهضمي.
السؤال هنا: من المتحكم في نشاط النظام العصبي اللا إرادي؟ أول من أجاب على هذا السؤال كان العالم (فيليب بارد-Philip Bard) في عام 1928م، حيث توصل من خلال تجارب على القطط أيضًا أن المتحكم الرئيسي في نشاط الجهاز العصبي اللا-إرادي جزء من الدماغ يُسمى الوطاء (Hypothalamus). ثم تابعه بعد ذلك في الإجابة على هذا التساؤل العالم (والتر هيس-Walter Hess)، والذي أظهر بالتجربة أن التحفيز الكهربي لمناطق معينة من الوطاء في أدمغة قطط في حالة استيقاظ تام وتتحرك بحرية كاملة قد يؤدي إلى ردة فعل غاضبة من القطط، بل وأنه قد يتطور لهجوم عدائي. وقد فاز هيس بجائزة نوبل عام 1949م لاكتشافاته المتعلقة بالتنظيم الوظيفي بالوطاء (Functional Organization of the Hypothalamus). [9]
ولكن بعد ذلك ظهر سؤال آخر هل يمكن أن يكون الوطاء هو المتحكم الوحيد في السلوك العاطفي؟ وهنا ظهر مصطلح الجهاز النطاقي «The Limbic System».
*الجاهز النطاقي (The Limbic System):
توصل العلماء إلى أن تكوين والتعبير عن العواطف يعتمد على تركيبات ومناطق دماغية عديدة كاللوزة الدماغية (amygdala)، والحُصين (hippocampus)، وأجزاء من المِهاد (thalamus)، والفص قبل الجبهي (prefrontal cortex)؛ وليس مركز أو منطقة دماغية واحدة. ولأن هذه الأجزاء جميعًا تُحيط بساق المخ (Brain Stem)، أُطلق عليها «الجهاز الحوفي أو النطاقي-Limbic System» -شكل(1)-[8] حيث تعني الكلمة اللاتينية «limbus» حافة أو نطاق أو حدود.
لذا فإنَّ التحكم في السلوك العاطفي للفرد يتم عن طريق التفاعل بين هذه المناطق المختلفة من الدماغ. وتتصل مناطق وأجزاء الجهاز النطاقي المختلفة ببعضها البعض عن طريق حزم من الألياف العصبية تصل كل منطقة بالمنطقة التي تليها، مكونة في النهاية دائرةً عصبيةً سُميت بدائرة بابيز (Papez Circuit).
الخوف كمثال:
كلنا نشعر بالخوف في أحيان كثيرة ولكن كيف نخاف ولماذا؟
للإجابة على هذا السؤال سنتناول أحد أهم أجزاء الجهاز النطاقي ألا وهو اللوزة الدماغية «Amygdala»، وذلك بغرض إعطاء مثال عملي على العواطف وكيفية تكونها والتحكم بها.
حاول الأطباء إيجاد العلاقة بين اللوزة ومشاعر الخوف، وقد تم ذلك عن طريق مريضة تُدعى (S.M.) وكانت تُعاني من حالة مرضية وراثية متنحية ونادرة تُدعى مرض «أورباخ-ويثي-Urbach-Wiethe Disease». وتُسبب تلك الحالة المرضية تكلسًا وضمورًا في الجزء الوسطي والأمامي من الفص الصدغي (Anterior-Medial Temporal Lobes). ونتيجة لذلك فإن كلًا من اللوزتين في دماغ هذه المريضة أصابهما التلف بشكل كبير، ولكن على الرغم من ذلك فإن باقي أجزاء الجهاز النطاقي كانت سليمة، مع احتفاظ المريضة بقدراتها الحركية والحسية، ولم تكن تعاني من أي خلل في الذكاء أو الذاكرة أو وظائف اللغة.
في التجربة عرض الباحثون على المريضة مجموعة من الصور التي تحتوي على أشخاص يقومون بتعابير وجه مختلفة، وطلبوا منها التعرف على العواطف والمشاعر في كل صورة بناءًا على التعبير الوجهي. وكانت النتائج مذهلة؛ حيث لم تتمكن المريضة من وصف المشاعر في الصور التي تحتوي على تعبيرات وجهية تدل على الخوف؛ في حين أنها تمكنت من التعرف على المشاعر الأخرى كالحزن والغضب والسعادة والاشمئزاز. [10]
ولكن تظل طبيعة المجتمع العلمي، فبمجرد الإجابة على سؤال يظهر مباشرة الذي يليه، فكان السؤال الذي ظهر بعد هذه التجربة هو: لِمَ لَمْ تستطع المريضة في التجربة التعرف على مظاهر الخوف من خلال تعبيرات الوجه في الصور، والسؤال الأهم هل يمكنها الشعور به في مواقف الحياة اليومية؟
وللإجابة على هذا السؤال طلب العلماء من المريضة الخضوع لتجارب أخرى، حيث وافقت المريضة على التعرض لمجموعة من المواقف التي قد يعتبرها كثير من الناس مثيرة للخوف. قام العلماء في البداية باصطحابها إلى متجر للحيوانات الغريبة حيث ستواجه هناك مجموعة من الثعابين والعناكب. وعلى عكس سلوك معظم الناس في هذا الموقف وعلى الرغم من تأكيدها سابقًا أنها تكره هذه الحيوانات، إلا أنَّها أظهرت اهتمامًا شديدًا بمسك أخطر أنواع الأفاعي والاقتراب منها بشدة دون إظهر أي علامات تجنب أو خوف.
قام فريق من العلماء بإجراء تجربة أخرى بالاتفاق مع بعض الغرباء، وذلك من خلال عمل التجربة داخل بيت رعب كان مُصممًا باحترافية لإثارة الخوف بين الزوار. ولم تظهر على المريضة أي علامات للقلق أو الخوف، بل أنها حاولت أن تتفاعل مع الممثلين الذين كانوا يؤدون دور الوحوش من خلال الاقتراب منهم وحتى لمسهم.
وأخيرًا طلب الباحثون من المريضة مشاهدة مجموعة من مقاطع الأفلام التي تثير خوفًا شديدًا لدى معظم البشر. ومرة أخرى فاجأتهم المريضة بعدم اظهار أي مظهر من مظاهر الخوف. وكان أثر هذه المقاطع عليها فقط هو إثارة فضولها وحماسها في طريقة مماثلة للحماس الذي تشعر به عندما تركب لعبة السكك الحديدية في الملاهي (Roller Coaster). [11]
*الخلاصة أن دراسة هذه المريضة، ومرضى آخرون يعانون من أضرار في اللوزة الدماغية (Amygdala)، أكدت دور اللوزة الدماغية في:
- إثارة اِحساس الخوف والشعور به.
- التعلم من الخبرات السابقة لتجنب المواقف الخطرة.
- القدرة على تفسير وفهم التجارب الاجتماعية المعقدة، وهو ما ينتج عنه أحكام دقيقة عن الأشخاص الذين يمكننا الوثوق بهم.
في النهاية، إن مشاعرنا وعواطفنا على الرغم مما تُبديه من بساطة في ظاهرها، إلا أنَّها معقدة في نشأتها وتكوينها. فما الفرق بينها وبين الأنشطة الدماغية الأخرى؟ وهل سيأتي اليوم الذي نرى فيه أجهزة الذكاء الاصطناعي وقد تميزت بوجود عواطف؟ كل هذا يعتمد على بعد ومدى فهمنا لحقيقتها، ولكن حتى الآن يبقى الإنسان مُميزًا بها عن غيره.
إعداد: أحمد شلبي
مراجعة علمية: Mahmoud Ahmed
مراجعة لُغوية: أمنية أحمد عبد العليم
تصميم: أحمد شلبي
تحرير: أحمد شلبي
المصادر:
(1) Etkin, Amit, Christian Buchel, and James J. Gross. “The Neural Bases of Emotion Regulation.” Nat Rev Neurosci 16, no. 11 (November 2015): 693–700.
(2) Gross, J. J. Handbook of Emotion Regulation 2nd edn (Guilford, 2014)
(3) Mauss, I. B., Levenson, R. W., McCarter, L.,Wilhelm, F. H. & Gross, J. J. The tie that binds? Coherence among emotion experience, behavior, and physiology. Emotion 5, 175–190 (2005).
(4) Rangel, A., Camerer, C. & Montague, P. R. A framework for studying the neurobiology of valuebased decision making. Nat. Rev. Neurosci. 9,545–556 (2008).
(5) Gross, J. J. Emotion regulation: current status and future prospects. Psychol. Inquiry 26, 1–26 (2015).
(6) Ochsner, K. N. in Handbook of Emotion Regulation 2nd edn (ed. Gross, J. J.) 23–42 (Guilford Press,2014).
(7) Friedman, B. H. (2009). Feelings and the body: The Jamesian perspective on autonomic specificity
(8) Reece, J. B., & Campbell, N. A. (2014). Chapter 49: Nervous System. In Campbell biology (10th ed., pp. 1089-1090). Boston: Benjamin Cummings / Pearson.
(9) Purves, D., Augustine, G. J., Fitzpatrik, D., Hall, W. C., LaMantia, A., & White, L. E. (Eds.). (2012). Neuroscience (5th ed.). Sunderland, MA: Sinauer Associates.
(10) Adolphs, R., Tranel, D., Damasio, H. and Damasio, A.R., 1995. Fear and the human amygdala. Journal of Neuroscience, 15(9), pp.5879-5891.
(11) Adolphs, R., Gosselin, F., Buchanan, T.W., Tranel, D., Schyns, P. and Damasio, A.R., 2005. A mechanism for impaired fear recognition after amygdala damage. Nature, 433(7021), pp.68-72.
مصدر الصورة في التصميم: http://sc.egyres.com/bMwKy